الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفتاح ومعصم

راتب شعبو

2019 / 12 / 31
الادب والفن


إلى جهاد نعيسة

تبين لي أن الشيء الذي يلمع في معصم مدرس اللغة العربية الجديد، من تحت كم القميص المفلوت، هو مفتاح يعلقه في معصمه بحلقة مطاطية. تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها هذه الطريقة في حفظ المفتاح من الضياع. لم تكن طريقة أنيقة على أي حال، ولكني سوف أقتبسها سريعاً، ليس فقط لأنها عملية وبسيطة، بل لأنها أيضاً طريقة الاستاذ جهاد الذي رسم أمام طلاب الثاني الثانوي، من الدروس الأولى، ملامح جذابة لشخصية جديدة، كان المفتاح المعلق بحلقة مطاطية في المعصم، أحد عناصرها.
شاب طويل بجسم ممتلئ وشعر عشوائي، يدخل غرفة الصف بنظارتين سميكتين وابتسامة دائمة. يلقي التحية علينا دون تكلف (مرحبا، كيفكم يا شباب)، ويعرف عن نفسه بكلمات سريعة (جهاد نعيسة، مدرسكم الجديد للغة العربية)، ثم يباشر بالدرس ويبدأ برسم ملامحه الخاصة. النحنحة الخفيفة المتكررة، والصوت الذي يبدو أنه يخرج من صدر متعب، ولكنه صوت رنان ومتحمس مع ذلك، حركات لا تهدأ باليدين المغمورتين إلى النصف، بالنهايتين السميكتبن الحرتين لكمي القميص. وبين وحين وحين، تقطع تلك الحركات حركة باليد اليسرى لتثبيت النظارتين، فيما تمسك اليمنى بقلم الطباشير. القوة التي شدت هذه العناصر وأعطتها جمالاً خاصاً وجاذبية هي المعرفة الواسعة التي كان يغدق بها على الصف، مشفوعة بذلك الميل النقدي للكثير مما تحويه دروسنا من أفكار وتقييمات كانت تبدو نهائية.
مع المدرس الجديد، لم تعد النصوص المقررة في الكتب مجرد مواد معقمة ومحفوظة لامتحان الطلاب وتقييمهم. لم تعد نصوصاً معزولة ومقطوعة عما عداها من نصوص غير مدرسية. على يد المدرس الجديد خسر النص المقرر سيادته التي يحوزها لمجرد أنه نص في كتاب مدرسي، وكسب الطلاب مقدرة جديدة على اتهام هذه النصوص ومحاكمتها وانتزاع حرمتها المدرسية. لم تعد عبارة "الأدب الملتزم" مثلاً محصنة وكتيمة على المساءلة. كما خسرت الأحكام الأدبية صفتها السامية ومقبوليتها التلقائية. المدرس الجديد لا يخفي سخريته من تعاريف أو أحكام يقررها النص المدرسي، ولا يتردد في كشف محدودية التعريف وسذاجة الأحكام، وحيث كان يخال الطلاب إنها نهاية كان يفتح لهم طريقاً. لأول مرة يغدو النص المدرسي موضوعاً لشيء آخر غير الامتحان، إنه موضوع معرفي يمكن للطالب أن يكون نداً أو ناقداً له.
في نهاية الدرس كان يفضل جهاد أن يتجه مع الطلاب يميناً إلى الباحة بدلاً من أن يتجه يساراً إلى غرفة المدرسين، وفي الباحة كان كأنه يستعيد ذاته التي في عمرنا (لم يكن كثير البعد عن أعمارنا على أي حال)، فيشاركنا الحديث والنكات والضحك دون أن يكون في حضوره ثقل المدرسين. شجعتني نضاره سلوكه على أن أدعوه مرة، في نهاية الدوام، إلى مرافقتي إلى غرفتي المستأجرة في أطراف المدينة، فاستجاب دون تلكؤ. ولم أجد بي حرجاً من أن أطبخ الوجبة السريعة (البيض مع البندورة) لتكون غداءنا الذي أقبل عليه بشهية مثلي، بعد أن طوى نهايتي كمي قميصه اللتان تبقيان مفلوتتان عادة، فالزر الموجود في نهاية كم القميص لا يعنيه في شيء. وكنت سعيداً حين دعاني إلى بيته المديني العريق الذي يحوي مكتبة ضخمة تشغل معظم جدران البيت. يومها تأملت تلك المكتبة مع شعور غامر بالصغر، شرح لي بصوته الرنان ونحنحته المتكررة، "هذه مكتبة متوارثة، من جدي إلى أبي إلى أخي البكر، المسجون منذ عشر سنوات، ثم إليّ"، فسألته: "هل قرأت أنت كل هذه الكتب؟"، كان مريحاً إلى الحد الذي لم أجد بي حاجة إلى أن أختم سؤالي بكلمة "أستاذ".
لم أشبع من النظر إلى أمه العجوز التي يحمل قلبها ألم فراق ابنها السجين منذ عشر سنوات، كأنني كنت أبحث عن كيف ينعكس هذا الألم على ملامح الوجه، هل كان سيكون وجهها على الهيئة نفسها لولاه. وكانت هي تطيل النظر إلى حلقة المطاط التي تشد مفتاح غرفتي إلى معصمي.
عدت إلى غرفتي يغمرني الشعور بأنني على عتبة العالم الذي أحب، عالم يشبه جهاد، بوجه بشوش وكمي قميص مفلوتتين ومعرفة واسعة، وأن هذا العالم على عتبة الاعتراف بي. عدت واثقاً بنفسي أكثر، ممتلئاً بطموح غامض لذيذ بأنني ذات يوم سوف التهم مكتبة كاملة وسوف أعرف كل شيء وأبحث في كل شيء عن وجه النقص فيه، وسوف أكون دائماً صديقاً لجهاد.
انقطعت عن مدينتي بسبب الدراسة الجامعية وانقطعت عن جهاد. وكان لكائنات أخرى أكثر قدرة، "طموح" واضح تجاه أمثالي، فالتهمني سجن مديد جعلني أرى وجه أمي في وجه تلك الأم الذي حفظته جيداً في ذاكرتي. ثم علمت بعد حين أن سجناً آخر كان يجتهد في التهام عمر جهاد أيضاً، ويحمل تلك الأم ألم فراق ابنها الثاني.
بعد سنوات سجنه الماراتوني علمت أن جهاد استأنف دراسته وحاز على دكتوراه في النقد الأدبي بدرجة تخوله التدريس الفوري في الجامعة، وأن أطروحته عن أدب الروائي السوري حنا مينة باتت مرجعاً. ولم يكن لدي شك في صحة التعليق الذي سمعته عن جلسة الدفاع عن الأطروحة: "كان جهاد متفوقاً على اللجنة نفسها".
في زيارتي لجهاد، بعد أن خرجت من السجن وغرست نفسي مجدداً في المجتمع الذي كان قد التأم جرحه على غيابي، اكتشفت أن لديه أيضاً موهبة الرسم والزخرفة، وقد أحال بيته الجديد إلى متحف صغير، ولكن أهم ما اكتشفته وأسعدني هو أنه لم يخسر شيئاً من ابتسامته ونضارة روحه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-