الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجميلة واللص

محمد أبو قمر

2020 / 1 / 3
الادب والفن


كنت مازلت صبيا لا يشغلني سوي اللعب واللهو مع أقراني ، وكثيرا ماتشاقيت وارتكبت أفعالا حين أتذكرها الآن أتساءل بيني وبين نفسي في دهشة : أأنا ارتكبت هذه الفعلة الشنيعة حقا؟؟!! ، ففي إحدي ليالي عيد الفطر - وكان عمري حينئذ لا يتعدي الإثني عشر عاما – كنت أتنزه في شوارع المدينة مع أصدقائي من صبية الحي ، وكانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل ، وبينما نحن نسير بلا هدي بين شوارع المدينة وحاراتها إذ برجل بسيط يسير أمامنا حاملا عود قصب ، عود واحد والله ، وكان يحمله بيده اليمني من المنتصف ، وبيده اليسري يرفع جلبابه حتي لا يتسخ من الطين إذ كنا في الشتاء والمطر كان قد أغرق المدينة ، ورغم أننا كنّا نحدث جلبة خلفه إلا أنه لم يلتفت إلينا ، أنا أمرت أصدقائي بالهدوء ، ثم تسحبت علي أطراف أصابعي خلف الرجل ، وفجأة قبضت بكلتي يدي علي عود القصب ورحت أجذبه من يد الرجل الذي استدار وراح يسب ويلعن وهو متشبث بكل قوته بالعود ، أخيرا انكسر العود ، الزعزوعة كانت من نصيبه ، أما العود كله فقد حصلت عليه وطرت به بعيدا وطار الأصدقاء خلفي خوفا من بطش الرجل الذي لم يركض خلفنا ، وإنما وقف في مكانه يزعق بكل عزمه : آه ياحرامية ياولاد الكلب ، عندما ابتعدنا عن عينيه تقاسمنا العود ورحنا نمص في سعادة كأننا انتصرنا في معركة ، ثم واصلنا السير مرة أخري ، ودخلنا من حارة إلي حارة أخري حتي وصلنا إلي ميدان جامع المنسوب الذي كانت تتوسطه دورة مياه عمومية ، حين دخلت إلي دورة المياه كي أتبول فوجئت بنفس الرجل الذي خطفت منه عود القصب واقفا يتبول وبجانبه عود قصب آخر من الواضح أنه اشتراه عوضا عن العود المخطوف ، التفت الرجل لي وهو يتبول بعينين مليئتين بالدهشة والحنق والغضب والرغبة العارمة في الانتقام لكن لأنه في حالة تبول فلم يستطع أن يفعل شيئا حيث مددت يدي بسرعة والتقطت عود القصب من جانبه وانطلقت خارجا ، فقط سمعته ونحن نجري وهو يصرخ : آه يا ابن الشياطين ياحرامي يا ابن الكلب .
في اليوم التالي كنّا نلعب مباراة في ميدان الحي بين فريق حيينا وفريق حي الغمري ، وكانت المباراة حامية ، وكالعادة في مثل مباريات التحدي هذه وقف جميع أولاد وبنات الحي علي جانبي الملعب يشجعوننا بحرارة ، أنا كنت أحصل علي النصيب الأكبر من التشجيع والتصفيق لأنني كنت ألعب مدافعا وكنت موفقا إلي حد كبير في إفشال كل هجمات فريق الغمري ومنعهم من الاقتراب من منطقة مرمانا ، من بين الأصوات التي كانت تهتف بإسمي صوت صبية كانت تأجر بكل عزمها : إلعب يامحمد يابطل...برافو عليك ياحماده يالعيب ، عندما خرجت الكرة إلي الآوت رميت بنظري ناحية الصوت فرأيتها ، كانت صبية حلوة ، شعرها بني مربوط علي هيئة ذيل الحصان ، طويلة وملفوفة ومتفجرة رغم صغر سنها ، عيناها الواسعتان مركزتان نحوي كأنها لا تري أحدا غيري في الملعب ، وجهها متوهج يكاد الدم يتفجر منه من شدة حماسها ، كل ذلك لم يشغلني فقد كان كل اهتمامي منصبا علي منع فريق حي الغمري من إحراز هذف في مرمانا ، وقد ضايقني كثيرا دخولها ساحة اللعب أثناء تشجيعها إذ قد يؤدي ذلك إلي إرباكي ومن ثم يتمكن مهاجم فريق الغمري من مراوغتي والتسبب في فضيحة لي ، وبالفعل أثناء قفزي عاليا لصد كرة خطيرة برأسي اصطدمت بها ووقعت فوقها ومرت الكرة سهلة لمهاجمي الخصم فأحرزوا فينا هدفا ، من شدة حنقي صفعتها ، وجهت لها لطمة قوية علي خدها البض الذي كاد أن يحترق من شدة صفعتي ، هي لم تقل شيئا ، وضعت يدها علي خدها ، ثم انحنت في انكسار واستدارت وما لبثت أن اختفت تماما .
بعد انتهاء المباراة إلتف حولي زملائي في الفريق وكثير من البنات والصبية من أبناء الحي ، لاموني جميعهم علي ما فعلته مع هذه البنت ، ووبختني البنت فاطمة وهي تقول لي : بتضرب البت إللي بتحبك وبتموت فيك وبتيجي تتفرج عليك في كل الماتشات ؟! ، أما البنت فكرية فقد دفعتني في صدري وهي تقول لي : إتشليت في إيدك .... إنت ماتستهلش إنها تحبك ، جميع البنات شتموني وهم يخبرونني أنني قد ضربت البنت التي تموت حبا في دباديبي ، وجميع الأولاد لاموني علي صفعي لها.
ذهبت إلي البيت مهموما يملأني الشعور بأنني ارتكبت خطيئة لا أعرف كيف أتخلص من وطأتها ، ظللت أفكر كيف أمحو هذا الذنب الذي أغضب جميع الأصدقاء ، في الليل لم أنم ، طار النوم من عيني ورحت أتقلب وامتلأت رأسي بالهواجس ، تُري ما الذي يدور في ذهن هذه الجميلة عني الآن ، هل ستظل تحبني ، ربما تغيرت صورتي في ذهنها الآن ، وربما تقول لنفسها الآن إنني غبي ومتوحش وهمجي وقد لا تكرهني فقط وإنما قد تتمني أن أنهزم في كل مباراة وأن ينجح العيال في مراوغتي ويحرزون الأهداف وتنتشر فضائحي علي ألسنة جميع لاعبي فرق الأحياء كلها في المدينة ، وقد لا يقبل فريق الحي ضمي إليه بعد ذلك بسبب تصرفي العنيف مع بنت لطيفة كل ذنبها أنها أحبتني .
وفي الثالثة بعد منتصف الليل ولكي أتخلص من كل هواجسي رفست الغطاء ونزلت من سريري وتسحبت علي أطراف أصابعي حتي لا يشعر بي أبي وتكون مصيبتي مصيبتين ثم خرجت من البيت متجها إلي بيت الجميلة التي عرفت من العيال أنها تعيش مع أمها بعد وفاة والدها ، كان الظلام حالكا في الحارة ، وكان البيت هو آخر بيت علي اليمين ، مع كل دقة أدقها علي الباب كان شباك أحد البيوت في الحارة ينفتح ، كنت متأكدا استحالة أن يتعرف عليّ أحد في هذه الظلمة الداكنة ، بعد عديد من الدقات انفتح باب الدار ، كانت هي التي فتحت وكانت تحمل بيدها لمبة جاز نمرة خمسة لكي تتعرف بواسطة ضوئها علي من هو الذي يدق باب الدار في ساعة متأخرة هكذا ، أنا لم أنتظر أن تقول هي أي كلمة فقد جئت لكي أكفر عما ارتكبته في حقها ، هجمت عليها واحتضنتها بكل قوتي ورحت أقبلها في وجهها وعنقها وكتفها وأنا أقول لها سامحيني أنا غلطان ...والنبي تسامحيني وإوعي تكرهيني ...يارب إيدي إللي ضربتك تتقطع ...افضلي حبيني زي ما انتي والنبي، كانت اللمبة قد سقطت من يدها وهي تحاول مقاومتي ومنعي من مواصلة تقبيلها بينما أنا ابوس بكل إخلاص وكأنني أحاول شفط خديها . فجأة انفتحت أبواب جميع بيوت الحارة ، وانتبهت أنا علي قولها لي : إجري ..إهرب ...أهل الحارة هايموتوك يامجنون ، انطلقت هاربا بأقصي ما لدي من سرعة بينما جميع رجال الحي يركضون خلفي بالعصي والشوم .....إمسك حرامي ....هانجيبك ياحرامي ياابن الحرامية.
استيقظ أبي علي وقع دخولي مندفعا ومرعوبا إلي الدار ، وحينما خرج إلي الشارع ليعرف لماذا يريد الناس اقتحام بيتنا سمعتهم يقولون له إبنك هجم علي بيت الولية الغلبانة أم شادية ونزل فيها بوس وأحضان ، وحين أراد أبي أن يعاقبني أخبرته بالحقيقة ، قلت له إنني كنت أُقبّل شادية لكي تسامحني ، سألني أبي : وهل سامحتك يا ابن الكلب؟ ، أخبرته أنها سامحتني وأنها هي التي انقذتني من بطش أهل الحارة ، لم يعاقبني أبي ، وصارت شادية تشجعني في كل مباراة : إلعب يالعيب!!!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق