الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن رواية سرير المشتاق لفاروق وادي

محمود شقير

2020 / 1 / 6
الادب والفن


لعلّ مقارنة بين سرير بيروت كما تحدّث عنه فاروق وادي في ذيل روايته وبين سرير الرواية أن تكشف بوضوح ما يفعله خيال الكاتب المتمرّس حين يتناول بعض تفاصيل الواقع الخام ويحوّلها إلى نصّ إبداعي.
في رواية "سرير المشتاق" يتأسطر السرير بفعل الخيال المحلّق، وتصبح له صفات غير الصفات المألوفة للأسرّة، ويتحوّل إلى بطل فعلي للرواية، منه ومن حوله وعنه تتناسل وتتوالد الأحداث على نحو ممتع شائق، لنجد أنفسنا أمام نصّ مختلف يتحدّث باللمح الشفاف عن القضيّة الفلسطينية، ويصف القمع السياسي والمجتمعي في المجتمعات العربية انطلاقًا من العلاقة بالسرير وبالعودة إليه بين الحين والآخر.
غسان؛ الذي يتقاسم بطولة الرواية مع السرير، يتذكّر ما روته له أمّه عن طفولته حين هُجّر مع عائلته إبّان كارثة 1948 ما اضطرّ الأمّ إلى استخدام "الباطية" لكي تُضجعه فيها أثناء رحلة الشتات واللجوء، وحين كبر في المنفى القسري وسافر إلى بيروت بحثًا عن فتاة أحبّها اسمها نشوى، شاهد السرير الأبيض في شقّة يقيم فيها صديقه آدم مع شخص آخر اسمه عطا، وتمنّى أن ينام ولو ليلة واحدة في هذا السرير الذي تقلّبت أحواله تبعًا لتقلّب الظروف والأزمان.
أمضى غسّان سنوات وهو يبحث عن السرير الأبيض الفسيح من دون أن يظفر بإشباع رغبته. هنا يستحيل السرير بالمقارنة مع الباطية التي كانت من نصيب غسان في طفولته رمزًا للاستقرار الذي يصبو إليه كلّ فلسطيني، لكنّه لا يظفر به وهو بعيد من وطنه.
يتناسل السرد في هذه الرواية على نحو ممتع شائق بلغة شاعرية جميلة، قادرة على تجسيد المواقف والرؤى والخلجات النفسية والانفعالات والرغبات، مع إشارات أدبية وفكرية تثري النص، ومع قفشات ظريفة ساخرة تتخلل السرد المطعم بإحالات صريحة إلى كتب بذاتها، وأخرى غير صريحة عبر التلميح المستحب، ومثال ذلك الحديث عن هزيمة المقاومة التي ازداد قمرها حزنًا على حزن، وفي ذلك إشارة إلى ديوان الشاعر عز الدين المناصرة الموسوم ب "قمر جرش كان حزينًا".
يقود البحث عن الاستقرار بطل الرواية إلى الرحلة الطويلة الشاقة عبر الصحراء في الطقس البارد جدًا في صندوق مكشوف لسيارة هرمة مع مسافرين آخرين من عمّان إلى بغداد، ومن هناك إلى الكويت أو إلى دمشق ومنها إلى بيروت. ثمّة هنا تذكير برحلة أبطال غسان كنفاني الذين ماتوا في صهريج تحت لفح الشمس الحارقة على الحدود في الطريق إلى الكويت بحثًا عن خلاص.
تتجسّد من خلال رحلة غسّان، بطل سرير المشتاق عبر الحدود العربية مأساة المواطن الفلسطيني بخاصة والعربي بعامّة، حيث الإهانات والإذلال وتعطيل الرحلة أو تأخيرها لأتفه الأسباب.
ولا تقف الرواية عند هذا الحد، فثمّة فضح مشخّص لقمع الأنظمة حين يُسجن أفراد الخليّة التي انضمّ إليها غسّان في بيروت سعيًا منه للقاء نشوى التي أصبح اسمها الحزبي في تلك الخليّة: نهاية.
نحن هنا أمام امرأة فلسطينية ولدت في المنفى وعاشت فيه بعيدًا من قريتها القريبة من رام الله المحتلّة، وهي موصوفة بدقّة وبنوع من الإجلال الذي جعلها امرأة متفرّدة ولها أفكار متحرّرة جرّاء انتمائها لفكر اليسار.
غير أن نهاية كسرت حين بادر جهاز الأمن اللبناني إلى إلقاء القبض على الخليّة السريّة قبل أن تقوم بأي عمليّة مسلحة ضد المحتلين الإسرائيليين انطلاقًا من الجنوب اللبناني. بدأت عملية الاعتقال ببدر، زوج نهاية الذي خبأ السلاح في بيته، ثم اعتقل بقية أعضاء الخلية نتيجة اعتراف بدر تحت التعذيب. الوحيدة التي نجت من الاعتقال هي نهاية التي لم يرقها تخاذل زوجها.
وكانت نتيجة ذلك اهتزاز قناعات عدد من أعضاء الخليّة، وتحوّلهم من النقيض إلى النقيض، وهو الأمر الذي وقع في نهايات القرن العشرين جرّاء الانهيارات التي وقعت في الجبهة المعادية للإمبريالية والصهيونية، ما دفع كثيرين من منتسبي التنظيمات السياسية الوطنية واليسارية إلى التنكّر لقناعاتهم السابقة تحت هذه الحجة أو تلك، والانصراف إلى متابعة شؤون حياتهم الخاصّة بعيدًا من السياسة وهمومها.
وقد تردّت علاقة نهاية بزوجها بدر جراء موقفه المتخاذل أثناء التحقيق معه، فلم تعد معنيّة به بعد خروجه من السجن وحتى موته الذي لم يأبه له أحد، ثم حاولت الاعتذار من بقيّة أعضاء الخليّة الذين تفرّقوا كلٌّ في بلد. زارتهم واحدًا بعد الآخر واعتذرت منهم جرّاء ما اقترفه زوجها بحقهم. جسّد السرد الروائي كل ذلك ببراعة واقتدار.
وظل غسان يكنّ الحب الصادق لنهاية، وحين جاء إلى بيروت المتورّطة في حرب أهليّة فادحة لم يعثر عليها، وقد استمع إلى أقاويل متضاربة بشأنها وحول مصيرها، فلم يواصل بحثه عنها.
أما السرير الذي تعلّق به غسان، وتناسلت منه أحداث ومشاعر ورؤى وعلاقات فقد انتهى به الأمر في سيريلانكا، حين أبحرت به الخادمة التي كانت تعمل في بيت الضابط من بيروت إلى بلادها، بعد أن نامت ليلة عليه ولم تستطع التخلي عنه. هناك في سيريلانكا حلّ غضب الطبيعة على الخادمة وشعبها في شكل تسونامي مدمّر، جعل السرير الأبيض يطفو على وجه المياه في رحلة ظنّها غسان وهو يراه على شاشة التلفاز، بحثًا عن موطنه الأصلي في بلد ما، في غابة ما، وكان قصد الروائي من ذلك فيما أظن: أنّ عالمنا مترابط لا انفكاك لجزء منه عن بقيّة الأجزاء.
وهنا تنتهي الرواية نهاية محكمة حين يتذكّر غسان ما روته له أمّه عن طفولته في الباطية، فيزداد تصميمًا على العودة إلى موطنه الأول شأنه في ذلك شأن ذلك السرير الذي لم يستقر في أي بلد بعيدًا من موطنه.
رواية جميلة مختلفة.
كل التقدير للروائي الفلسطيني المتميّز فاروق وادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله