الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات جدتي بين النص المحلي المخبوء والنص المعلن.

كامل الدلفي

2020 / 1 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


حكت لي جدتي المؤمنة يرحمها الله قالت :
(كان الخيالة يأتون إلى بيتنا في قرية الرعاش من بعد 30أو 40 كيلو مترا من قرى ونواحي وقصبات الميمونة يحملون المكتوب( رسالة) الوارد إليهم ليقرأه لهم جدك أو ابوك أو انا إن لم يكّنا حاضرين. وكنت اقرأه لهم من خلف ساتر القصب) .
ان زمان هذا الحدث يمتد من حوالي العام 1935م فصاعدا. إذ بدأ الشباب الريفي يتطوعون في الجيش.. أو يُرسلون إلى الخدمة الإجبارية.. ونشطت الرسائل في الحروب خاصة في حركة مايس1941 وحرب فلسطين1948 والعدوان على مصر 1956.. وخفّت حركة الوافدين إلى منزلنا لقراءة مكاتيب المرسلين بعد أن انتشرت مراكز التعليم الملائي في القرى.. و التحاق كثير من أبناء الفلاحين إلى تلك المراكز ومن مسافات بعيدة، فقد كانت جدتنا يرحمها الله قد باشرت بتعليم الاولاد والبنات لأكثر من عقدين. و تعلم خلق كثير قراءة الحروف على يديها.
و جئنا إلى بغداد ولم تختف ظاهرة مجيء الناس إلى بيتنا بغرض قراءة الرسائل و قد كان الدور فيها لوالدي بعد أن كبر الجد والجدة، وكان على الأكثر يكتب لهم رسائلا إلى أبنائهم أو إخوانهم بخط جميل و بديباجة ثابتة أو متغيرة بحسب الضرورة وقد نشطت الظاهرة في بيتنا في الستينيات إبان حرب الشمال و السبعينيات في حرب أكتوبر 1973..
وقد دخلتُ إلى سياق اللعبة مبكرا و اعتنيتُ بخطي كثيرا وكان الوالد يشجع انغماسي فيها.
ودخلت أغراضٌ أخرى في كتابة النصوص على يد والدي تتعلق بالشأن القبلي والتجاري والأحوال .. في المستوى القبلي هناك كتابة السواني(سنائن العرف) وكتابة المخالصات و الاحلاف وملخصات الفصول و مشجرات النسب وفي التجارة العقود و المشاركات و الكمبيالات وايجار البيوت و مكاتبات الديون وفي الأحوال عقود الزواج والطلاق و النشوز والوصايا و العرائض لمختلف دوائر الدولة خاصة النفوس والجنسية والأحوال الشرعية . وتسجيل تواريخ الوفيات و المواليد لأفراد العائلة والمقربين.. وكان اغلب الجيران حين يولد مولود لهم يأتون إلى والدنا ليمنحه إسماً من القرآن الكريم.
وخفت الظاهرة كثيرا في الثمانينيات سيما في حرب الثمان سنوات مع إيران بسبب تقدم وتوسع دائرة التعليم. و انحصرت على كتابة الرسائل لأبناء العائلة الملتحقين في الخدمة العسكرية و في جبهات الحرب..
احتفظ ب 6 رسائل بخط والدي للفترة بين 1980/1982
تصور بهاء عواطفه ورقة مفرداته وقوة عبارته وجمال خطه.
أكاد أجزم بأن النص المحلي انطوى على صدق هائل ودقة في التصوير ونقل الواقع وامتلاك حشمة هائلة وعواطف إنسانية كهائلة .. وكان العمل والجهد المبذول هو قربة إلى الله وبغرض تقديم الخدمات الإنسانية إلى محتاجيها.
لم تكن عائلتنا فريدة في هذا السياق بل هي نموذج لحالة أعم لعبتها الشرائح المتعلمة دينيا أو مدرسيا في مرحلة من تاريخ العراق وكانت ترى أن ذلك تكليف ضميري لا مناص من تنفيذه.
اقارن هذا الموروث الباذخ إزاء ما تهيأ لنا من إمكانيات هائلة في انتشار النص وبإمكان اي نص مجاني تكتبه على وسائل السوشيال ميديا أن يبلغ تخوم الصين أو جاوه أو الازتيك
لكنه نص مفارق لمحتوى النص الأسبق ولا يقارن به.. في الأعم تجد انه مشبع بالانانية والمقايضة وحب الإعجاب ولربما يحمل في طياته الفتنة و اللا وطنية واللا إنسانية وقلة ادب مباحة.
هل ذلك يحدث:
لأن الأخلاق العامة تراجعت.
أم أن برامج عالمية تتطلب ذلك
ام ان موجة من فردانية رثة غلبت طباع المدونين.
ام غياب دور طبقة الانتلجنسيا إلتي حكمت الأدوار السابقة
ام أسباب أخرى وأخرى؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء