الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة الوهم والقدسية والشيطان...6

حكمت حمزة

2020 / 1 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تبقى البذرة الأساسية التي نمّت فكرة الأديان والآلهة، والنقطة الأساسية التي تشترك فيها كل الأفكار الدينية، صعبة الفهم حتى هذه اللحظة، ولا زلنا غير قادرين على إدراك كافة تفصيلاتها وجوانبها، ولكن الشيء الذي نستطيع أن نلمسه ونتحسسه، إذا ما اطلعنا على تاريخ الأديان منذ بداياتها وحتى شكله الحالي، هو كمية المساهمة البشرية في هذا المجال، وإلى أي مدى أثر التراث والفكر البشريين، على هذه الفكرة بتشعباتها وخطوطها العريضة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لم يكن الوعي البشري في هذه السوية، أيام الانسان الأول؟ مع الأخذ بعين الاعتبار طبعا، الرواية الدينية التي تتحدث عن خلق الإله للإنسان الأول، واستخلافه في الأرض؟ من غير المنطقي أن نجد سلوك الإله وتصرفاته وتعاليمه، تحاول أن تتماشى مع المستوى العقلي والوعي الاجتماعي لدى الانسان، ولا تتحدث إلا عن أشياء، كان الانسان في ذلك الوقت قادرا على استيعابها وتفهمها، إما بشكل مباشر، أو بالتقريب والقياس على أشياء حدثت وتحدث في حياته. قد يقول قائل أن هذا الكلام غير صحيح أو دقيق، ففكرة الإله والخلق ونشأة الحياة والدين، هي أشياء طارئة حادثة على الفكر الإنساني، و تفاصيلها قد تفوق العقل، وأقول هنا: صحيح أن فكرة الإله والماورائيات والخوارق، هي خارج حدود العقل البشري، لكن طبيعة الانسان وطبيعة الحياة في تلك الفترة، كانت تستوجب وضع فرضيات مثل هذه، لخلق نوع من الاطمئنان النفسي عنده، وليريح عقله من البحث عن تفسير حقيقي للوسط المحيط، والظواهر التي كان يشاهدها. وإذا قيل أنه شيء طبيعي أن يراعي الإله مستوى الوعي والفكر البشري، كي يكون الناس قادرين على هضم الأفكار وتقبلها، أقول: نحن اليوم في القرن الحادي والعشرين، والتطور والتكنولوجيا وصلت إلى مرحلة متقدمة جدا يمكن وصفها بالمخيفة، ولا زلنا لا ندري بعد ما يخبئه لنا المستقبل من تطورات أكثر، والأجدر بالإله الذي كان يراعي وعي وتفكير الانسان الأول، أن يؤجل الأنبياء من تلك العصور السحيقة، إلى يومنا هذا، فنحن اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى التشكيك والابتعاد عن الفرضية القائلة بوجود الإله وتواصله مع البشر، ومع الفرق الشاسع في مستوى التفكير والحياة بين سكان شطري العالم، الشرقي والغربي، بتنا اليوم بأمس الحاجة إلى تدخل إلهي نبوي رسولي، يعيد الأمور إلى نصابها والعقول إلى رشدها.
بدأ الاقتران بين السلطة الدنيوية والإله، منذ قديم الزمن، ويمكننا أن نرى هذا الأمر متجسدا منذ أيام البابليين، حيث كان الملك البابلي يمثل سلطة الإله في الأرض، أو ربما الإله نفسه، كذلك نلاحظ هذا الأمر موجودا عند الفراعنة، إذ يمكن تشبيه الفرعون عندهم، بأنه ظل الإله على الأرض، والحاكم باسمه وشريعته وقوانينه، وكان محاطا بمجموعة من الكهنة والعرافين، هؤلاء الذين شكلوا النواة الأساسية التي انبثقت عنها فكرة الأنبياء والمرسلين والمختارين، وتطورت عبر الزمن إلى الحالة التي يعرفها الجميع.
تدرجت قضية الإله منذ القدم بين التعدد والوحدانية، بين وجود إله أكبر يترأس مجموعة من الآلهة الأقل قدرة وشأنا، يدير عبرهم الكون وأجزاءه وتفاصيله، إلى الإله الوحيد الأوحد، الذي بيده مقاليد كل شيء، وكافة مفاتيح التحكم بالكون والحياة، ومن ناحية أخرى ترنحت قضية الأديان، بين الدعوة إلى إله معين ونبذ الباقين، إلى اعتبار أن كل الآلهة كاذبون ومزيفون ولا وجود لهم باستثناء الإله الذي يدعو له هذا النبي أو ذاك. نتيجة تشتت فكر أفراد المجتمعات البشرية، وترنحهم بين ذاك الإله، وإله آخر، كان لا بد من التحول من التعددية الإلهية، إلى الوحدانية، لكي يسهل الأمر على الناس، وكون التعامل والتعاطي مع طرف واحد وكيان واحد، أسهل وأكثر عقلانية، وضرورة يقتضيها العقل البشري في مرحلة تعتبر نقلة نوعية في مستوى التفكير والوعي لديه.
ربما كانت الأديان مرحلة مهمة في وقتها، إلا أن اقترانها بالسياسة والتسلط والحكم، كان بداية النهاية بالنسبة لها، تلك النهاية التي استمرت طويلا قبل ان نشهد نهاية بعضها، ونستشعر احتضار بعضها الآخر، إذ لم تلبث الأديان وقتا طويلا حتى بدأت بذور الطائفية والمذهبية بالنمو، ونمت الأخاديد وتوسعت بشكل متسارع بين مختلف فئات المؤمنين بها، فصار كل طرف يجذب الحق إلى جانبه ويتبناه، وأصبح الدين ديكتاتورا تتسابق عدة أطراف إليه، بين مؤيد وإصلاحي ومعارض، وكل طرف يطرح وجهة نظره وفهمه للآخرين، على أنه الوجه الصحيح لهذا الفكر الديني، و كانت أكثر الأديان تباينا في مذاهبها، ووضوحا في صراعاتها وتصارعها، هي الأديان التي استثمرت في مجال السلطة، وهذا ما لاحظناه بشكل واضح في التاريخ المسيحي، بعد تبني الامبراطور الروماني للديانة المسيحية، وبعده في التاريخ الإسلامي، حيث ابتدأت بذور الطائفية من سقيفة بني ساعدة التي نتج عنها فوز ابن ابي قحافة بالخلافة، واقصاء كل معارضيه الأخرين الطامعين بالحكم.
منذ تلك الأيام، نشأت علاقة قوية جدا ربطت الحكم بالدين، وكان لرجال الدين سلطة قوية على ملوك أوربا، بغاية المنفعة المتبادلة، وتسخير الدين في خدمة أهداف وغايات الملوك والاباطرة، إلى أن أتت الصحوة الأوربية، ونفضت غبار الماضي عن كاهلها، واستقامت واستقبلت الحياة بصدر رحب.
أما المسلمون، فلا زال ذهنهم عالقا بتلك الأيام، أيام الخلافة والقوة، والكثير منهم يسعى إلى عودة تلك الأيام، ظنا منهم أن كنوز المجد والعلا لن تفتح لهم، إلا إذا أعادوها سيرتها الأولى، وأن الدين هو سر القوة التي تمتعت بها الدول الإسلامية على خلاف مسمياتها، إلا أن كل ذلك غير صحيح، لأننا لو نظرنا بعقلانية ومنطقية، إلى وضع الامبراطوريات تلك، سنجد أنها بالدين أو بدونه، كانت تملك مفاتيح وشروط البقاء والازدهار، ولم يحدث كل ذلك بين ليلة وضحاها، فالإمبراطورية الرومانية بكافة تدرجاتها ومسمياتها وأجزاءها، كانت تمتلك القوة قبل الدين المسيحي وبعده، ولم يضف تبني المسيحية من قبل الامبراطور، أي معنى يذكر، أما بالنسبة للمسلمين، فهم أيضا لم يناموا على حال فقر، ويصحوا على امبراطورية ضخمة، بل احتاجوا إلى عشرات بل مئات السنين، ليصبحوا بهذه القوة والعظمة التي تذكرها لنا كتب التاريخ، إضافة إلى أن حضارة المسلمين قامت على أنقاض الحضارات الأخرى، ولم يكن تقدمهم إلا نتيجة طبيعية للمعطيات التي وضعوا يدهم عليها عند احتلالهم للبلدان الأخرى، وكان للإجرام والترهيب أيضا دور كبير فيما وصلوا إليه. أريد أن أقول أن الدين ليس له علاقة بالقوة أو التطور أو الحضارة، بل ما حدث عبر التاريخ، وللجميع أيضا، بأن ما كان لديهم من مقومات، كافٍ كي يحدث كل ما حدث في ذاك الوقت، ولم يحدث شيء إعجازي أو خارق في كل ذلك، وأكبر دليل على ذلك هو امبراطورية الاسكندر المقدوني، والامبراطورية الفارسية، والمغولية، كلها نشأت ونمت وقويت وتمددت وسيطرت، بفضل المقومات التي كانت لديها لا بفضل معتقداتها.
في العصر الحديث، رأت الدول المتقدمة حاليا، وبفضل المفكرين والمتنورين لديهم، أن قضية استثمار الدين أصبحت ذات أضرار كثيرة، وأنها أصبحت عديمة الفائدة، وأن ركب الحياة والحضارة أصبح بحاجة إلى قراءة أخرى، ومعطيات أخرى أكثر تطورا وانفتاحا، وأن الأديان أتمت مهمتها على أكمل وجه، وانتهت، ولا بد من استحضار البديل الفعال، ألا وهو العقل البشري، الذي يعد المرجع والفيصل، والخصم والحكم في كل شيء، فبدأت عجلة العلمانية، وبدأ الدين شيئا فشيئا يعود إلى مكانه الطبيعي، وفهم الناس أخيرا أن للأديان حدودا لا تستطيع أن تتجاوزها، وأن أدوات المعرفة إن بقيت أسيرة للدين ورجاله، فإنها ستبلى وتصدأ، عندها بدأت عجلة الحضارة بالتسارع شيئا فشيئا، وبدأت الشمس تسطع، وتقضي على الظلام شيئا فشيئا. أما العالم الإسلامي، فلا زال رهين القرن السابع الميلادي، ودخل في حالة سبات معرفي لا ندري متى سيخرج منها.
النقطة الملفتة للنظر، هي بقاء سلطة الدين على المجتمع ودوائر الحكم، في أوج قوتها وازدهارها في دول العالم الثالث عموما، والاقتران الدائم لمستوى الجهل والتخلف بمدى انتشار وسلطة الدين ورجاله، لم يأت من فراغ، وليس محطة عابرة نلتفت إليها ثم نجتازها دون أن نتوقف عندها، خاصة في التاريخ المعاصر والعصر الحديث، بعد الثورة الصناعية والرقمية وثورة الاتصالات، دائما ما نجد السلطة الدينية، بشكليها الحكومي وغير الحكومي، حاضرة وبقوة لا مثيل لها في المجتمعات المتخلفة معرفيا، وكأنما الموضوع لعبة رمي القطعة المعدنية، فهي بوجهين، إما النسر وإما الكتابة، و إن أردنا الانصاف بشكل أكبر، يمكن أن نوسع المفاهيم والنطاقات، ليصبح النزاع ليس فقط بين الدين والحداثة، بل بين الاستبداد بكافة اشكاله، مقابل الحدثة التي تعنى بحرية الفرد وحقوق الانسان، لأن الاستبداد لم يتوقف على الدين فقط، بل تعداه إلى كافة الأنظمة الشمولية المؤدلجة، التي تحكم هذه الدول والمجتمعات، مثل الشيوعية الماركسية والنازية، التي تمتلك أيديولوجيا لا تقل تسلطا عن الأديان، أو النظام الحاكم في كوريا الشمالية، التي تقوم على أساس تمجيد العائلة الحاكمة. يمكن أن نلاحظ وجود شيء مشترك بين كل هذه الأنظمة الشمولية، الأديان، والشيوعية واخواتها، ونظام كوريا الشمالية وأشباهه، جميعها تشترك في شيء واحد جوهري، ألا وهو القدسية، هذه القدسية التي تعتبر أحد أهم وأكبر أسرار التخلف البشري، والاداة الأقوى بيد الاستبداد والتسلط، ولكن ما الذي تفعله القدسية لتكون بهذه الأهمية؟
القدسية هي ذاك الجدار العالي جدا، الذي ينصب بين الانسان والحداثة، فما تفعله القدسية هو كبت العقل البشري، وحصره في نطاق ضيق جدا. أولى ضحايا القدسية هي الحس النقدي، إذ أنها تقتل كل شيء يسمى النقد داخل الانسان، وبإسقاط صفة القدسية على الكثير من الأمور، من قبل رجال الدين والسطات الحاكمة، يفقد الانسان القدرة على المناورة الفكرية، ويصبح مسيّرا في مسارات محددة مرسومة مسبقا، وغير قادر على الخروج عنها، بالإضافة إلى أنها تنمي داخله الشعور بالرضوخ والانكسار، وتكبت داخله كل رغبة بالحرية والتحرر، وتصنع له خطوط حمراء كثيرة، وتنسج حوله قفصا وهميا من المحرمات والممنوعات، التي تجعل من حياته عبارة عن بضعة تفاصيل، لا تتجاوز غرائزه في الطعام والشراب والتزاوج، وينخفض سقف الأحلام من الإبداع إلى الإشباع، إلى أن تصل بالإنسان إلى مرحلة تجعله فيها منوما مغناطيسيا، يمشي غلى سجنه دون أن يدري، ويلبس نفسه القيود بنفسه، وهذه تعد أكبر وأجل خدمة تقدمها القدسية للطغاة ورجال الدين، لأنها تنتج لهم ضحية جاهزة للافتراس، لا حاجة للجري وراءها، فيأكلونها بكل دم بارد، دون أن يخافوا أي ضربة غدر تأتيهم على حين غرة، المنظومات الفكرية المقدسة مسبقة الصنع، كفيلة بحمايتهم، ويبقى أمامهم أولئك الذين آثروا أن يحطموا القدسية، ويتجاوزوها، ولم يرهبهم علو جدرانها، أو متاعب تسلقها، حينها ترى الاستبداديين يستشعرون الخطر، ويرعدون ويزبدون، وتبدأ الهجمة الشرسة المسعورة على كل من سولت له نفسه كسر هذه التابوهات الوهمية، هنا حيث يقومون برفع جدران القدسية إلى مستوى آخر مختلف، مستوى أكثر ارتفاعا ...هناك في ذاك الارتفاع الشاهق...حيث ولدت نظرية المؤامرة...
.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و