الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من قتل رياض البكري ومن جرّ على العراق كل هذا الخراب (1)

محمد يعقوب الهنداوي

2020 / 1 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


هل: "... قصف النظام البعثي القاعدة التي كان رياض البكري يقاتل فيها"...

سأجيب على هذا السؤال باستفاضة بعض الشيء لأن رياض البكري كان نصفي الآخر، ولأن تجربته جرى طمسها بتعمد ولؤم شديدين من أولئك الذي قتلوه أو تآمروا على قتله أو تواطأوا مع الجريمة ولا زالوا يدارون عبثا مشاعر الذنب فيهم ... فهم لم يقتلوا في رياض محض عراقي جميل عاشق لبلاده ولا مناضلا شيوعياً أبيّا فقط، بل قتلوا أحد أجمل أحلام العراق وأطفأوا بعضا من أحلى شموعه وشموس فجره الموعود...

كنت أنا أقرب الناس اليه وكنا نعيش معا في تلك الفترة في دار صغيرة مستأجرة في مخيم فلسطين بدمشق. وكنت أنا من استقبل أباه وأخته وطفلتها حين جاءا آنذاك الى الشام لزيارته، وكانت محض تلك الزيارة كفيلة بتعريضهما، وكل العائلة، للملاحقات والاعتقال والتعذيب والموت.

كنا نتشارك جوعنا وفاقتنا وبؤسنا وهمومنا وآمالنا المستحيلة كما تشاركنا في قراءاتنا وكتاباتنا والمقالات والدراسات التي ألفناها وطبعناها معا في جريدة "وحدة القاعدة" أو في نشرة "الكادر الشيوعي" الداخلية التي كنت أخط حروفها بيدي حرفا حرفا.

لا أحسد رياض على نهايته البطولية التي لم أكن محظوظا لأنالها رغم كثرة المناسبات، لأنه حين غاب فارق الكثيرين من الأحبة الذين خسروه وربيعه لم يكد يتفتح.

لم يكن رياض البكري محض شاعر كبير وثائر عظيم عشق العراق بفقرائه ومظلوميه وكره الجور والفساد والغدر والخيانة فقتلوه... لكنهم قتلوا رياضاً وهو في ألق شاعريته وعنفوان ثوريته وزهرة شبابه في اواسط العشرين من عمره وكان قد أرسى أسس ابداعه المتميز واختط دربه الثوري الذي سيموت دونه عن قريب غير آبه بأية صعاب أو جبروت أعداء مهما كانوا بما فيهم قوى الرأسمالية العالمية وأدواتها ودماها...

الحقيقة أن رياض ومفرزته الثورية الجوّالة في كردستان لم يُقصفوا من قبل النظام البعثي الذي كان يطاردهم على الدوام بأعتى وأحدث الأسلحة الفتاكة، فهذا كله كان متوقعا و"عاديا" بالنسبة لهم لأن البعث كان عدوهم الصريح وكانوا ثائرين على سطوته وجيروته وناره وحديده يقاتلونه بأيديهم شبه العارية وبقلوبهم العاشقة وتطلعاتهم النبيلة وايمانهم بحتمية بزوغ فجر الانسانية والمساواة....

بل ولم تكن هناك "قاعدة" أصلا لأن رياض ومجموعته كانوا يتجولون كمجموعات صغيرة تطوف القرى فيما تلاحقهم الطائرات والهيلكوبترات المجهزة بأحدث تقنيات القتل في أصعب الظروف التي شهدتها الحركة الثورية المسلحة في كردستان عبر تاريخها وأكثرها تعقيدا، والتي لم تكن تسمح بوجود أية قاعدة أو حتى مجرد "مقر" ثابت، وفيما يلي بعض تفاصيل تلك الظروف:

1- قام رياض ومجموعته الثورية بتشكيل مفارز مسلحة متنقلة في كردستان في أعقاب الصفقة الشهيرة (اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975) بين حكومة ايران والحكومة العراقية، والتي سلّم فيها نظام صدام/ البكر البعثي كل شيء أمكنه تسليمه لشاه ايران، بما في ذلك شط العرب وبقاع شاسعة من الأراضي العراقية.

ويومها ركع صدام التكريتي على ركبتيه أمام الشاه في الجزائر العاصمة وقبّل يديه بمباركة وترتيب مسبق من الرئيس الجزائري آنذاك (هواري بومدين)، مقابل الحصول على رضى الشاه وموافقته على إنهاء الحركة المسلحة في كردستان والتي كانت تعيش حالة اعتماد مطلق على دعم ايران التي كانت تستوعب آنذاك أكثر من مليوني لاجيء كردي عراقي في مخيمات اللاجئين الضخمة التي اقامتها في عدد من المدن الابرانية، من بينها سنندج ومريوان ومهاباد وكرمانشاه وشنو ونغدة وصولا الى كرج قرب طهران.

وكانت غاية شاه ايران من كل ذلك الدعم هي الإمساك المحكم بعنق الحركة المسلحة الكردية التي أصبحت تابعة كليا لنظامه وأجهزة مخابراته التي تتحكم بها.

• نشرت الصحف والمجلات العربية آنذاك صورا عن هذه اللقطات التاريخية حين ركع صدام التكريتي على ركبتيه أمام الشاه في الجزائر العاصمة وقبّل يديه، لكن البعثيين دفعوا (فيما بعد) مبالغ طائلة لتلك المؤسسات الصحفية لإزالة تلك الصور من أرشيفاتها، لكني لا أستبعد أنه لا يزال البعض يمتلك نسخا منها الى اليوم، على الأقل في ارشيفات "بعض" وسائل الاعلام الغربية التي لم يفلح البعثيون في شراء ذممها بالكامل.

2- كانت مفرزة الشهيد رياض البكري الشيوعية هي أول تحرك مسلح ضد البعثيين في كردستان العراق في أعقاب تلك الاتفاقية واستسلام بيت البارزاني كليا وسرقتهم مئات ملايين الدولارات والهرب بها الى أمريكا حيث مات مصطفى البارزاني هناك، وذلك قبل أن يستلم ادريس البارزاني وأخوه مسعود أوامر المخابرات الأمريكية بالتوجه الى كردستان من جديد لتشكيل وجود عشائري مسلح لهم يقف بوجه تحركات مفرزة رياض الشيوعية الثورية تلك.

• حظيت مفرزة الشهيد رياض البكري الثورية باستجابة جارفة ومذهلة من الجماهير الكردية التي كانت تعيش حالة من الذلّ والذهول والضياع في أعقاب خيانات قياداتها العشائرية المتخلفة واستفحال جرائم البعث الشوفينية ضدّ الأكراد الفقراء وسطوته المطلقة والتي لم يعد ينازعه فيها احد على الاطلاق.

• أضاف الى شعبية مفرزة الشهيد رياض البكري أن مصطفى البارزاني ارتكب قبل هروبه الى أمريكا آخر جريمة شنيعة ضد الشعب الكردي وحركته الثورية بإشرافه شخصيا على قتل وتصفية جميع افراد عائلة القائد الشيوعي الشهيد "فاخر مير گه سوري" الذي كانت عصابات بيت البارزاني قد اعتقلته واعتقلت جميع افراد اسرته وأقاربه (بلغ عددهم أكثر من سبعين شخصا) غدرا وأودعتهم جميعا سجن "رايات" بما في ذلك أطفالهم الرضّع.

وكان مصطفى البارزاني مصرا على قتلهم جميعا بيديه قبل ان يغادر كردستان لأنه كان واثقا من ان سمعة الشيوعيين وتراثهم الثوري في المنطقة ستؤدي بشكل فوري الى قيام حركة مسلحة ثورية في كردستان بقيادة فاخر مير گه سوري.

• لا بدّ من التشديد هنا أن تعبير "الشيوعيين" لا يمت بصلة على الاطلاق ولا بأية صفة أو طريقة لا من قريب ولا من بعيد لكيان الحزب "الشيوعي" التحريفي المتعفن لعزيز محمد وعامر عبد الله وكريم أحمد وبقية المجرمين الذين باعوا العراق وقضيته والشعب العراقي برمته وسلموا عنق حركته الثورية للبعثيين مقابل ثمن بخس توّجوا به خياناتهم التاريخية الكثيرة جدا وذلك بدخولهم في تحالف قاتل مع البعثيين تحت شعار "الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" و"خندق واحد مع البعث لبناء الاشتراكية المتقدمة"، إذ كانت خياناتهم تلك هي العامل الحاسم والقاصم في تدمير بلادنا وتسليم العراق وشعبه للبعثيين على طبق من ذهب. وقادت بالتالي الى كل هذا الخراب الذي نشهده اليوم والذي كان "الشيوعيون" التحريفيون ولا زالوا وسيبقون المسؤول الأول والرئيسي عنه وعن عواقبه مدى الدهور، وهم يتحالفون اليوم علناً مع مافيات الاسلام السياسي الفاشية لمقتدى الصدر وعصاباته ضد شعبنا.

3- سبقت ذلك التحرك وواكبته عودة جلال الطالباني من القاهرة الى دمشق في أيار 1975، وتشكيل حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي قام على أساس "تجميع" ثلاثة تجمعات هلامية كان بعضها على أبواب التلاشي. وتلك التجمعات هي:

• العصبة الماركسية اللينينية الكردستانية التي كانت تحتضر بعد اعدام قادتها الرئيسيين الذين اعتقلوا في ايران وتم تسليمهم لنظام البعث في بغداد الذي قام بإعدامهم (شهاب الشيخ نوري وجعفر عبد الواحد وأنور زوراب)، واستلم قيادتها آنذاك آرام (أو الشهيد آرام كما تسميه العصبة) الذي قتله زعيم الجحوش تحسين شاويس الذي انضم لاحقا الى حزب الطالباني ذاته في صفقة تاريخية تصالح فيها الجحوش وأنصاف الجحوش، إذ سبق لجلال طالباني أن كان قائدا للجحوش المتحالفين مع البعث والمجاهدين في سبيله (تخلى البعثيون عن جلال الطالباني وعصابته بعد اتفاقية 11 آذار 1970 مع بيت البارزاني الذين اثبتوا أنهم كانوا الأقوى والأكثر نفوذا اقطاعيا وعشائريا).

• الحركة الاشتراكية الكردستانية بزعامة علي عسكري وشيخ خالد (يسمونه أيضا دكتور خالد). ثم تولى قيادتها رسول مامند وقادر عزيز بعد قيام عصابات بيت البارزاني بقتل قياداتها الأولى في منطقة "هكاري" التركية بأوامر واشراف "ميت" التركية (نخبة المخابرات التركية) بينما كان علي عسكري وشيخ خالد ينقلان كمية من الأسلحة التي قدمتها المخابرات السورية لمجموعة جلال طالباني وساعدتها على عبور الحدود السورية التركية.

• ما كان يسمى وقتها بالخط العريض (خط گشتى ى باللغة الكردية) وكان عبارة عن لملموم يقوده عمر دبابة وشمس الدين المفتي (عمّ الانتهازي المتقلب، والأداة الطيّعة بيد جلال الطالباني، عدنان المفتي الذي صار لاحقا رئيسا لبرلمان كردستان، لكنه ظلّ رئيسا بلا صلاحيات ولا قيمة فعلية).

• كان الخط العريض عبارة عن تكوين هلامي من المرتزقة والجحوش والجواسيس والأغوات واتباعهم وكل ما يطفو على سطح المستنقع المشترك الذي تلتقي عنده السلطة البعثية وعملاؤها وعصابات بيت البارزاني المدعومة بقوة من تركيا وتشكيلات جلال الطالباني المدعومة بقوة من المخابرات السورية (والعراقية والليبية أيضا بإشراف المقدم صالح الدروكي، الملحق العسكري الليبي في بيروت، وبالتنسيق مع "المراسل" عادل مراد أحد سماسرة الصفقات مع المخابرات العربية) وبتواطؤ صريح من ايران الشاهنشاهية.

• من طرائف هذا "المستنقع المشترك" ان افراد الجحوش هؤلاء كانوا يلتحقون بجماعة جلال طالباني مثلا فيستلمون راتب ثلاثة أشهر دفعة واحدة لشراء ولائهم مع قطعة سلاح (بندقية كلاشينكوف عادة)، وفي الشهر التالي يذهبون الى مقرات بيت بارزاني ويلتحقون بهم فيحصلون على نفس الامتيازات وقطعة سلاح جديدة فيبيعون القديمة التي حصلوا عليها من عصابة جلال طالباني، وينتقلون بعدها الى جحوش السلطة (وكانوا وقتها بقيادة تحسين شاويس) فيحصلون على نفس الامتيازات ويبيعون قطعة سلاح بيت بارزاني ليعودوا بعدها الى معاودة الكرّة والمرور بنفس الدورة من جديد.

4- نجح جلال طالباني بتأليب وتحريك الدكتور محمود عثمان (الطبيب السابق لمصطفى بارزاني) وحثّه على الانشقاق عن بيت البارزاني وتشكيل حزب جديد أطلق عليه آنذاك اسم "الحزب الديمقراطي الكردستاني – اللجنة التحضيرية" الذي التحق به فيما بعد شمس الدين المفتي وعدنان المفتي وعادل مراد (بأوامر من جلال الطالباني لاختراق صفوف جماعة محمود عثمان ووضعها تحت الوصاية منذ البداية)، ثم التحقت به مجموعة رسول مامند وقادر عزيز مع إطلاق إسم جديد على تشكيلهم هو "الحزب الاشتراكي الكردستاني"، وذلك قبل أن تحاصر عصابات جلال الطالباني مقراتهم قرب قرى (قاسم ره ش) على الحدود العراقية الايرانية وتقتل منهم أكثر من خمسمائة شخص من القرويين والمقاتلين البسطاء، بينما عاد شمس الدين المفتي وعدنان المفتي وعادل مراد سالمين غانمين الى مواقعهم القيادية في مجموعة جلال الطالباني ولا زالوا فيها، ما عدا شمس الدين المفتي الذي مات غير مأسوف عليه.

وانتهت هذه المرحلة بانسحاب محمود عثمان من كردستان ولجوئه الى بريطانيا حيث لا يزال "نصف" مقيم لأنه استطاع إيجاد موطيء قدم مثمر جدا من الناحية المالية والدعائية (بل والحصول على "مقعد" في برلمان بغداد) باللعب على خلافات بيت البارزاني وجماعة الطالباني.

لكن انشقاق جماعة نو شيروان مصطفى عن جماعة جلال الطالباني وتشكيلها كتلة "التغيير" (گوران) وكشفها لألاعيب محمود عثمان وضع حدا للكثير من ممارسات اللعب على الحبال التي أتقنها فأربكت حساباته.

ولا بد من القول هنا ان كتلة "التغيير" لا تغيير فيها في الواقع لأن مؤسسها (نو شيروان مصطفى) كان دائما من أشرس وأقبح الجلادين والقتلة الفاشست في تاريخ الحركة الكردية المسلحة ولم يسبقه الى ذلك اللقب الا بيت البارزاني بسمعتهم العريقة في الخيانات والقتل، وكان الأكراد يطلقون عليه لقب "ناظم گزار الكردي".

5- في أعقاب تحرك جلال الطالباني وتشكيل محمود عثمان لجنته الموقتة وهيمنة فصائل الجحوش القدامى على كردستان، صدرت التعليمات من المخابرات الامريكية لبقايا بيت البارزاني، الذين كان أبوهم ملا مصطفى قد مات وأصبحوا أيتاما، لكنهم ورثوا عنه أكياسا من الأموال بمئات ملايين الدولات حتى ان ادريس البارزاني تساءل يوما سؤالا مشروعا جدا بمنطقه المتخلف وهو:

"مع كل هذه الأموال بحوزتنا، لماذا نقاتل من أجل الحكم الذاتي؟ يمكننا شراء جزيرة في المحيط وتأسيس دولة كردية مستقلة ونصير ملوكاً عليها وينتهي هذا الفلم المتعب..."!

لكن ذلك كان قبل أن تأتيه صفعة المخابرات الامريكية التي أمرته بالعودة الى المنطقة وإعادة تشكيل حركة مسلحة تتصدى للشيوعيين، فعاد الى إيران دون أن يكون مقتنعا باللعبة فظلّ يطرح نفس التساؤل حتى تقرر قتله والتخلص منه وتسليم القيادة لأخيه الأصغر مسعود بارزاني الذي لا زال رئيسا الى اليوم.

كل ذلك كان بعضا من النتائج وردود الأفعال على التحرك البطولي الذي قاده الشهيد رياض البكري ومجموعته الثورية... والتي ستؤدي الى تآمر كل هؤلاء على مجموعته الثورية ووأدها والسعي الى قتله... وسيكون الجاسوس البعثي عادل عبد المهدي رأس الرمح فيها.

(وللموضوع تتمة....)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. امتعاض واعتراض وغرامات.. ما رأي الشارع العراقي بنظام المخالف


.. عبد الله حمدوك: لا حل عسكريا للحرب في السودان ويجب توحيد الم




.. إسرائيل أبلغت دول المنطقة بأن استقرارها لن يتعرض للخطر جراء


.. توقعات أميركية.. تل أبيب تسعى لضرب إيران دون التسبب بحرب شا




.. إبراهيم رئيسي: أي استهداف لمصالح إيران سيقابل برد شديد وواسع