الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(1)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 1 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إذا كانت التضحيات التاريخية الكبرى الملازمة لصعود الدولة الإمبراطورية هو أسلوب صيرورة الروح الإمبراطوري، فان التضحيات الفردية الكبرى في مجراها هو أسلوب صيرورة الروح الكوني. ومنهما تتراكم دراما الصراع والمواجهة الروحية والجسدية بين مختلف القوى والنوازع والأفكار والأهواء. بمعنى أن كل منهما يتجسد عبر الآخر. ولكل منهما عذاباته وعذوبته في الواقع والمثال. غير أن التاريخ الواقعي، أي ذاك الذي كانت أحداثه الفعلية تجري في الطرقات والساحات، والصحارى والواحات، والمساجد والقصور، والبيوت والخيام، والأنهار والبحار، هو تاريخ أولئك الذين كانوا يتحسسونها بجلودهم ولحومهم وعظامهم ودمائهم، ويتأملونها بعقولهم ووجدانهم. وهو تاريخ "ذائب" في خيال الأجيال بوصفه إدانة ومثال، لأنه يتمثل ثنائية الوجود الفعلي للأموات والأحياء وصراعهم الدائم من اجل تمثيل "مرجعية الحق".
إن "ذوبان" التاريخ الفعلي في مرجعيات متسامية هو المقدمة الضرورية لصيرورة الروح الثقافي، كما انه مقدمة تفعيلها المتجدد. وفي هذا يكمن سرّ التضحية الذي يجعل من الموت شهادة على يقين، ومن اليقين شرطا للخروج على ما تراه منافيا للحق. إذ تصنع هذه الدورة شخصياتها وأعلامها بوصفها التضحية الضرورية التي بدونها لا يمكن رصف طرق التاريخ الروحي والسياسي للدولة والأمة. وأول من جسّد هذه الحالة وحققها الخوارج في خروجهم الإرادي الحر. وهو خروج له تاريخه الخاص في كمية ونوعية التضحيات الكبرى بمستوييهما السياسي والروحي، المتداخلين في مجرى صيرورة الروح الإمبراطوري للخلافة.
فعلى المستوى التاريخي السياسي كان الانقسام والصراع أمرا طبيعيا بل وحتميا ملازما لتوسع الدولة وحجم المشاكل ونوعيتها التي كانت تواجهها. لكن السبب الأعمق في صعود النزوع الإمبراطوري للخلافة قد استتبع اغتيال الإمام علي بن أبي طالب. فقد أدى ذلك إلى تفعيل حدة الصراع بين نخبة روحية متراكمة في قراءة الوجود بعيون القرآن وبين سلطة تقرأ كل ما يواجهها بغريزة المصالح. وهو شقاق خفي كان يتراكم في مجرى صيرورة الخلافة. وتكاملت عناصره الأولية بوصفها منظومة الخراب والابتزاز زمن عثمان بن عفان. فقد رفعت العفانية فكرة وأسلوب التمايز الاجتماعي إلى مصاف "الحق"، وجعلت من القمع والمطاردة للمعارضة أسلوبا لتحقيقها. وقد لازمت تلك العملية صيرورة الدولة. لكنها اتخذت في ممارسة عثمان أبعادا تفصل بين الدولة والأمة. فمن الناحية التاريخية شكلت الرواتب والعطاء وتمايزها استنادا إلى الأدوار الفعلية وتناسب "المهاجرين" و"الأنصار" والفرسان والجوالة وطبيعة الانتصار وحجم الغنيمة صيغتها الأولية. وجرى تحويل هذا التمايز إلى "حقوق" مكفولة بقوة السلطة. وهو الأمر الذي يمكن التدليل عليه بمئات الشواهد الكبرى التي قام بها عثمان بن عفان، مثل إعطاءه خمس واردات إفريقيا إلى مروان بن الحكم، التي بلغت آنذاك حوالي مائتي ألف دينار!! وعندما أعترض المسلمون على سياسة عثمان هذه، نراه يجيبهم بعبارة: "إذا لا يحق لي التصرف بالأموال، فلم أنا أمير عليكم؟!". أما استعمال أسلوب التنكيل المادي والمعنوي تجاه المعارضة فيمكن رؤية نموذجه ومثاله على مواقفه من أبو ذر الغفاري. فقد أدت هذه السياسة إلى تفتيت وانهيار الوحدة الداخلية للأمة الناشئة.
فقد كانت السياسة العفانية تحتوي في أعماقها على كل نماذج الاحتراب اللاعقلاني، على عكس الإمكانية الكامنة في صراع الأمة الإسلامية بالمعنى الأولي للكلمة. فإذا كان الصراع العلني والمستتر في أعماق الأمة الناشئة وخلافتها الأولى لنفسها، يتضمن احتمال ارتقاؤها صوب النظام الاجتماعي الشرعي وتوسع الأبعاد السياسية لفكرة الشورى وأولوية الأمة، فان العفانية قلبت الأمر رأسا على عقب من خلال خلخلة البنية الداخلية للصيرورة الاجتماعية للدولة ومنظومة أخلاقها العملية. وحالما جرى قتله، فان الأمة وقواها وقفوا أمام إشكالية "طاعة الله" و"طاعة الإمام". كما استثارت أيضا إشكالية "هل يمكن للأمة أن تجتمع على ضلالة"؟ وكيف يمكن القبول بالفرقة والتوحيد يناقضها. وظلت هذه الإشكاليات تحكم الوعي والهواجس والضمير. لكنها تحولت في ميدان التاريخ السياسي إلى جزء من معترك اتسم بقدر هائل من التناقض والتضاد مع حقيقة الفكرة الإسلامية الأولى.
أدى مقتل عثمان إلى انكسار شوكة العفانية بوصفها أموية مبطنة. وهو انكسار كان يحتوي في أعماقه على محاولة استرجاع المعنى الإسلامي للتاريخ من خلال الرجوع إلى حقيقة الخلافة كما مثلها وحققها أبو بكر وعمر ومثالها الأولي في شخصية النبي محمد. بمعنى الرجوع إلى حقيقة الحق وتمثيله بمعايير التجربة الفردية للخليفة. وليس مصادفة أن يرفض الإمام علي مبايعة البعض على شرط أن يقلد ما فعله من سبقه من الخلفاء، انطلاقا من أن إمامه فيما سيقوم به هو الله ومحمد، أي كينونته الفردية. وتطابقت هذه الررؤية من الناحية السياسية مع ما قام به أبو بكر وعمر، بوصفه سلوكا سياسيا مجتهدا. ومن ثم تجربة كانت تعني بالنسبة له الرجوع إلى المعنى المتراكم في شخصيته بوصفه "خشنا في ذات الله". وحالما انتقلت هذه الخشونة الفعلية والقاسية من حمية الشخصية الأخلاقية إلى هموم السياسة العملية. وذلك لأنها كانت ملزمة بمجابهة منظومة الانحراف الفعلي عن ماهية الدولة بوصفها خلافة النبي، والأمة بوصفها امة الحق. وقد قدم التاريخ السياسي الإمام علي باعتباره نموذجا فعليا وممثلا حقيقيا لفكرة الرجوع إلى سلسلة الروح الواقعية الكامنة في حلقات الله – والنبي – وأمة الحق. أما "الأنا" فقد كانت الحلقة الجديدة التي ينبغي تكاملها في سلسلة الروح الإسلامي الحق، بوصفها الحلقة التي كان ينبغي لها الاستعاضة عن الحلقة العفانية المتكلسة. بمعنى إعادة صقلها من جديد أو رميها. وبما أن الجماعة الإسلامية هي التي قامت بهذه المهمة، فان مهمة الإمام علي كانت تقوم في البقاء ضمن حيز الجماعة الحقيقية، أي مرجعية أمة الحق. وهو بقاء يتمثل حقيقة الشخصية العلوية بوصفها فناء في كينونته الخشنة في ذات الله.
فقد وقف الإمام علي أمام مهمة عصية وصعبة ألا وهي إرجاع تمزق وابتعاد وانفصال الروح والجسد الإسلامي إلى وحدتهما على مستوى الدولة والجماعة والأمة والفرد. ووضعته هذه المهمة بالضرورة أمام برد حراشف التكلس الكبير للعفانية بمبرد ذاته الخشنة. وهي عملية مؤلمة للروح والجسد على السواء. من هنا كثرة معاناته وشكواه، على عكس الأموية التي لم تكن تعاني من هذا الأمر. والسبب هو أن الإمام علي حاول أن يربط من جديد الروح بالجسد بوصفه فعلا ضروريا لإعادة تفعيلهما بوصفهما منظومة واجبة وليس فعلا طارئا، لكي لا يجعل منه "مهمة سياسية" عابرة، ومن ثم أسلوبا عمليا للرياء والفوز العابر. فقد كان هو رجل المنظومة المتسامية لوحدة الدولة والأمة بمعايير القانون والأخلاق. وفي هذا يكمن السبب الذي جعل من فشله السياسي سر فشل الإسلام الحقيقي وسبب صعود إسلام الأموية، بوصفها هجينا للجاهلية والإسلام المسّيس بقيم الدهاء السياسي. ووجد هذا الإسلام المسّوس تعبيره ونموذجه فيما أطلقت عليه الأموية عنوان "أهل السنة والجماعة" . بمعنى إخضاع الإسلام لنفسية وذهنية السلطة والعبودية لها من خلال جعل الاستسلام لها إسلاما، والعبودية المتكاتفة بوحدة الجسد "جماعة". بينما حقيقة الجماعة هو تباين ديناميكي محكوم بالفكرة المتسامية. أما الأموية فإنها استسلام الجسد. من هنا قوتها الظاهرة وخوائها الباطني. فقد أهلكت واستهلكت القوة الكامنة والهائلة للأمة الإسلامية الناشئة بحروب داخلية طاحنة ودموية اقرب ما تكون إلى حروب داحس والغبراء وحرب البسوس. ووجدت هذه الحالة تعبيرها وانعكاسها في ظاهرة "الفتنة". من هنا يمكن رؤية وسماع ترددها على الألسن وترددها في مواقف الإمام علي بصورة مكثفة ومتعددة. فنراه مرة مطالبا الناس قائلا: "أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة. وعرّجوا عن طريق المنافرة وضعوا عن تيجان المفاخرة" . وفي حالة أخرى نراه يحدد خطورتها في كون "الفتن إذا أقبلت شبهّت. وإذا أدبرت نبّهت. ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات". بل يعتبر الفتنة مثل "قطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة ولا تردّ لها راية" . من هنا تحذيره العام منها عندما خطب مرة وهو يقول: "احذروا اعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها، وظهور كمينها، وانتصاب قطبها ومدار رحاها. تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية... ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرّجوف، والقاصمة الزحوف. فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة. وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها... فلا تكونوا أنصاب الفتن وأعلام البدع. وألزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت أركان الطاعة. وأقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين، واتقوا مدارج الشيطان ومهابط العدوان، ولا تدخلوا بطونكم لعق الحرام" . بل نراه يخصص موقفه من نموذجها المميت في الأموية عندما قال مرة "ألا أن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة عمّت خطتها وخصيت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها، واخطأ البلاء من عمى عنها. وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي... لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبد من ربه، والصاحب من مستصحبه".
إن المواقف العامة والخاصة للإمام علي من الفتنة كانت تحتوي على محاولة رد السياسة إلى مضمار وميدان الدولة والشرعية والأمة، من خلال رفع مبدأ الالتزام الملزم (الواجب) للجميع إمام ومأمومين. وفي هذا كانت تكمن مأثرتها التاريخية والروحية. وهي مأثرة وثيقة الارتباط بالكيفية التي جرى فيها انتخاب الإمام علي إلى السلطة. فقد كان صعوده "خروجا" أوليا للأمة على ذاتها لذاتها. فقد كان هذا الخروج يدعم براعم الفكرة القائلة بإمامة الأمة لنفسها بنفسها، ومن ثم كان يحتوي في أعماقه على تأسيس وترسيخ براعم الثبات الخفية في الوعي الإسلامي السياسي الأول القائل بفكرة الانتخاب والاختيار وليس التعيين والوراثة. وهي استعادة كانت تتصادم بالضرورة مع البنية التحتية للأموية التي أرسى أسسها عثمان بن عفان. من هنا سرّ عنفوان معاداتها للفكرة السياسية العلوية، بوصفها تجسيدا وتحقيقا لفكرة الاختيار والاختبار المحكومة بالقيم المتسامية وعقيدة الإسلام الميتافيزيقية والاجتماعية. فقد كان محكها الأول يقوم في إرجاع الأمور إلى "نصاب الحق". من هنا محاولة الإمام علي بن أبي طالب استرجاع أموال الأمة المنهوبة والمسروقة والموزعة بغير حق، ورفع مبدأ التوزيع العادل على أساس القواعد الشرعية، وتقويم الاعوجاج بوصفه أسلوب تحقيق الاستقامة أو "الصراط المستقيم" للفكرة المتسامية والمبادئ العليا، واستكمال ذلك بالتحقيق العملي لها بمعايير المبدئية المجردة عن الأهواء والمصلح العابرة!
لقد كمن في هذا الواقع الجديد سر مأساة الشخصية العلوية بوصفها شخصية التاريخ الروحي الإسلامي في مواجهة زمن الأشباح الأموية. وانتهت هذه المأساة بمقتله على يد أولئك الذين شاركوه مغزى الحقيقة الإسلامية، أي على اشد الناس قربا منه وإخلاصا لما كان يسعى إليه. مما جعلهم لاحقا بين مطرقة الأموية وسندان التشيع. ومن طرقاتهما تصلبت الحركة الخارجية ونمت عناصر غلوها السياسي والأخلاقي. كما تطايرت في مجرى معاركها شرارة وهجها الروحي والأخلاقي والسياسي، بوصفها الخميرة الأولى للانقسام الحي. غير أن المجرى الطبيعي للدولة الإمبراطورية سرعان ما تمثل وقبل كل هذا الاختلاف والتناقض، بفعل تراكم الذهنية النقدية، تماما بالقدر الذي سيتوصل الفكر الفلسفي الصوفي لاحقا إلى القول، بان معرفة الله المثلى تفرض إدراك جمعه للأضداد. لكنها فكرة كان يفترض خوض غمار المعارك الطاحنة من اجل بلوغ حقيقتها. أما إدراك حقيقة المطلق بجمعه بين الضدين، فإنه يبقى في نهاية المطاف جزء من معاناة الذات المعذبة بين جروح الروح وجوارح الجسد. فقد دفعت هذه الحالة جميع القوى المتصارعة للوقوف أمام ذاتها والآخرين بوصفها كينونة واحدة. من هنا أولوية الدعوة لمقاسمة الاشتراك في الفكرة العامة المتسامية وقيم الحق ومعنى المطلق. مما وضع الفكر النظري والعملي أمام ضرورة فهم سرّ الخلاف والاختلاف بمعايير الوحدة. من هنا ظهور فكرة "لا تجتمع أمتي على ضلالة" باعتباره الرد الأول والعام على الاختلاف العميق والاتهام غير المتناهي، واستكمالها بفكرة الشهادة وفعل الاستشهاد بوصفه سبيل التنقية الضرورية للروح والجسد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة جديدة من برنامج السودان الآن


.. أطباق شعبية جزائرية ترتبط بقصص الثورة ومقاومة الاستعمار الفر




.. الخارجية الإيرانية: أي هجوم إسرائيلي جديد سيواجه برد إيراني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي حانين وطير حرفا جنوبي لبنان




.. إسرائيل وإيران لم تنتهيا بعد. فماذا تحمل الجولة التالية؟