الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احداث تافهة عاصرتها 12

صلاح حسن رفو
(Salah)

2020 / 1 / 16
الارهاب, الحرب والسلام


ضحايا الحروب
_ اُدخل إلى منزلنا...اترجاك...اُدخل واسترح قليلاً لأحضر لك الغداء.
_لماذا أدخل...ما الذي حدث؟!...
ويلتفت صاحبنا لرفاقه بعد نظرات موافقة ،وخوف، وذهول، واستغراب منهم ،ومن طلب النسوة الغريب في تلك الظهيرة: أنا لم أدخل منزلهم يوماً ...فأنا أخجل.
حينئذ خرج رجلٌ مسرعٌ من المنزل_ يتضح إنه رب المنزل_ وطلب من صاحبنا الدخول في حين خرج هو للشارع يضرب كفاً بكفٍ ويتمتم مع نفسه..دخل صديقنا ذلك الدار أو ادخلوه أهل المنزل بعد الحاح أو عنوة ولحقنا نحن خطوات الرجل المسرعة وصوتٌ من بعيد يصلنا ويتضح شيئا فشيئاً: " الله عطانو والله أخذو"!.


بعد ايامٌ كسولة وخاملة استمرت لأشهر اُستؤنفَ العام الدراسي 1990_1991 بعد حرب الخليج الثانية التي اسمتها الحكومة العراقية انذاك" ام المعارك". زُحفت نتائج احد الفصول الدراسية الاخيرة وحُسبت الدرجات بالتكرار الى ان انهينا العام الدراسي شكلياً مع اسابيع دراسة اضافية. فترة الحرب القصيرة كانت قد غيرت الكثير من معالم الحياة في مدينة سنجار، اذ تجد في بداية او نهاية كل زقاق قد بنيَ " تنورٌ طيني" بعد ازمة الغاز الخانقة، اذ استعان الاهالي بأشجار البلوط والصنوبر من الجبل للتدفئة والطبخ. الحديث العام كل مساء كان عن قلة الاكل والمؤن ووقف اطلاق النار وامل عودة الكهرباء والتلفزيون للبيوت بعد اشهر من انقطاعهما. كنا نسمع من الاذاعات الاجنبية عن ثورات ومعارك يقوم بها اهل الجنوب والشمال ضد النظام القمعي في بغداد، وكنا نمني النفس او نظن اننا سنكون بعد حين جزءاً من ثورة الشمال القريبة منا كفكر ووجدان ورؤية.
عندما انقطع البنزين او حين لم تستطع الدولة توفير بعض محتوياته عوضه السواق بمادة الكاز الثقيل لـلحالات الطارئة جداً رغم استهلاك وعطب محركات السيارات بعد ذلك بفترة وجيزة لكن وكما يُقال للضرورة احكام، هذه الالية جعلت محركات السيارات على الاغلب تصدر اصواتاً قوية "جيلات" كأصوات المفرقعات او اطلاقات الرصاص، لذا ترى احدهم بعد كل صوتٍ قوي يقول : " هاتن...هاتن"(جاءوا...جاءوا) دلالة على اقتراب البيشمركه الى سنجار او املا منهم في ذلك!_سخر السنجاريون بعدها بسنوات من سذاجة تفكيرهم وضيق افقهم السياسي حينذاك.
كانت العودة الى مقاعد الدراسة المتوسطة بعد اشهر انقطاع مربكاً ،ومتعباً ،لكن هذا لم يمنع بأن نبقى لساعاتٍ اضافية بعد الدوام الرسمي لنلعب كرة القدم في الساحة الاسمنتية للمدرسة، نبقى حتى الثانية، او الثالثة ظهراً لنغادر كمجموعة في نفس الطريق المعتاد...نسلك طريق روضة المدينة في البدء، بعدها بمسافة قصيرة وحال صعودنا بالطريق بأتجاه الجبل سيودعنا بيتروس وغازي ذاهبين الى "سوق الفوق" وسننعطف نحن يساراً مع اول فرع حيث بيت محمد والذي في نهايته فرع اتحاد الشباب_ المغلق دائماً !_ومنه ندخل سوق المدينة الرئيسي، بعد زقاقين او ثلاث سيغادرنا عزيز وسعد عند " فرع القصابين" لنمضي بالمسير لحين وصولنا لحي "بربروش" القديم ليودعنا هادي،وهو اخر رفاق اليوم ،وامضي مع وحيد وعزت وحسين الى حي النصر حيث ابعد احياء المدينة عن السوق والمدرسة.
في احدى الايام التي لا تُنسى كنا نحاول ان نخبئ بسذاجة بالغة صديقنا قصي في رحلة العودة المتاخرة بعدما ان راينا والده من غير العادة ذاهباً من عمله(دائرة الزراعة) الى السوق لحدث طارئ نجهلهُ وسائلنا رغم انشغاله :" منو هذا المتخبي؟". ظهر قصي باستيحاء بالغ :" لا ...انا ما متخبي ...نحن عنصطندغ صديق ودنغوح على بيوتنا".
لم يؤنب السيد هاني ابنه، او غضب كما يفعل معظم آبانا او لم يتسنى له ذلك لأنشغاله التام كما يبدو...فقط اوصاه بالرجوع باكراً الى المنزل حال تفرغه.
في الطريق اطلنا الحديث عن مدح والد قصي الذي لم يعنفه رغم تأخره غير المُستحب الى ان وصلنا عللا مقربة من زقاق صديقنا محمد،فأذا بأحد الابواب يُفتح، وخرجت امرآتان...نطقت احداهن بأرباك بالغ: "محمد تعال فوت عدنا واستغيح...غاح اصبلك الغدا وبعدين غوح للبيت".
_ عليش افوت عدكم...ليش اش كن صارغ_ يرد محمد_.
وبعد نظرات موافقة وذهول وخوف واستغراب منا نحن رفاقه الحائرين مثله حدثنا محمد:" انا بعمغي ما كن طبيتو لبيتم ...واستحي هسا اطب.
حينذاك خرج رجلٌ مسرعٌ من المنزل وطلب من محمد الدخول في حين خرج هو مغادراً نحو المحلة بدشداشته البيضاء وشببٍ شبه مقطوع يضرب كفاً بكٍف ويتمتم مع نفسه، لحقنا به مع هاجس خوف وفضول في حين دخل محمد كالمسحور الى ذلك المنزل القريب من داره.
سارعنا الخطى الى ان وصلنا للرجل الذي لم يشاهدنا وهو يبكي بأنين مصاحبٍ( انا لله وانا اليه لراجعون...انا لله وان اليه لراجعون).
كانت الناس متجمهرة امام منزل الحاج ياسين_والد محمد_ اذ جيء بتابوتٍ خشبي لأبنه الشاب العسكري في احدى نقاط الشمالية من ارض هذه البلاد الموحشة.
في خضم الصراع بين جيشٍ جائعٍ عاري يحاول الهروب من الموت وبين رجالٍ تواقين للحرية من نظام قامعٍ لكل شي...او ادنى شي، تبحث الاطلاقات الطائشة عن اجسادٍ قد لا تكون اهدافاً حقيقية بقدر كونها هي الاخرى ضحية كحال معظم الساكنين في هذه البقعة المجنونة...جاءت جثة الشاب بعدما ظن جميع السنجاريين ان المدينة قد تكون خالية في هذه الحرب من الخسائر البشرية،و بين بكاء الحاضرين ونواح النساء رفع الحاج ياسين كفه العريض القاسي والقوي ملوحاً للجميع بالسكوت والهدوء :" لحد يبكي...الله عطانو...والله اخذو...الله عطانو...والله اخذو".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الولايات المتحدة: ما الذي يجري في الجامعات الأمريكية؟ • فران




.. بلينكن في الصين: قائمة التوترات من تايوان إلى -تيك توك-


.. انسحاب إيراني من سوريا.. لعبة خيانة أم تمويه؟ | #التاسعة




.. هل تنجح أميركا بلجم التقارب الصيني الروسي؟ | #التاسعة