الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقيقة الخوارج وإرادة التحدي الإنساني(2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 1 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن إحدى المفارقات الحيوية للتاريخ، وبالأخص في مراحل انعطافاته المفاجئة أو تحولاته العاصفة أو مراحله الانتقالية العنيفة أن تصبح الدماء السائلة في مجرى الشهادة "حناء الرجال"، و"مداد العلماء" . وهي معادلة متسامية لكنها واقعية. بمعنى أنها كانت تستمد قوتها من طاقة الاندفاع الأخلاقي والسياسي في مواجهة ما كان يبدو انحرافا عن حقيقة الحق الإسلامي. الأمر الذي جعل من دماء الشهداء ضرورية لغسل الأجساد وتطهير الرؤية، باعتبارها العملية التي جعلت من الممكن الإقرار بفكرة "اختلاف أمتي رحمة".
لقد أبدعت الثقافة الإسلامية معادلة متسامية هي الأكثر تماما وكمالا بالنسبة للروح والجسد على مستوى الفرد والجماعة والأمة والدولة والتاريخ والفكرة. ومن الممكن رؤية أطراف هذه المعادلة في فكرة عدم اجتماع الأمة على ضلالة وفكرة الإقرار بالرحمة القائمة في اختلافها. وتكاملت هذه المعادلة في مجرى حروب طاحنة وقتال مر ومرير سالت بأثرهما دماء هائلة وتساقطت أجساد المقاتلين والمحاربين والمسالمين، من صحابة وتابعين وناس عاديين وعلماء وقراء وشعراء وأدباء وقواد وجنود ورجال ونساء وشيوخ وأطفال من أقوام وقبائل وأجناس متنوعة. ومنها كانت ترتسم دراما التاريخ الواقعي. فالمعادلة المتسامية هي الوجه النقي للواقع الشقي! أما نقاء الشقاء فهي المعادلة المجردة لتاريخ المعاناة الفعلية التي كانت تروي الأرض وتجعل منها "مكانا مقدسا" للأحياء و"مزارا" لذاكرة الأجيال. وفي هذا كانت تكمن ملامح البروز الآخذ بالجلاء والوضوح لما أسميته بالمستوى التاريخي الروحي، الذي شكل صعود الخوارج والشيعة قواه الاجتماعية والفكرية الأولى. فقد كانا كلاهما من صيرورة واحدة وكينونة أصلية.
فقد مثل الخوارج اتجاه المعادلة الإسلامية المذكورة أعلاه، بل أنهم أول من وضع مقدماتها الفكرية في المواقف العملية. بمعنى أنهم جسدوا بكامل سلوكهم تراكم المكونات الروحية الأخلاقية التي كانت تؤسس لمعادلة عدم اجتماع الأمة على الضلالة والإقرار بفكرة الاختلاف. فقد كان الخوارج الفرقة الإسلامية الكبرى الأولى التي عارضت ما كانوا يعتبروه انتهاكا لمبادئ الإسلام الأولى، وخروجا على فكرة العدل والمساواة. ومن ثم ليست تسمية "الخوارج" بحد ذاتها سوى الاستظهار المقلوب للواقع الذي عارضوا مظاهره الرذيلة، بحيث خرجوا عليه بقوة السلاح. وهي المفارقة الكبرى لتسمية الخوارج. لكنها شأن كل مفارقة تاريخية روحية كبرى، لا يفعل التشنيع المتراكم في عرف السلطة سوى على إخفاء جمالها الباطن لوقت محدود من الزمن. أما بريقه فهو قوة لا يقهرها زمن السلطة، لأنه جزء من تاريخ الروح. وهي الصفة التي يمكن العثور عليها خلف غشاء الأحاديث "النبوية" الموضوعة (الكاذبة)، أي كل ما ابتدعته السلطة ومرتزقتها على لسان "أهل السنة والجماعة" لتشويه حقيقة الخوارج.
فالحديث الأول، الذي جرى اشتقاق البقية الباقية منه كان يسعى للمطابقة في وعي العوام بين الخوارج والخروج من الدين (المروق). وصيغته المشهورة تروى على لسام أبو سعيد الخدري، القائل، بأنه كان عند النبي محمد وهو يقسم قسما فأتاه ذُو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال:
- يا رسول الله اعدل!
- ويلَك ومن يعدل إِذَا لَم أَعدل! قد خِيبت وخسرت إِن لَم أَكن أَعدل!
وعندما انتفض عمر بن الخطاب قائلا:
- يا رسول الله ائذَن لي فيه فَأَضرب عنقه!
- دَعه! فان له أصحابا يحّقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم. يقرءون القرآن لما يجاوز تراقيهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم! آيتهم رجل اسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس".
أما الحديث الثاني فيعيد مضمون الصورة السابقة ولكن بصورة وأشخاص مختلفين. انه يتحدث عن كيفية بعث علي بن أبي طالب إلى النبي محمد بذهبية فقسمها بين الأربعة (الأقرع الحنظلي والمجاشعي وعيينة الفزاري وزيد الطائي). فجاء احد بني نبهان وعلقمة العامري وواحد من بني كلاب. فغضبت قريش والأنصار وقالوا "يعطي صناديد نجد ويدعنا". فقال النبي محمد "إنما أتألفهم". فاقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق:
- اتق الله يا محمد!
- من يطع الله إذا عصيت؟ أيامنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني.
فأراد احدهم قتله (يقال خالد بن الوليد)، فمنعه محمد. وبعد أن خرج الرجل قال "إن من ضئضيئ هذا (أو في عقب هذا) قوم يقرون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرومية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا ادر كتهم لقتلتهم قتل عاد". وفي رواية أخرى "قتل ثمود". أما الحديث الثالث فيروي قصة دخول علي بن أبي طالب على النبي محمد والى جانبه عائشة. وعندما سال النبي محمد عليا:
- كيف أنت وقوم كذا وكذا؟
- الله ورسوله اعلم
- قوم يخرجون من المشرق، يقرءون القرآن لما يجاوز تراقيهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فمنهم رجل مخدج كأن يديه ثدي حبشية".
ومن هذه "الأحاديث" الثلاثة جرى توليف مهمة قتل الخوارج بوصفها فضيلة كبرى! كما نراها في الحديث (الرابع)، وفي "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". أما الحديث (الخامس) فيطنب برغبة القتل ليجعل منها عماد الإسلام والإيمان وبوابة دخول الجنة! ففيه نسمع ما يلي "يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرءون القرآن لما يجاوز حناجرهم. يحقر أحدكم عمله من عملهم. يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم! فطوبى لمن قتلهم! وطوبى لمن قتلوه! كلما طلع منهم قرن قطعه الله". وقد ردد النبي هذه العبارة عشرين مرة!
إن وحدة ومضمون وأسلوب ونفسية "الأحاديث النبوية" تشكل بمجموعها احد النماذج العادية للذهنية الأموية. بحيث نعثر فيها على تأييد "الجماعة" وجعله "سنة" في مواجهة المعارضة. وليس تنوع المشتركين المنهمكين في مهمة الدعوة للقتل (عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد) والشهداء على ما جرى (علي بن أبي طالب وعائشة)، سوى الصيغة المراوغة للحصول على إجماع المتخاصمين والأعداء أيضا في الموقف من الخوارج. لقد جرى إشراك النبي وعلي والمهاجرين والأنصار وقريش، وعمر وخالد بن الوليد وعائشة، أي كل الجماعة الأولى والأمة في الاستعداء على الخوارج، بحيث لم تجد الأموية حرجا حتى في إدراج عدوها الأبدي (الإمام علي). وهي حنكة لها "ذوقها" السياسي بوصفها جزء من تقاليد الدهاء الأموي المبنية على تشويه الخصم وكيل الاتهام "الجامع" باسم "الأمة" و"الجماعة". من هنا ملامح الصور البشعة للخوارج. وهي صور (واسعة الانتشار في الحديث) معدومة في القرآن. أما صيغة الانتقام الدموي منها والدعوة للإبادة الشاملة!! كما في عبارة "لان أنا ادركتهم لقتلتهم قتل عاد أو ثمود"، أو رفع قتل الخوارج إلى مصاف الواجب الإيماني! وهو أسلوب مميز لنفسية وذهنية الأموية، التي جعلت الحجاج مرة يقسم الأسرى ويطالب بقتل من يقول "أنا مؤمن" ردا على اختباره. وعندما سألوه لماذا تقتل من يقوا أنا مسلم مؤمن وتترك من يقول "أنا فاسق" أو "منافق" أو "كافر"، فانه أجابهم، بان الخوارج لا تكذب! بعبارة أخرى انه كان يدرك، شأن الأموية، بان الصفة الجوهرية للخوارج هي الصدق التام، بما في ذلك أمام اختبار الموت. ونعثر على احد نماذج هذه الحالة الرفيعة للخوارج آنذاك في تلك النادرة التي ينقلها لنا الجاحظ في (البيان والتبيين). فقد قدموا بأحد الخوارج إلى عبد الملك بن مروان ليقتل. وعندما كان يجري التحضير لضرب عنق الخارجي دخل على عبد الملك ابن له صغير قد ضربه المعلم وهو يبكي. فهمّ عبد الملك بالمعلم، فقال له الخارجي:
- دعوه يبكي، فانه افتح لجرمه (حلقه)، وأصحّ لبصره، وأذهب لصوته.
- أما يشغلك ما أنت فيه عن هذا؟ سأله عبد الملك مستغربا.
- ما ينبغي لمسلم أن يشغله عن قول الحق شيء! أجابه الخارجي.
عندها أمر عبد الملك بإخلاء سبيله! وهو فعل لا يدل على حلم عبد الملك أو مروءته، بقدر ما يشير إلى أن قول الحقيقة الذي ميز الخوارج وأبرزهم إلى الوجود، قادر أحيانا على إجبار عتاة القساة للاستماع إلى ما فيه من نغم قاهر لصوت الطغيان وسوطه .
إننا نقف هنا أمام صورة تستبطن الأحاديث الموضوعة (الكاذبة). وذلك لان حقيقة الخوارج "المكبوتة" في كذب السلطة ومرتزقتها يقوم في جوهرية العدل واستقامة الإرادة وعنف الوجدان الأخلاقي، أي كل ما يؤدي في حالات المواجهة والتحولات الدرامية إلى بروز مواقف الغلو والتبدل المفاجئ والسريع. إذ نعثر على هذه الصورة في طبيعة ومصدر الخلاف الأولى والنهائي بين الإمام علي بن أبي طالب وبينهم.(يتبع....)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قميص -بركان- .. جدل بين المغاربة والجزائريين


.. مراد منتظمي يقدم الفن العربي الحديث في أهم متاحف باريس • فرا




.. وزير الخارجية الأردني: يجب منع الجيش الإسرائيلي من شن هجوم ع


.. أ ف ب: إيران تقلص وجودها العسكري في سوريا بعد الضربات الإسرا




.. توقعات بأن يدفع بلينكن خلال زيارته للرياض بمسار التطبيع السع