الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(13).

ماجد الشمري

2020 / 1 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مايبدو على سطح السرد في صراع الرب الحواري-الخطابي مع ايوب انه قد افحمه ببراهين لاتدحض،فأخرسه،وبالتالي رفع راية الهزيمة البيضاء،وصمت كما ورد في سفره.ولكننا نعتقد،وهو اقرب للحقيقة:ان أيوب هو من اخرس الله وألجمه!.من الطريف ان نجد ان اسكات أيوب للرب هو جزء من النص-نحن لانعرف بالضبط كيف تم ترتيب الاسفار التوراتية،وهل ان ترتيبها جرى بالتنسيق التاريخي المتتابع،ام بالشكل العرضي الاعتباطي كما حدث للقرآن الاسلامي؟!.م.ا-لان الرب لم يتكلم مع احد قط بعد محاضرته في سفر ايوب!.وهذا يعكس تغييرا حقيقيا في عالم الواقع،بعد ان دخل اليه سفر ايوب محررا كنص قداسي في بنية العهد القديم الكلي المعتمد.ثمة ماهو حاسم في قصة ايوب و يرمي لهدف محدد وهو:مصالحة العبد الاواب مع الاله وتسوية العلاقة بينهما.فرغم الفقدان الفادح لكل الابناء،وضياع الممتلكات،وذلك التخلي القسري او انتزاع الاشياء الممنوحة من قبل الله والتي من بها على عبده ايوب،وسمح له بتكديسها ومراكمتها واكثارها الى حين،ثم جرده منها لاحقا،وهي في حقيقتها ليست ملكا ثابتا ودائما،بل هي مجرد عطاء موقت او اعارة او حيازة لملكية الهية تشمل كل الطبيعة والاشياء ولكنها قابلة للاسترجاع في اي وقت.والفكرة التي لاتقول:انه وبعد فقدان وخسارة كل شيء،هنالك امكانية وفرصة ثانية لاعادة الامور الى نصابها وعودة مافقد او اختفى،واسترداد الملكية الصورية لما جردنا منه،في يوم وساعة يحددها الرب القابض والمانح.فهل كان ذلك كافيا ومرضيا لمؤلف السفر الايوبي،ومستنفذا الغرض منه،وبالتالي مقنعا لقراءه المومنين كجكاية دينية رمزية-تعليمية عن سمو وابهام ولاعقلانية العدل الالهي الاكثر لبسا،والمفارق المتقاطع مع العدل الانساني بالمعيار الدنيوي البشري الذي يفهمه الجميع؟.لانعتقد انها حكاية عن العدل الالهي الحاضر-الغائب،بل هي اعمق وابعد من ذلك بكثير.انها قصة عن الاستسلام البشري لقوة خلق العالم المسيطرة والقاهرة،ولكنها ايضا المفتقرة للعدالة الانسانية كما نعيها نحن البشر.يأتي الرب وكأنه كناية عن الكون والطبيعة،عنيفا،وفوضويا،غير انه جميل ومدهش بسحره وفرادته.قصة ايوب هي قصة مركبة ومعقدة ومتعددة الوجوه والاسطح والقراءات.انها قصة الشك المنقشع،والظن العابر.عندما تعيد لائحة الرب ايوب الضال طائعا الى حضيرة القطيع الخنوع-القانع بمشيئة الرب ولمزاجه الفوضوي المتقلب.ولكن الصراع حول قولبة القطيع وضبطه بوحدة كلية متماسكة، مع ايوب وصل نموذج الرب العادل الى حدوده القصوى كعجز فاضح،بحيث تحددت المشكلة ومباشرة بفكرة العالم غير العادل،وبالتالي الظالم،وان كانت موجودة كما يستنتج سفر ايوب وكاتبه والشخصيات التي صاحبت ايوب وحاورته،وليس ايوب هنا طبعا كشخص بل كوظيفة.هذه العدالة الزئبقية موجودة بطريقة لايمكن تصورها او فهمها من البشر بمنطقهم العقلي وبمحاكمتهم القياسية،فهي ميتابشرية وحرفة وصفة خاصة بالاله.كانت الاسئلة الاشكالية العميقة والتي ظلت معلقة لآلاف السنين دون اجابة رغم انها طافت بمخيلة ايوب وطرح بعضها جزئيا وعلى هامش خطابه وتداعياته النفسية.وعلى الرغم من مساهمة ايوب الهائلة في تاريخنا:رمزيا وثقافيا واخلاقيا ودينيا،والى جانبه تقف زوجه الممتحنة معه،والمساوية له في الوعي والندية الفردية والارادة الصلبة،ولكن الاكثر حزما وتشددا في تمردها ورفضها للاذلال والمهانة التي تعرض لها زوجها الصابر المستكين، وخاضتها معه بوفاء وتفان.فشخصية الزوجة-من الغريب انها لم تتعرض للبلاء في جسدها او حياتها اسوة بعائلة ايوب من بنين وبنات،فلم اهملها الله من شمولية تدميره؟!-كانت تشكل الشك الاكبر المقابل لشك ايوب البسيط والجزئي كما رأينا في السفر.فهي التي اشارت لزوجها وهي ترى معاناته،بنصيحتها المذهلة والصادقة والصادمة:"ألعن ربك ومت"!.ماهو سائد وغالبا مانرى في كل الثقافات والاديان موقفا منحازا ومضادا للمرأة.فهي توزع على النساء ادوارا من الازدراء والدونية والتحقير والتهميش والابلسة،وكما نجد في كل النصوص والادبيات الدينية القديمة،فهي تحط من مكانة المرأة وتقلل من قيمتها كذات وشخص وشريكة للرجل ومكمل له اجتماعيا وانسانيا.وقد وضع اولئك الذين يصرون على السخرية والنيل من النساء الكثير من اوصاف ونعوت الدونية والكراهية والشيطنة والخطيئة كجزء من طبيعة المرأة واساس من بنيانها البايولوجي والسايكولوجي الثابت الذي لايتغير.وايضا هناك جانبا من اسباب استمرار هذه القصص والخرافات المعادية للمرأة-رغم اختفاء عدد لايحصى من الحكايات المضادة الاخرى- مرجع تلك الاسباب هو ميل النساء اليها ومحاولة تثبيتها كدالة جندرية،ولهفتها لتقمص تلك الادوار لارضاء الرجل وتجميد تلك الصورة النمطية للمرأة التي انتجها الرجل.زوج ايوب كانت عكس هذا القالب التقليدي،فهي ذلك الطائر المشاكس،ثاقب النظر ودقيق الملاحظة،وتستطيع ان ترى سوء طالع بعلها بمجرد النظر اليه.فهي تقترح عليه التوقف عن المقامرة بمصيره فورا قبل او بعد فوات الاوان:الولاء لله،والموقف من الحياة،متابعة التجديف حتى منتهاه،وماخططته لنفسها كان غامضا لابعد الحدود،والسفر لايخبرنا ان كانت زوج ايوب تؤمن بالله مثله ام لا،او بأي شيء اخر على الاطلاق؟!.وخلافا لايوب واصدقاءه،تظهر زوج ايوب وتختفي في سياق السرد مثلما اختفى الرب والشيطان.والغرض من ذلك طبعا هو عدم ملاحظة او الانتباه الى ان هذذه المرأة العاقلة كانت صريحة في بيانها،واعلنت تمردها الكامل على الرب فيما قالت وهو تحريض مباشر لزوجها على تقرير مصيره بنفسه.يكفر بربه ثم ليكن مايكون.وحدث ذلك ثم تراجع عنه ايوب بعد مجيء الله.ان سفر ايوب هو جزء من كتاب مقدس يعترف ويؤمن به مئات الملايين من الناس عبر التاريخ وحاضرنا الان.لذلك كان سفر ايوب جديرا باهتمام عقول لاهوتية وعلمانية عظيمة،وتأثر واهتمام ب:بهاء وعذوبة شعرية النص،ورهافة الاسئلة الصعبة،ومفارقات النص وتناقضاته وتوتره،ودرامية مصير ايوب،كل هذا واكثر يجعل منه خطابا دسما غنيا بالعاطفة الدينية والمشاعر الانسانية وذرى التعقيد والتصعيد النفسي.وقد عمل الكثير من الكهنوت الحاخامي وآباء وكهان الكنيسة على تأويله وتفسيره،ورؤية تاريخ وحكاية ايوب كرواية او حقيقة شبه تاريخية-شعبية،وايضا فهم لحظة الشك والتنكر التي بلغها ايوب.ومايجب من ضرورة تخفيف حدة الاندفاع الايوبي المارق بخلق الاعذار،والاحتياط في تأمين يقين البعض الاخر واحترام ايمانهم.تماما كما وقف المكابيين والحسيدية امام حركة الاصلاح الديني الكوزموبوليتاني،فحجبوها عبر التاريخ على مبدع ايوب القصة.لكن ايوب بطبيعة الحال ومهما قيل بخلاف ذلك خاض في غمار الشك الموحل بلا جدال،وخرج منه مؤمنا ابيض!.
ونحن نختم مقالنا الموجز والذي حاولنا فيه تسلط بصيص من ضوء على سفر ايوب،ولم نفلح الا جزئيا في ذلك،نطرح سؤالنا الاخير الخارجي المتهافت:هل كان في دراما ايوب الدامية -في بدءها والكوميدية في نهايتها وكأننا نشاهد فلما هنديا!-شيء ولو ضئيل من الحكمة الالهية المدعاة؟!.وهل كان في هذا الرهان الالهي-الشيطاني،هذه المقامرة الهزلية والخالية من القواعد والشروط والاخلاقية ادنى ذرة من الحصافة العقلية والمبررات الاخلاقية،والحد الادنى من الدلالات على نزاهة ومنطقية القيم اللاهوتية؟!.من الذي انتصر في هذا الرهان العبثي الباطل؟!.الله !ام الشيطان!ام هو ضحية االرهان،مادته وموضوعه:ايوب؟!.لانعتقد بأن هناك منتصر حسم الفوز حتى النهاية.فالله انتصر جزئيا بعد ان جعل من حياة هادئة مستقرة،خراب شامل لحياة واسرة انسان لم يؤذي ذبابة مسالما كشجرة،لالشيء الا ليرضي الله غروره ومجده كاله،ويلعب الشيطان لعبته الخالدة التي انتدب لتحقيقها،والشيطان كذلك كان انتصاره جزئيا عندما قامر على ضعف الانسان وعجزه وطاقته المحدودة على التحمل،ومع ذلك اعيته الحيلة في قلب الايمان الذاتي وروح المقاومة الى سقوط وانكار وردة.وأيوب وحده لم ينتصر او ينهزم،بل كان بكل بساطة انسان بكل عظمته وضعفه،في سموه وحضيضه،انسان من لحم ودم،من قوة وضعف،جابه مصيره التراجيدي الذي تلاعب به الله والشيطان معا،ولكنه لم يرضخ او يلين.فكان منتصرا في هزيمته،ومهزوما في انتصاره امام قدره الغاشم.لم تمنعنا غلالة العبرة والموعظة الشفافة،او الدرس الديني-التربوي المطلوب من رؤية التجلي السامي لمجد وعظمة وايضا القدرية والبؤس والاغتراب الديني للانسان!...
..........................................................................................................................................................................
وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس يبحث تمويلا إضافيا لإسرائيل| #أميركا_اليوم


.. كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي: لدينا القدرة على




.. الخارجية الأمريكية: التزامنا بالدفاع عن إسرائيل قوي والدفاع


.. مؤتمر دولي بشأن السودان في العاصمة الفرنسية باريس لزيادة الم




.. سر علاقة ترمب وجونسون