الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما سبب إضطراب الشخصية المصرية؟!

ياسين المصري

2020 / 1 / 25
المجتمع المدني


عندما يحكم الرعاع والحمقى تنهار القيم في المجتمع، وتضطرب شخصية المواطن، فتحل بها البلادة والسفاهة والسفالة والغباء على كافة الأصعدة. والرعاع من حيث التعريف اللغوي هم سِفْلة الناس وأَرْذالهم وغوغاؤهم، والتعبير لا صلة له بالوراثة أو مستوى التعليم أو بالفقر والغنى، ولكنه يدل على سلوك المرء وتصرفاته تجاه غيره من الناس، بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى.
طالعتنا جريدة الأهالي في 21 ديسمبر 2019 بخبر بسيط ولكن له دلالات قوية، يقول:« إن الأستاذة/ ماجدة راشد، مديرة مدرسة طلعت حرب الإعدادية بنات، بكفر الدوار نشرت على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي أسماء الطالبات اللاتى لم يسددن المصروفات المدرسية وبررت ذلك أن الإعلان أتى من واقع الخوف على مستقبل الطالبات وأن الغرض من إعلان أسمائهن هو الوصول لهن بأى وسيلة »!.
وقالت الجريدة:« حصل للأسف من هذا الفعل المشين الذى ارتكبته هذه المديرة (التربوية) هو تشهير بالطالبات واهاليهم وسيترك أثرا كبيرا فى نفوسهم..هذا الفعل يدل على سوء إدارة المدرسة وأنها لا تقوم بواجباتها تجاه طلابها».
وتساءلت الجريدة:« ألا يوجد أخصائي اجتماعى داخل المدرسة يقوم بدراسة الحالات ذات الاحتياج للدعم.. لو وزير التعليم هو من يعطى التعليمات بذلك فيجب محاكمته معكم بفعل التنمر بالتلاميذ واهاليهم».
http://alahalygate.com/?p=102307&fbclid=IwAR0ZdMpQysUCqv_wQgzHPXW9X0b_JTJztrbcNGnFIC2QYTCwo3yrQRHDRX0
ما الذي جعل مديرة مدرسة تتخلى عن عملها التربوي، وتتصرف هكذا ببلادة وسفاهة وغباء، حتى وإن كان رئيسها مصابًا بهذه الأمراض وصدرت منه تعليمات بذلك؟ الأمر المرَجَّح بشكل كبير!
أحداث كهذه وأفدح منها تحدث يوميًا في المجتمع ولا أحد يهتم بها وربما لا يلتفت إليها، لأنها أصبحت منظومة اجتماعية عامة وشاملة، وقد اعتاد عليها الناس. وسوف نجد أشخاصًا وقد رأوا في هذه الأحداث على أنها سلوكيات طبيعية، ولا غبار عليها، وأنَّ مديرة المدرسة كانت حسنة النية!، وهم لا يعرفون ولا يريدون معرفة أن التعامل العام مع البشر لا يتم بحسن النية على الإطلاق، بل بالعلم والتأهيل والالتزام الشخصي بالمعايير الإنسانية والأخلاقية خاصة في الأشياء التي لا تنظمها القوانين.
بداية يجب التأكيد على أن كل مجتمع بشري مهما كان متقدمًا أو متأخرًا، غنيًا أو فقيرًا، متعلمًا أو جاهلًا، يوجد فيه - من الجنسين - الأشخاص الحصفاء والبلداء، والأذكياء والأغبياء، والوقورون الحكماء والكسالى المأفونون جنبًا إلى جنب بتقديرات متفاوتة؛ المشكلة عندما يطغى ويستفحل فصيل البلداء السفهاء، وتكون له اليد العليا، والكلمة الأولى والأخيرة في المجتمع.
من المفروض والمتبع في أي مجتمع صحي متحضِّر، يلتزم بالعلم والتأهيل المهني والقوانين والمعايير الإنسانية والأخلاقية، أنه عندما يظهر على السطح عمل بليد أو سفيه أو أرعن من نوع ما وبشكل ما، وهو دائما ما يظهر، أنَّ تقوم بمعالجته فورًا مؤسسات أعدت خصيصًا لذلك ولديها من الآليات والأساليب القانونية والعلمية ما يمكنها التصدي له بصورة رادعة، كيلا يتفشى في المجتمع ويصبح كالغذاء اليومي للمواطنين.
يقول الفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو في كتاب ”نظام التفاهة“، إنَّ العالم الآن يسيطر عليه التافهون، وأصبحوا يحكمونه، وأن جذور حكم التفاهة ولدت مع عهد السيدة مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية (1983 - 1979)، يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، واستبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة governance»، وهي الممارسة الحركية لسلطة الإدارة والسياسة، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك أو المتلقِّي الرسمي official receiver». في النهاية صار الشأن العام مجرد تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومُثُل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة لمن يحكمها ويتحكم فيها. صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. وصار السياسي هو الصورة السخيفة للناشط ”اللوبي Lobby“ الذي يعمل لمصلحة «زمرته» من جماعات ممارسة الضغط. يمكن تحميل أو قراءة الكتاب على العنوان التالي:
https://bostan-ekotob.com/bostan/9/39.pdf
هذه الحقيقة العالمية التي كتب عنها ألان دونو بدأت رسميًّا في مصر وقبل عهد السيدة تاتشر بأكثر من عشرين عامًا، ولم تكن التفاهة وحدها هي التي سادت المجتمع المصري من أعلاه إلى أسفله، بل ومعها البلادة والسفاهة والغباء، فهذه السيدة مديرة المدرسة ليست تافهة بقدر ماهي بليدة وسافهة وغبية، إنها وجدت نفسها في مجتمع تحكمه وتتحكم في مساره منظومة عامة وشاملة، انعدمت فيها جميع القيم والمُثُل والمبادئ والمفاهيم العليا. فأصبحت متناسقة معها وخاضعة لما يتدفق إليها من أعلى الهرم وما يجري حولها.
شاء القدر لمصر أن تقع في قلب أمَّة، قال عنها شيخ الأزهر الراحل د. محمد سيد طنطاوي في خطاب افتتاح المؤتمر الخامس عشـر للمجلس الإسلامي الأعـلى في 22 إبريل 2002 في القاهـرة، « إنها أمة من الرعاع فيها الظلم وفيها الكـذب والغـرور، وفيها رذائل لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنها».
شيخ الأزهر بحكم وظيفته، لم يقل إنها أمَّة محكومة بثقافة دينية - فاشية، ترفع من مستوى الغباء والسفالة لدي مواطنيها، مما يجعلها من أكثر الأمم تخلفًا وانحطاطًا. وأخذ هذا المستوى شكلًا وبائيًا حادًّا في مصر مع امتزاج الفاشيَّتيْن العسكرية والدينية معًا في منظومة سياسية واحدة، فما أن انقض ثلة فاشلة من ضباط الصف الثاني في الجيش على السلطة السياسية في البلاد عام 1952، واغتصبوها لصالحهم، وسلطوا عليها شخص منهم، يقرر وينفذ بنفسه ما يشاؤون، حتى بدأت على الفور منظومة ممنهجة من التفاهة والبلادة والسفاهة والسفالة والغباء تكتسح كافة مجالات الحياة، ولم يمر وقت طويل حتى وصلت إلى قاع المجتمع، حيث يستوطن الفقر والجهل والمرض. وأدخلت البلاد في مرحلة تغييرات اجتماعية وسياسية عاصفة إتسمت بالهمجية والعشوائية والجهل وانعدام الثبات والعلم، ومن ثم انهارت منظومة الانضباط الذاتي وتهشَّم النمط الثقافي والقيمي للدولة والمجتمع.
المعروف والمتبع في تربية العسكر سواء في الجيش أو في الشرطة، كما هو الحال مع الأديان، أن يفعل المرء ما يؤمر به، ولا يعترض عليه، وأن يصدِّق ما يقال له حتى وإن كان خطأ، فالطاعة والإذعان من أهم القيَم العسكرية والدينية، ولكنهما لا يصلحان بالمطلق كمقومات للعمل السياسي الذي يتعامل مع مجتمعات بشرية مختلفة الأعراق والأجناس والمفاهيم، وتمتلئ بوجهات نظر متباينة وآراء متضاربة واحتياجات متفاوتة ويعج بالتناقضات والصراعات في كافة مجالات الحياة، وأنْ أي عمل سياسي لا يمكن أن يقرِّره شخص واحد بعينه مهما كانت ثقافته أو درجة تعليمة أو خبرته في الحياة، فما بالنا بعسكري لم يتعلم شيئًا في حياته؟.
إن أسلوب الطاعة والإذعان في النظام العسكري داخل الجيش والشرطة في مصر يشكلان نظامًا مكتمل الأركان للعبودية، إذ يعتبر من أسوأ النظم العسكرية في العالم، حيث يتفشَّى فيه التمييز الصادم بين الرتب من حيث المأكل والملبس والإقامة والرواتب وكافة النواحي الحياتية، وفيه احتقار يومي من الرتب العليا إلى الرتب الدنيا، وفيه ألفاظ وشتائم قبيحة متبادلة، ولا تجد فيه ضابطًا يجلس على مائدة الطعام بجوار جندي أو يأكل من طعامه. إضافة إلى العنصرية الممنهجة من حيث اللون والطائفة والدين. باختصار تنتشر فيه كافة أساليب التفاهة البليدة والسفيهة والغبية. ربما يكون ذلك موروثًا أو مأخوذًا عن الحكم العثماني البغيض.
بالإضافة إلى ذلك أنَّ أهم أهداف التربية العسكرية أنْ تعمي المرء عن تبعات أفعاله، التي تنحصر في قتل الأعداء وسلب ونهب ممتلكاتهم أو تدميرها إلى جانب أفعال لا إنسانية أخرى كثيرة، فهو لا يمكن أن يتدرب نفسيًا وعاطفيًا على تحمُّل المسؤولية عن عواقب هذه الأفعال، وإلَّا تردد في فعلها، ما لم يمتنع عنها، ولذلك لا تتوفر لديه أدنى سيطرة على آثار عمله. إي أنه لا يشعر أبداً بالحاجة إلى مواجهة فداحة تأثيره. ومن هنا يصاب بالبلادة تجاه الشعور الحقيقي بالألم، لأنَّ الخراب الذي يتسبب فيه يتجاوز ما يفهمه بمشاعره. هذا المرء لا يمكنه التعامل قط مع الآخرين الذين يختلفون عنه، أو أن يشاركهم مشاعرهم، ويحس بآلامهم، بمعنى أنه لا يصلح قط للعمل السياسي العام.
خلال النصف قرن الأخير، تبلور حكم العسكر في مصر إلى ما يطلق عليه الآن ”المجلس الأعلى للقوات المسلحة“ وهو تحالف بين مجموعة من اللواءات العاملين والمتقاعدين الذين يستفيدون من الفساد المادي والمعنوي للبلاد، وقد قسموا ضباط الجيش إلى ثلاث طبقات متباعدة ماديّا وإجتماعيّا عن بعضها البعض، الأولى تضم رتب الملازم حتى المقدم، وهؤلاء ينتظرون يوم خروجهم من الجيش، لعدم استفادتهم من فساد المجلس، ولذلك يشكلون معظم الذين يتقدمون بإستقالاتهم من القوات المسلحة، والثانية تشمل رتبة العقيد والعميد وبعض اللواءات الجدد وهم يرون أنهم اقتربوا من حصد الغنائم ويخافون أن ينزاح المجلس بفساده قبل أن ينوبهم نصيب مما حصل عليه من سبقهم. أما الطبقة الثالثة والأخيرة فهم باقى لواءات الجيش الذين يدينون في معظمهم بالولاء - ولو ظاهريا - للمجلس، ويرون فى إستمراره إستمرارًا لجني الأموال والشقق والقصور والأراضى.
ورغم ذلك لا بد من التأكيد مرة أخرى على وجود الكثيرين من الأفراد في الجيش والشرطة، كما يوجد في غيرهم من الفئات الأخرى، يتسمون بالذكاء والرصانة والحصافة والحكمة، على العكس من الطابع العام والسائد من حولهم.
صحيح أنَّ الرعاع يتواجدون دائمًا وأبدًا في كل فئات المجتمع البشري ويتكاثرون عبر الأجيال، ولكن في الدول الديموقراطية حيث يتمتع المواطن بالحرية والرفاهية والكرامة الإنسانية، لا يتاح لأي فرد أن يصل إلى سدة الحكم، ما لم يكون مؤهلًا علميًا ومدربًا سياسيًا ليحكم دون أن يتحَكَّم، بمعنى ألَّا يصبح طاغية، يسيطر عليه الخوف على نفسه وعلى منصبه. فجميع مؤسسات الدولة تحمل عنه عبء هذا الخوف، بمعنى أنها تتحمل مسؤولياتها بالتمام والكمال، وليست ديكورًا أو دمىً، يحركها شخص واحد تبعًا لأهوائه الخاصة. إنه لا يقود سيارة، يتحكم في قيادتها بدافع الخوف، بل المفترض أنه جاء إلى سدة الحكم باختيار حر من أغلبية المواطنين، لتحريك المجتمع نحو الأفضل من خلال مؤسسات مؤهلة أعدت خصيصًا لهذا الغرض. وحتى لو تمكن أحد الرعاع من الوصول إلى قمة السلطة في النظم الديموقراطية، فلن يتمكَّن من عمل الكثير في مجال التدمير والانهيار، وسوف يصبر عليه المواطنون حتى يزول ويترك منصبه مرغمًا بعد وقت محَدَّد لبقائه في السلطة. بينما في الدول المتخلفة التي يحكمها الرعاع ويعاني مواطنوها من القهر والفساد والانحطاط صارت الدولة مجرد شركة أو مزرعة خاصة لمن يحكمها ويتحكم فيها. ولا يمكن لأحد أن يصل إليهم أو يتعامل معهم ما لم يكن من الرعاع، ومدعومًا بقوة عسكرية غاشمة ومحاطًا بزمرة من المنتفقعين الفاسدين والجهلة السفهاء وسفلة القوم. إنه يقودهم وسط الألغام، وقد ملأه الخوف منهم وعليهم.، ولا بد من أن يحيط نفسه بالتوافه، الذين يجيدون فن الغوغائية، وأن يعتمد في حياته على ثقافة الرعاع التي لا تحظى بمظلة علمية أو فكرية من أي نوع، ولا تتوفر فيها رؤية عامة وشاملة للعمل السياسي بحيث يتسع لكل المواطنين.
يعد العجز من المكونات الأساسية لطبيعة الرعاع، ممَّا يحملهم على التحالف مع القوى المؤثرة في المجتمع من رجال الدين والإعلام الذين ينسجمون مع اتجاههم، لضمان بقائهم في الحكم أطول وقت ممكن، وفرض أجندتهم على العمل السياسي والاجتماعي والثقافي في المجتمع، ومن ثم دمجها تدريجيًا في الحياة العامة للمواطنين، بحيث تصبح بمرور الوقت وكأنها الطعام اليومي لهم. ونظرًا لأن المواطن العادي لا يطيق الطاعة والإذعان بشكل مطلق، فإنه يخلق لنفسه عالمه الخاص وينخرط فيه غير مبالي بما يحدث حوله. ليس من الضروري أن يرتبط ذلك بانخفاض مستوى تعليمه، بل نجد أن أصحاب الشهادات العليا المتخصصة، وحاملي الألقاب يكثرون في المجتمع ولكنهم لا يمتلكون أي من الفطنة أو الكياسة أو الذكاء السلوكي وليس لديهم الفكر السديد والتعامل السوي مع الأحداث من حولهم، وينخرطون بوعي أو بدون وعي في المنظومة السائدة في مجتمعهم.
لا ننسى أن هذا الجيش لم ينتصر قط في حروب عبثية عديدة أرغمه الحكام العسكريون على خوضها خلال النصف قرن الماضي، ومع ذلك يروِّج قادته من خلال الدعاية الإعلامية أنه من ”خير أجناد الأرض“!. هذه الكذبة لا تعني شيئا بالنسبة لهم، لمعرفتهم الأكيدة بحقيقة أنفسهم، ولكنها تعني الكثير لهم وهم يحكمون ويتحكمون في المواطن العادي، فينقلون إليه خواصهم العسكرية ومعها قدر كبير من تضخّم «الأنا»، وتفخيم الذات؛ وفي أذهانهم أحكام مسبقة عن أنه جاهل وعبد، يخاف ولا يختشي، ولا يصلح التعامل معه إلا بالضرب والقهر. وبدأنا نسمع عبارات شاذة مثل: ”إنت ما تعرفش [أنا] مين؟“ كمسوِّغ لتمرير البلادة والسفاهة والغباء، و”مين“ هذا، إمَّا أن يكون عسكريًا أو مدعومًا أو محكومًا بشخصية عسكرية متسلطة.
إن إصابة الحكام بتضخم [الأنا] وتفخيم الذات مع جهلهم تعمي أبصارهم وبصائرهم، فينتشر الدمار والفساد والمحسوبية وتفتقر العقول للفكر السوي والمنطق السليم في التعامل مع الحياة وأحداثها المختلفة ومواقفها المتنوعة، وينعدم أو يقل التعاطف بين المواطنين، ويتَّسِم تفاعلهم مع المشاكل بالبلادة والسفاهة والغباء، ويصعب على المرء تقبل النقد والتأقلم الفعَّال مع المجتمع وعدم التحكّم في الانفعالات والتسرّع في الـحُكم على الآخرين من خلال مَظاهرهم، والتخلّي عن سلوكيات التهذيب وأدب الإنصات، وعدم الاحتـرام لاختلاف الآراء، واستمراء الجِدل البذيء والتعصّب الـمَقيت، وغياب الحس الأدبـي والأخلاقي وانخفاض مستوى الذوق العام، هذا ما نجده الآن متفشيًا في المجتمع المصري!
ولأنهم جهلة وفاشلين وليس لديهم أدنى معرفة بالعمل السياسي وقيادة المؤسسات وتوجيهها، يحاولون التحكم في كل نواحي الحياة وإدارتها تبعًا لأهوائهم ورغباتهم الشخصية، فتطغى السوقية والبذاءة على المجتمع، ويسود التشهير والذمّ والشتائم والتجريح والطعن والقدح، فضلا عن أذيّة الجسد، بالاعتداء والقتل، فتبدأ الترديات المتعاقبة والانهيارات المادية والمعنوية المتتالية، لتطال كافة مجالات الحياة دون استثناء، ومن ثم تصبح أساليب الرعاع في الحياة العامة ليست حكرا على مجتمع الرعاع وحده، إنما تشمل المستويات الاجتماعية جميعها، لتبلغ أعلاها وأدناها، فتجرف معها جميع النخب المختلفة، من الحكّام والمسؤولين والإداريين والتربويين وأهل العلم والمعرفة والثقافة، ويتعاملون بها في أعمالهم الرسمية، ويبثونها في وسائل الإعلام الموالي لهم، حتى يعتقد المتلقى البسيط أنها أمورٌ طبيعية يتعاطاها الآخرون في مختلف البلدان. ورأينا لأول مرة في تاريخ مصر من يبكي على الأطلال ويتحدث عن ”الزمن الجميل“، مع أنه لا يوجد زمن جميل وآخر قبيح، بل يوجد فقط إنسان جميل وآخر قبيح، إنسان ذكي وآخر بليد … إلخ.
في مجتمع كهذا لا يجد الأذكياء والحكماء وأصحاب الفطنة والكياسة أي دعم من أحدٍ، فيضطرون للتقوقع خلف الأبواب المقفلة لحماية أنفسهم من بطش السفهاء، أو يتركون الوطن دون رجعة!
إنّ أساليب الأقليات الحاكمة في العمل السياسي العام سواء كانت عسكرية أو دينية أو عائلة أو غيرها، ترتبط عادة بالمكر والكذب مع وسائل المراقبة والتخويف والترهيب والقمع والقتل والملاحقة وتكميم الأفواه، لانسجامها مع منهجها الذي لا يحتمل الاعتراض أو النقاش أو الاحتجاج، ولا يقبل إلا التهليل والترويج والهتاف، وكل ما يؤكّد الطاعة والإذعان والولاء والمبايعة المطلقة، لذلك من الضروري وجود جماعات وفِرق من المطبلين والمهللين وأبواق من المنافقين والقوّالين الذين يُغالون في إظهار خضوعهم والعمل على تبرير الفساد والإنحلال والفشل من خلال ابتكار شعارات ومصطلحاتٍ وألقاب وعباراتٍ وأيضًا تصرفات جديدة لم يعهدها الناس من قبل.
لذلك يعتمد أولئك الحكام دائمًا على أهل الثقة من الأبناء والأقرباء والجلاوزة أو ”الزمرة“ المستفيدين من ورائهم، ويحتقرون أهل العلم، بل ويحقدون عليهم ويهمشونهم ما لم يضعونهم في السجون، أو يسلطون الحمقى على قتلهم. إنهم جهلة ولا يحبون العلم والمعرفة، كما أن اعتمادهم على رجال الدين والإعلام يعمل على تجهيل المجتمع أكثر مما يعانيه من جهل وإفقاره أكثر مما فيه من فقر، وإمراضِه أكثر مما هو عليه من مرض، بهدف بسط سيطرتهم عليه، وإخضاعه لمنهجهم في البلادة والسفاهة والغباء. ورجال الدين والإعلام من ناحيتهم لا يجدون أمامهم سوى التفاهات والخرافات والدجل يبثونها في وجدان البسطاء والجهلة ومغيبي العقل والضمير، الجميع يقتات على جسد المواطن وحضارته ورقيه وكرامته، كي تتحوَّل التفاهات والخرافات والدجل إلى عملة وشهرة وأوسمة شرف... وتصبح غالبة في مصائر المواطنين وأحوالهم، تحركها "مافيا الرعاع" التي ترتاع في خراب الانسان المصري وشرفه وكرامته الإنسانية.
إن الدفع بالبلادة والسفاهة والتفاهة إلى المواطنين لا ينهض إلا على أكتاف الحمقى من رجال الدين والإعلام الذين تحولهم مافيا الحكم إلى حصان طروادة كي تتخذهم آلية لهدم المجتمع من الداخل، وإغراقه في الفقر والمرض والأمية والنفاق والأعطيات والمكافآت، بدلا من تربيته بالقوانين والصرامة وحب العمل. وبدلا من محاسبة الجناة على جرائمهم مهما كانت، يكافأون عليها، لخلق جرائم أخرى أفدح منها. من هنا برزت على مر الأيام طبقة من الرعاع بين رجال الدين ورجال الإعلام الذي لا هم لهم سوى ترويج الجهل وتعميم الخداع والكذب من خلال النِّباح والترنح والتسوُّل فوق المنصات الإعلامية، لنشر وتبرير السفاهات الأخلاقية والسلوكية بدعم من الأوصياء الساهرين على حماية البلادة والسفاهة، فمال المجتمع ميلاً لا محدودًا نحو الكثير من القبح والعفن والجهل والإفك والاستخفاف بالأرواح والعقول والفسوق والتفسخ والتخريب والأذى والتجريح النفسي والعاطفي والأخلاقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وضع كارثى محزن
عادل حسين ( 2020 / 1 / 26 - 06:51 )
هذا مقال اكثر من رائع يوضح مصيبه مصر والام مصر ومعضله شعب معذب مسحوق على مدى سبعين عام سوداء تحت حكم عصابه العسكر المجرمه الساديه الدمويه البشعه , هذه العصابه الهالكه هى من اللصوص والقتله والرعاع والاجلاف والشبيحه المرضى نفسيين الحاقدين , لجأت هذه العصابه الوسخه الى استغلال الدين لكى يكون مسكن وافيون مقدس لاافراد الشعب البائس المعذب لكى لايفتح فمه بالشكوى او الانين , تم التحالف الكارثى بين العسكر الغجر الانجاس والشيوخ الفاسدين الكذبه المرتشين لكى يفترسوا الناس ويذبحوهم ويقتلوهم ويسجنوهم ويذلوهم ذل الكلاب , حقيقه الصوره قاتمه بل كالحه السواد , التخلص من هذه العصابه المجرمه شئ صعب جدا ويكاد يكون مستحيل , ربما يكون الشئ المطلوب الان كبدايه هو الوعى بين افراد الشعب الجائع الذليل المستباح , لابد ان يعى الناس ان اكبر عدو لهم هو العسكر والشيوخ الافاقين


2 - المثقف المرتزق
عامر سليم ( 2020 / 1 / 26 - 07:42 )
الترويج لعملة البلاده والتفاهه والسفاهه والأستخفاف والدجل والخرافات والخداع والأكاذيب و و و الخ , لاتتعلق فقط بدور رجال الدين ورجال الاعلام المنبطحين لأن دور هؤلاء المرتزقه معروف ولايحتاج الى جهد في تمييزهم ( فالتاريخ سبق وصَنف هؤلاء بأنهم ينعقون مع كل ناعق) , ولكن الخطير في الأمرهنا هو دور المثقف المنبطح والخائن والذي اختار ان يكون مرتزقاً حتى دون ان يُسأل ! وهو دور في منتهى الخطوره والقذاره بما يفوق دور رجال الدين والأعلام.
تحياتي وتقديري للأستاذ ياسين المصري

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | الفيتو الأميركي يُسقط مشروع قرار لمنح فلسطين ال


.. مشاهد لاقتحام قوات الاحتلال نابلس وتنفيذها حملة اعتقالات بال




.. شهادة فلسطيني حول تعذيب جنود الاحتلال له وأصدقائه في بيت حان


.. فيتو أمريكي في مجلس الأمن يطيح بآمال فلسطين بالحصول على عضوي




.. جوزيب بوريل يدعو إلى منح الفلسطينيين حقوقهم وفقا لقرارات الأ