الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(14-الكامل).

ماجد الشمري

2020 / 1 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


التناخ..او مايسمى بالعهد القديم-الكتاب المقدس،هو مجموعة من نصوص مكتوبة،جمعت مدونة على شكل(39)سفرا.تتصدره الاسفار الاساسية الخمسة،وهي التي شكلت عمدة التوراة الموسوية،لب العقيدة المركزية لليهودية،وهي على التوالي:التكوين-الخروج-اللاويين-العدد-التثنية.اما بقية الاسفار،فكانت موزعة بين: المعنونة بأسماء علم:انبياء-احبار-محاربين-قادة-حكام-ملوك،الخ.تلك الشخصيات كانت،شبه تاريخية،وشبه تراثية،وحكاياتهم منسوجة بنفس ونسج وروي ادبي -ديني-بيوغرافي مؤسطر لتلك الذوات شبه الخيالية،ك:عزرا-نحميا-استير-ايوب-ارميا-حزقيال-دانيال-الجامعة،الخ.اضافة الى:المزامير-الامثال-الاناشيد-الملوك-الاخبار-القضاة.في خلطة كولاجية عجيبة،ومتشابكة،من التاريخ الثقافي والديني الشعبي،والموروث المتناقل شفاها،وركام من الحكايات،والاقتباسات،ومنافذ مفتوحة من التلاقح والتداخل الثقافي،وتقاليد دينية اعتقادية،جرى تمريرها وصهرها،من آداب واديان وثقافات لشعوب،واقوام،ومجموعات بشرية شتى،وازمنة واماكن مختلفة متمازجة،ذوبت في بودقة مدونة سردية ضخمة ضمها كتاب محرر بدفتين على يد :كتاب،ومؤلفين،وحاخامات،ومثقفي طبقة دينية عالمة من اليهود،وادباء،وكهنةت،ومصنفي نصوص،واقلام متنوعة شاركت بتعاقب زمني، وامتداد جغرافي،واحيانا في نفس الفترة.وكل هذه الجمهرة من الساردين،كانوا يتمتعون بموهبة مبدعة،وخيال ادبي جامح وممتع،وقدرة فانتازية خارقة للمعقول واللامعقول معا،تمزج النزر اليسير من الواقع مع الكثير الجم من المتخيل المروي،والقصص الديني العجيب المدهش،والمحلق في الخوارق والغرابة.والكتاب المقدس-العهد القديم،ليس مدونة ميثية او خرافية،بقدر ماهي:ملاحم،وسرديات ادبية-دينية،عمدتها:الحكايات،والقصص،والمرويات المتناقلة شفاهيا عبر الاجيال،وتمريرها بأضافات،وحواش،وتفاصيل متنية تراكم على الاصول،وسطرت كتابة،ليس في زمن ومكان واحد محدد،بل عبر قرون من تاريخ تلك الجماعات البشرية ذات العقيدة او الدين الواحد،والتي تلاقحت وتثاقفت واخصب بعضها البعض،بين شعوب المنطقة،لتنتج وتبدع بانوراما دينها المحلي وسط اديان متعددة تحيط بها.ذلك التنوع الخصب لتلك الثقافات التي كان يعج بها تراث منطقة المتوسط وشرقه،غزيرا متشابكا بين اقوام وشعوب واعراق هذه البقعة التي ازدهرت فيها هذه الابداعات والنتاجات العقدية -الدينية الكثيرة.ومن التناخ واسفاره ال39 اخترنا لبحثنا،وقرأتنا التحليلية:سفر ايوب،هذا السفر المتميز والمعروف كرمز وايقونة دالة على فضيلة دينية-اخلاقية،وسلوكية تربوية-نفسية.تجسد قوة الانسان،وارادته في مواجهة الشدائد واقسى المحن،والصمود بوجه اعتى النكبات.رغم هشاشة الانسان وضعفه الجسدي،القابل للسحق والتحطيم.سفر-قصة ايوب المدونة في التناخ،تبدو مسرحية ميلودرامية-غنائية في شكلها،تجلب الانتباه،وتحفز المشاعر،والتعاطف مع شخصيتها المحورية-ايوب-فهي تعرض حياة فرد انموذج في تكامله الانساني،يعيش حياة هي ايضا انموذج في الهناء والسعادة والدعة،ووفرة الخيرات والرفاه.ومساعدة المحتاج والفقير،والارملة واليتيم.ان شخصية ايوب المتوازنة:دينيا-اخلاقيا-سلوكيا،وفي التعامل مع الآخر،كانت الذروة في المثالية الانسانية.ثم تتعرض لمحنة-مدبرة-بفقدان الابناء والممتلكات،ثم تتوالى المصائب،ويزداد وضع ايوب سوءا،عندما يسلط عليه-قصدا-المرض الجلدي البشع-الجرب-لتتراكم الاحزان،والألام الجسدية مع العذاب النفسي،ليتصدع بعدها ايمان ايوب بالرب،وعدله الالهي،ويصرخ بأتهام ولوم:بان ليس هناك من عدالة الهية،وهو يرى في ماحل به اكبر دليل على ذلك!.فماجرى لايوب لم يكن لذنب ارتكبه،او معصية اقترفها،بل كان موضوعا لتجربة اختبار ورهان بين الاله والشيطان،وكأنه فأر تجارب لااكثر!.وهذا لعمري ابشع انتهاك وتلاعب بمقدرات انسان مثل ايوب.وبعد تأنيبه وحوار الله معه،يتراجع ايوب عن تجديفه،وتسفيهه لعدالة الرب،ويتوب،متعلقا من جديد بحبال ايمانه،والتي اثبت فيها ايوب:سذاجته وطيبته وثقته العمياء بالله،وتحت تأثير حجج ربه،ورهبة لائحته السرية.ليعوضه الله لاحقا،بعائلة جديدة بديلة عن التي فقدها من بنين وبنات،ومواشي واملاك!.لينسى تجربته القاسية،ويستأنف حياته،بعد ان يمنحه الله عمرا مضافا:140عاما:"ثم مات ايوب شيخا وشبع من الايام"هذه هي اخر جملة في سفر ايوب.هذا تلخيص سريع لحكاية ايوب الارشادية.وكما قلنا تتسم القصة الايوبية بالميلودرامية الغنائية،وتعبر عن الانفراج الوجداني،بعد احتقان وحصر عاطفي متوتر،يعقبه التطهير النفسي التنفيسي،فيشعر القاريء او المستمع بالراحة والرضى والسكينة،وكأن شيئا لم يكن!.ويستطيع القاريء العودة الى النص كاملا في سفر ايوب،ويتلمس الهدف الوعظي البيداغوجي-الديني لتهذيب وتربية النفوس المؤمنة على التواكل والاستسلام لمشيئة وحكمة الله الغامضة،والتحلي بالصبر على المحن،وانتظار مزاج الرب الحسن،وفرجه القادم.ان قرائتنا لقصة ايوب ستكون مختلفة تماما عن القراءات التفسيرية التقليدية للرواية الرسمية،وكما هي مدونة في العهد القديم،وتحليل مغزاها،والغاية منها.فتحلينا للنص سيتخذ مسلكا آخر مغاير،وبعيدا عن المعاني والدلالات الايمانية والمنحى التعبدي،ونهجها في اختراق العقول والقلوب،واسلوبها الارشادي المدرسي المبشر والمحتفي بالعناية الالهية،ومنع السؤال،او الشك او الاعتراض على حكمة وسداد وعدل قرارات الله في رسم وتحديد مصائر البشر والتحكم بسبلها.مخلوقات الله البائسة التي عليها ان ترضخ وتسلم لكل الظروف:خيرا وشر،رفاه وحرمان،نعمة و عذاب،بقسمة ضيزى اعتباطية بلاموازين العدل او المساواة.ان سفر ايوب،وكما اراده محبر النص،ليس هو عن الصبر والجلد،ومعاناة الخطوب،والخضوع لارادة الله،والقبول بمشيئته كرها،وكيف شاء،وكما يشاء،فعال لما يريد،بعبيده الفانين،كما يريد ويرغب،بلا اعتراض وبلا شكوى او احتجاج او مراجعة او قول لا!.كما انها ليست حكاية للعبرة،ولاامثولة او درس ايضا،ولاترويض النفوس على الطاعة.انها قصة-غاب فحواها عن المؤلف،وضاع في متاهة سفره!-التمرد المبتور للانسان،ومواجهة القدر الغاشم المسلط عليه عندما لايجد منطقا في الجور،ولايرى عدلا وقد ظلم-العدل بالمعنى الانساني الذي يعرفه ويفهمه-وعلى النقيض يجد عدلا غريبا،مشوها،معوجا،فاجعا،ولايتسم بالحد الادنى من الانصاف او الحق.عدل هو الظلم بعينه،ذلك هو العدل الالهي المزعوم!.عدل جائر بلا مبررات او تفسير.انها قصة اللعبة الالهية،قصة حيرة وذهول الانسان،وفقدان المعنى والحكمة،واختلال القيم الاخلاقية والقانونية،وغياب الحجة والبيان في توضيح علة العسف،ومايصب على البشر من عذابات وارزاء ومحن،خاصة للابرار المتقين الملتزمين بشرائع ووصايا الرب،كحال ايوب،بطلنا السيزيفي.فكيف تدان وتعاقب البراءه،وكل ذنبها هو براءتها؟؟؟!!!.ان تسحب وتلقى في النار،واياك ان تحترق؟!ان تجر جرا الى الكفر بالعناية الالهية،ثم يقال لك حذار ي ان تجدف؟!.انه الجدل الهازل بين الايمان والتجديف،والرهان المتعسف!.
متى،وكيف،ولماذا حدث هذا الانقلاب الكبير من وظيفة بايولوجية طبيعية لعضو في جسد الانثى البشرية الى اداة ورمز ومركز في المنظومة الشبقية-الغريزية الذكرية، وعنصر جديد في توليد الاثارة الجنسية وتكثيفها ورفعها لاقصى منسوب لبلوغ الاوركازم وتفجر الذروة؟!.لم اكتسحت وصادرت عاصفة الجنس الحداثي-المتمدن هذا الجزء المرتبط بديمومة الحياة لتضمه الى بقية التضاريس البؤرية في خارطة الجسد الانثوي لتعميق المركب الجنسي الى اقصى مداه؟!.لقد تم الاحتلال الذكوري،ليستوطن حيزا ومنطقة لاتخصه من جسد الانثى،واعلنه ملكية خالصة،ومجال متعي-لذوي خاص،ويحرم الوليد-الطفل من مصدر ونسغ البقاء الحيوي،ليكون احد مراكز اثارته الجنسية،بدلا من كونه عضوا متخصصا باطعام الوليد،وهو وظيفته الاساسية حصرا كما هيأته طبيعة التطور للحيوانات-الثديات اللبونة.
ولماذا انتقلت وتحولت وظيفة هذا الشريان المدر للدم الابيض،والذي يستمد منه الطفل عصارة وجوده ونموه وبقاءه الى ضرع مهمل لوظيفته حتى يتعفن لبنه ويجف،الى ذلك الدور الاناني القح، ويصبح ضرعا للكبار من الذكور للاستمتاع وتكثيف نسبة الايروسية لدى الذكر المنتعض،والمستعمر لكل جغرافيا الجسد الانثوي؟!.تلك الانانية الصارخة غريزيا،والتي جندت ووظفت كل زوايا وطيات جسد الانثى كمادة اثارة رهن الاشارة،وجاهزة دائما لتحقيق الرغبات واطفاء نيران السعير الجنسي،مع تغييب الشخصية-الذات،وكينونة المرأة كفرد اعتباري ند وموازي للرجل في البشرية والكرامة.ثديا الانثى-المرأة هما الجهازان المعدان اصلا لرضاعة ولائدها،وهو دورها البايولوجي الوحيد كما حددته الطبيعة فسيولوجيا لكل عضو من اعضاء الجسد الانثوي المغاير في وظائف الاعضاء عن الجسد الذكري.وارضاع الاطفال هو مهمة الاثداء الانثوية الاساسية والوحيدة لاغير.
ولكن بعد مصادرة الذكر للاثداء واستيلائه عليها كفت عن اداء وظيفتها ومهمتها الوحيدة:الرضاعة الطبيعية.ليستعاض عنها بالحليب المصنع كبديل غير طبيعي لغذاء الطفل!.فثدي الانثى امسى احتكارا خالصا للذكر!.ليقتصر دور الثدي على كونه مجرد عنصر اثارة واغراء وتحفيز لاهواء ورغبات ونزعات الذكر الجنسية المتعاظمة،والتي تحقنها المخيلة المنفلتة بمزيد من الصور والاوضاع الايروتيكية.كل الفتحات والثقوب والطيات في جسد الانثى باتت مهابل مستعارة وتعويضية عن المهبل التناسلي الفعلي-الرسمي.ومابين الثديين ذلك المنزلق السري صار غمدا مهبليا خارجيا استعمله الذكر كتنويع مستحدث في اوضاع وممارسات الجماع!.فالذكر-الرجل:ينظر الى الاثداء،يتأملها،يلمسها،يهصرها،يمص ويداعب ويفرك الحلمتان، يرضعهما كنوع جديد من الرضاعه غير الطبيعية والغريبة للكبار!..واستحواذ غير مبرر او معقول على منطقة محددة من جسد المرأة-وكأن بقية الاجزاء غير كافية لارضاء واشباع شبقه!-هي اصلا لاتعنيه ولاتخصه ابدا.وكما ذكرنا،عضو مخصص لانتاج الحليب للقادمين من الاجنة البشرية،وتأمين غذائهم بالرضاعة لفترة من الزمن،فلم صادره الرجل لحسابه الجنسي؟!.
ماكان وظيفيا-انسانيا وحيويا في ضرورته،وسنة طبيعية لممارسة الوجود،واعادة انتاج الحياة والذرية،اصبح دون الانساني،حيوانيا-مع ان الحيوانات الثدية لاتمارسه!-وبسمات الجنسية الانانية المتوحشة،والعارية عن القيم الطبيعية الاصيلة لدى الكائن الحي وعموم الحيوانات.ان ما اقدم عليه الذكر-الرجل وكرسه لنفسه،واستجابت له الانثى-المرأة ايضا عنوة ثم تكيفت له،وصار جزءا من بنيتها السلوكية-الجنسية الضمنية،هو في حقيقته عبارة عن زحزحة وانحراف،او نقل وانقلاب وظيفي من السليم والطبيعي في منطق الاشياء،واسقاطها في وحل الحيوانية-بالمعنى الجنسي ،وليس بالمعنى الحيواني كصفة هي اصلا لاتتميز بها الحيوانات-والشبق والآثرة الرغبوية!.انها سرقة فاحشة للقمة الرضيع السائلة،وتحويلها الى علاقة شيئية للعب والاثارة،والهوس الايروسي النافل وغير الطبيعي!.
فالاثداء،هي الجزء الاكثر التصاقا ودلالة بمعنى وهدف تجديد الحياة واعادة انتاجها واستمرارها،ولكنها انزلقت وتجاوزت لمنعطف غريب طاريء،وانحرفت لعملية تشيوء وتسليع جنسي برجوازي،وكعامل اثارة وتهيج وتفاعل شبقي متبادل بين الجنسين،فباتت الاثداء المتكورة المنتصبة بحلماتها الناتئة المدببة اداة لتوليد ومضاعفة اللذة الجنسية،واحتكارا خالصا للعبة الذكر-الرجل الجنسية.،واستسلمت الانثى-المرأة لمزاج ونرجسية الذكر،وانطبعت به،وتكيفت وتطبعت له،وصار جسدها بمراكزه المغرية وسيلتها للدفاع وتكتيك للمناورة،وشبكة للايقاع والاحتواء والسيطرة غير المباشرة،ليكون ذلك العضو الاكثر تعلقا بديمومة الوجود البشري،وخصوصية وظيفته من جسدها،قيمة جنسية استعمالية،ومنفذ لتفريغ شحنات الاوركازم الفحولي العارم!.
وماكان قيمة بايولوجية ضرورية للنسل الجديد،اضحى قيمة جنسية استهلاكية،وسلعة رغبات للتبادل معروضة عبر شيكة السوق الايروسي!.متى وكيف حدث هذا الانقلاب الوظيفي للثدي؟!.كان الثديان لدى الانثى البشرية،وبقية الحيوانات الثدية هو نتاجا للتكوين البايولوجي،وجميع اللبائن التي ترضع صغارهاـواستمر ذلك لعصور واحقاب من تاريخ التطور الطبيعي،وحتى بعد ان انتصب الانسان واقفا،ومشى،ثم اخترع اللغة عبر العمل والتواصل الجماعي مع افراد جنسه،ظل الثدي جهازا خاصا للرضاعة،وبعيدا عن اهتمام او التفات الذكر كموضوع للاستمتاع الجنسي،ولم يفكر قطعا بذلك،حتى مجيء العصر البرجوازي ونظامه القائم على الاستغلال والربح،ونجاحه الساحق وهيمنته الكونية،عندما سلع كل شيء من البشر الى الحجر وموجودات الطبيعة،ولم تكن المرأة وجسدها استثناءا من طابع التسليع والتشيوء والاستغلال الجنسي الذكوري والطبقي،بل مضاعفا اكثر،فصارات تضاريس جسد المرأة دائرة جنسية محض،والثدي كجزء من الجسد الانثوي ماديا ورمزيا علامة وعنوان للاثارة وتوليد الشبق،والثدي الذي كان مستترا-مكشوفا مهيأ بالكامل لفم الرضيع،اصبح شهيا في استتاره وعريه،ومادة جاذبة لفحيح الفحولة الذكرية الشرهة كأضافات ثقافية-جنسية جديدة ومن الطراز الاول،بمعية مراكز الاثارة الاخرى المكتشفة والخبيئة،من:مؤخرات وافخاذ ضخمة وبقية مكامن الاثارة في الجسد الانثوي،وبأشتغال وامتداد المخيلة الايروتيكية الجامحة،وذات الشطح والميل للتنويع وخلق النماذج المبتكرة والمخترعة لاوضاع واشكال وممارسات جنسية مستحدثة لاسابق لها في تطرفها ومغالاتها،ولم يعرفها لاالذكر البدائي ولاانثاه، وكانت ايضا معدومة في الانماط الاجتماعية والنظم التي سبقت الرأسمالية.
كان رجل في ارض عوص-اين تقع ارض عوص؟لااحد يعرف!.ربما كاتب النص وحده يعرف!م.ا-اسمه ايوب،وبعد تقديم ايوب ووصفه وبيان احواله الشخصية وتعداد ممتلكاته.يقفز النص الى مشهد آخر سماوي:فذات يوم-الزمان هنا ايضا غير محدد،مجهول!م.ا-اجتمع بنو الله-"بنو الله"مذكورة حرفيا في النص التوراتي،وليست من عندنا!م.ا-امام الرب،وحضر الشيطان الاجتماع!(يبدو ان الله وبنوه كانوا يجتمعون في منتدى سماوي، فيتحاورون ويتسامرون،وحضور الشيطان ليس غريبا او مفاجئا،فله حضوة،ومرحب به كعضو في النادي الرباني!.م.أ)ادرك الله،ان الشيطان قد:"وضع قلبه على عبده ايوب".وهو يسأله-هذا ماورد في بداية السفر-ومن هنا اصبح ايوب موضوعا،للعبة الله-الشيطان ،او الطرف السالب-المفعول به، في معادلة المقامرة او المساومة والتباري السماوي ولشوط طويل،من الرهان العبثي،والمفتقر للمغزى،هدفه:فوز الذات الالهي او الشيطاني!،فهو رهان لايخرج عن كونه صراع ارادات،واشتباك امزجة،ولاعلاقة له بحق او باطل،او خير وشر،بل هي منافسة بين غريمين غايتها اثبات الذات،والانتصار في معركة بالغةالصبيانية و السفه،على حساب الم وعذاب انسان لم يرتكب جرما،وخضع كرها لتجربة،كفأر مختبر لاحول له ولاقوة!.فأيوب كان مثالا في الاستقامة والصلاح والنزاهة،وقدوة في التقى والكرم والاحسان ومكارم الاخلاق،وأنموذجا في الرحمة والشفقة،ونجدة المحتاجين من:ارامل،وايتام،ومساكين،وعابري سبيل.ولم يكن الشخص المناسب لتجربة اختبار مدى ايمانه،ودرجة رسوخ تقواه وبره.فهذا محقق وثابت، ومشهود له من خلال ورعه ومثاليته الدينية وسلوكه الانساني،فهو متخم بالايمان،وكما جاء في سفره،تعدادا لمناقبه واخلاقيته الرفيعة.فقد كانت له عائلة غاية في الطاعة والانسجام والسعادة:7بنين و3بنات،وزوج كاملة في الصلاح والوفاء،امرأة فاضلة تقية،تطابق ايوب سلوكا وعقلا ودين.وكان عنده الكثير من العبيد،وارض واسعة مترامية،وقطعان من الماشية:7آلاف من الغنم،و3آلاف من الجمال،500فدان بقر،و500أتان،وخدم منزل عديدون.وبهذه الملكية الكبيرة،كان ايوب من اعظم ابناء الشرق غنى وبلهنية حياة،وكان يطعم الجياع بغير حساب،ويبذل الوسع في العناية بيتامى منطقته،وكان جوادا كريما مرحبا بأبناء السبيل،والعابرون،ولم يقصر او يتوانى في تقديم العون والمساعدة لكل محتاج ذو خصاصة،فكانت خدمة المحتاجين هي واجبات عليه،وحقوق لهم.اما الجانب العبادي-الديني فكان يلزم نفسه حتى بتقديم اضحيات خارج المقرر،والواجب الديني الطقسي التكليفي المطلوب من اضاحي،وكل يوم تحسبا،وخشية من ان يكون هنالك ذنب او معصية ارتكبها ابناءه سهوا او جهلا،او:"جدفوا على الله في قلوبهم"!.فهل انسان بهذا السمو الديني والانساني ممكن ان يشكك في ايمانه،ويجب تعريضه للامتحان لقياس نسبة ايمانه،بتدمير حياته كليا،ليرى المراهنان السماويان،هل سيبقى ايوب مؤمنا صامدا، ام لا؟!..
تراجيديا ايوب بدأت عندما تباهى الله متفاخرا بتقوى وورع ايوب،وقامر على ذلك ضد الشيطان،طبعا على ايمانه به،وليس على اخلاقياته وسلوكه الفاضل،وانسانيته الفريدة!.قبل الله التحدي،وهو يراقب ايوب امام الشيطان الذي استهان بهذا التفاخر الالهي وقلل من قيمته.فقد فسر الشيطان كمال ايوب الديني،وتقواه،برده الى ثرائه الفاحش،ورفاه حياته،وايضا ليس لديه مايشكو منه او ينقصه،اي ان ايمانه نوع من المجانية غير المكلفة، اوتدين الاغنياء المرائي،وهذا هو العامل الذي جعل من ايوب متميزا في ايمانه وعبادته،وبهذه الاستقامة الورعية والتقى الملزم،ترف في العيش يجب ان يقابل بالشكر والامتنان.جادل الله الشيطان محاججا،بأن ايوب سيبقى مؤمنا ورعا،ومخلصا في عبادته،حتى لو كان فقيرا محروما من كرم وعطاء الله.وعندما طلب الشيطان من الله ان يطلق يده حرة في التصرف،وفي تعريضه للتجربة العملية،ليثبت رأيه،بأرتداد ايوب،وكفره،حالما يفقد مايملكه،ويفقد ابناءه ايضا.وافق الله على ما اقترحه سيد الغواية والسقوط،،واعطى له الضوء الاخضر في العبث وتخريب حياة ايوب،من اجل النصر في الرهان اللاهوتي الحكيم!. خاض-وبالاحرى خضع مرغما- ايوب تلك التجربة المرة،-كلعبة يتجاذبها طفلان!-بجلد وصبر لايلين،بين سندان قناعة الرب بثبات ايمان ايوب الراسخ،وبين مطرقة الشيطان وألآعيبه التي لاتنتهي،والضرب بقوة لزعزة ذلك الايمان،واسقاطه في وهدة الكفر والتجديف،وايضا لاثبات قناعته بفساد الانسان وميله للانحراف.كان ايوب يسحق دون رحمة.في واحدة من اكثر صور الكتاب المقدس قسوة وبربرية،وعنف سادي دموي،تبدأ حفلة الابادة الجماعية للحرث والنسل والدواب والعبيد!.ويرسل الله-وبدون ان يرف له جفن-رسله الواحد تلو الاخر ليبلغوا ايوب بأنباء المصائب الجسام،فيخبره الرسول الاول:ان السبئيين،سرقوا بقره،وحميره،وجماله،واحتزوا اعناق كل عبيده في كل مراعيه.وقبل ان ينتهي الرسول الاول من اكمال سرد الحادث الجلل،اقبل الرسول الثاني،ليخبره بنبأ مأسوي اخر،وهو:ان نارا اسقطت من السماء فأحرقت كل خراف ايوب،ورعاتها!.وسرعان ماحضر الرسول الثالث-المصائب لاتأتي فرادى،بل جحافل!-وحالما انهى الرسول الثاني كلامه،حتى اخبره الرسول الثالث،بالنازلة الفادحة الجديدة،قائلا:ان الكلدانيين،سرقوا الجمال،وقتلوا من تبقى من عبيده!.واخيرا،ومرة اخرى،وقبل ان يكمل الرسول الثالث خبره،جاء الرسول الرابع والاخير،ليطلعه على الطامة الكبرى ،والنكبة الاعظم التي حلت باحبائه،قائلا:ان ريحا عاتية هبت من الجبال،واطاحت بالبيت الذي كانت تقام فيه مأدبة كبيرة جمعت ابناءه وبناته،كبارا وصغارا،فماتوا جميعا!.كان رد ايوب على جحافل المصائب هذه ردا طبيعيا مألوفا،فعندما يبتلى الانسان بهذا الكم الهائل من الارزاء والنوائب القاصمة لظهر اقسى الجبابرة،فكيف بأيوب:المرهف،الرحيم،المحب،الشفوق؟!.شق ثوبه،وجز شعر رأسه،ثم خر ساجدا،وهو يقول:"عريانا خرجت من بطن امي،وعريانا اعود الى هناك.الرب اعطى والرب اخذ،فليكن اسم الله مباركا".
ايمان ايوب الصادق،ويقينه بحكمة ربه،مده بالصبر،وتحمل فجيعته الشاملة،قدرة جبارة،وغير متوقعة في الاتزان،وعدم الانهيار.كان ايمانه هو درعه الحامي،وعاطفته الراجحة التي سيطرت على عقله وارادته،و التي زودته بالصمود والثبات،فقد احتمل ايوب الم فقدانه لابناءه،وزوال ملكيته من اطيان وحيوان وعبيد،وسلم امره لخالقه،متوكلا على الله،محتسبا،كاظما لحزنه وآلامه،والتي لاتكفيها،ولاتبررها حكمة وعدل وارادة الله السرية!.فرح الله،وهو يشاهد استسلام وخضوع ايوب لمشيئته المجهولة،واعترافه بأن الله هو وحده المعطي وألآخذ.في اجتماع لاحق حضره ايضا:بنو الله،والرب،والشيطان،التفت الله للشيطان،منتشيا بانتصاره في هذه الجولة،وخاطبه مزهوا بتوقعه الصائب لردة فعل وسلوك ايوب،وتسليمه ومباركته لاسم الرب.ليسأله:ان كان قد اقتنع بتقوى ايوب الصادقة؟.لكن الشيطان وكالعادة،كان يعتقد جازما:بفساد الانسان،وسهولة اسقاطه،وكفره.ليرد على الله مغترا واثقا من نفسه:"جلد بجلد،وكل ما للانسان يعطيه لاجل نفسه،ولكن ابسط الان يدك،ومس عظمه ولحمه،فأنه في وجهك يجدف"!.وماعناه الشيطان هنا هو:ان ايوب تقبل مصيبته واستكان لها،طالما هي لم تمسه بسوء،ولم يتعرض لضرر ذاتي ،وان كل شيء يهون،اذا مانجا الانسان بنفسه.ولو تعرض ايوب لشر في جسده،فسيختلف الامر.وايوب المؤمن الخاشع لله سيجدف حتما عليه وامامه،ودون تردد اذا مسه الضر،او اصيب بمرض شنيع.رد الله على الشيطان ببرود ب:ان يفعل بأيوب مايشاء،شريطة الابقاء على حياته،مع الاختبار المؤلم-الابقاء على حياة ايوب ضروري،لان بموته تنتهي الحكاية،ويفشل الرهان!م.ا-.بعد ان اخذ الشيطان الموافقة من ربه،سلط عليه مرض التقرح الجلدي من باطن قدمه حتى هامته،اي اصابه بمرض الجرب الفتاك.(من الجدير بالذكر،ان الشيطان نادرا مايظهر في الكتاب المقدس،وحتى هنا في سفر ايوب،سيتوارى،ولن يظهر ابدا بعد ذلك!.م.أ).كان رد فعل ايوب على داءه الجديد،هادئا،وهو يشاهد جلده يتقرح،ولحمه يتعفن،وكان يتألم بصمت.فأخذ قطعة من الخزف ليحك بها جلده المتشقق،ثم قام وجلس فوق الرماد.فأنفجرت زوجه في وجهه،وقد بلغ منها اليأس مبلغا،فقالت متذمرة:"الا زلت متمسكا بكمالك؟.جدف على الله ومت".ولكن ايوب كان متمسكا بحبل ايمانه وصبره وثقته وقبوله بما كتب الله له من عاقبة،ومتماسكا لم يستهلك طاقته بعد،ليجيبها بمنطق الايمان المقنع ،لابمنطق الجزع الانساني:"أألخير نقبل من عند الله،والشر لانقبل؟".جاهد ايوب مرضه بسكينه وسلام،فبعلو همته،وصبره الجميل،نجح في ذلك،ولو الى حين،ومع تلك الارادة والتحمل الخارق،وهو يكابد آلامه المبرحة،مذعنا يستمد المقاومة من عزمه الراسخ،واتكاله على مشيئة ربه.-نستدرك هنا ونتوقف وهله،ونسأل ونحن نتأمل قصة ايوب المحزنة،عن:تلك العلاقة الوطيدة بين الله والشيطان،وذلك التواطء والمهادنة،وتبادل الادوار والمصالح بينهما،ومستوى الاذعان الالهي للشيطان،ومجاراته،وقبوله بالخطط الشيطانية،والموافقة على مقترحاته دون اعتراض،وتلك الدالة الملزمة والتفويض الكامل،بفعل مايرغب به عدو البشر من اجل اسقاطهم بحبائله،وتحطيم ايمانهم،وزعزعة يقينهم،واغرائهم بأرتكاب الخطايا والمعاصي والتجديف، اهو امر مفصود،احدهم يضل والآخر يهدي؟! والا..فما معنى ذلك؟!وماهي الحكمة في التخصص وتوزيع الادوار،واحتدام المنافسة بين الهداية والتضليل،بين الخير الالهي المزعوم،والشر الشيطاني المعلوم؟!-...
لم تكن قصة ايوب الدينية-البيداغوجية لتنتهي بعرض مظاهر:الصبر والشجاعة والجلد،مع آلام الداء الوبيل-الجرب-.فما زلنا في بدايتها.وهناك الكثير من الدروس والعبر التي سيتمخض عنها متن النص الايوبي الدرامي تباعا،والجدير بالفحص والنقد.ولكي تتواصل الحكاية بتتابع حدثي وزمني،وكما دونت نصا.يحضر ثلاثة من اصدقاء ايوب الخلص،الاتقياء،الاوفياء،ليواسوه،ويرفعوا من معنوياته المتردية،ويصبروه على محنته فوق صبره.وعندما ينظرون الى وجهه،وجه ايوب صديقهم القديم،ايام عزه وازدهاره،فبالكاد تعرفوا على ملامحه التي نخرها وخربها الجرب.فشقوا ثيابهم،ونثروا الرماد على رؤوسهم،لحال صديقهم المنكود العليل،والذي كان يذوي امامهم،دون تمكنهم من اسداء العون له الا بالكلام،فنال منهم الحزن والاشفاق لما آل اليه مصير صاحبهم العزيز.ومن شدة تعاطفهم معه،وصدق مشاعرهم نحوه،جلسوا بالقرب منه سبعة ايام بلياليها!.واجمون،حزانى،على صديقهم المبتلى بمرضه البشع.يخاطبهم ايوب بلغة شعرية قائلا:"ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه،لماذا لم امت من الرحم،فأقاد من الرحم الى القبر؟.عندما خرجت من البطن،لم لم اسلم الروح؟".وعندما يحاول اصحابه الثلاثة التخفيف عنه بكلمات لطيفة عطوفة مواسية،ينبري لهم ايوب،وبنبرة حادة ساخطة وغاضبة،معبرا عن جزعه،ونفاذ صيره الطويل،فهو قد تحول الى ايوب آخر مختلف عما عهدناه فيه من خنوع وتسليم عبودي بقدره،ورضى بمصيره الكالح،لنرى ايوب جديد،ساخط،نزع ثوب الذل والمهانة،فشتان بين ايوب التوراتي،وايوب الحكاية الشعبية!.
فأيوب الحكاية الشعبية هو:الانسان الطبيعي الذي:يشعر،وينفعل،ويتأثر،ويستجيب للمؤثرات،ويتفاعل مع نكبته او مصابه،بالاعتراض، والشكوى المريرة،والرفض العاقل.والسؤال الحائر بجريرته الغائبة:لماذا؟..لم هذا العذاب؟، ولايجد جوابا على سؤاله الملتهب،جوابا شافيا يتوافق مع منطق العقل والقلب.انتظر ايوب18سنة محتسبا صابرا على الامتحان الالهي،دون ان يفهم لماذا عانى؟.وماهو هو ذنبه؟.وحتى لو كان ارتكب جرما فهل يستحق هذه العقوبة الفادحة الجائرة؟!.ووصولا الى النهاية،وبعد اعواما طوال مضنية،ي فقد ابناءه وممتلكاته،واصابته بداءه الجلدي العضال،وعذابه النفسي الممض،ظهر له الرب،ليأتيه من جديد بثروة هائلة مضاعفة،ويمنحه ابناء جدد غير الذين فقدهم!.ويمنح عمرا مديدا وصحة حتى آخر ايامه ال140سنة المضافة لعمره كتعويض!.وكأن الله يكفر عمافعله به نت كوارث لايستحقها!.هذا هو أيوب القصة المحكية الخيالية الشعبية التطهيرية،والتي تنتهي نهاية سعيدة مريحة للسامع،وان كل شيء على مايرام تحت عين الله!.اما ايوب النص الديني، السفر التوراتي الرسمي المدون،فهو ايوب آخر لايشبه ايوب الحكاية الفولكلورية.ايوب السفر لايقوى على الانتظار،فقد بلغ صبره منتهاه،ولم يعد له طاقة احتمال اكثر.وهذا مانلمسه في النص الديني،عندما تدور محادثة عقلانية-ايمانية جادة بين ايوب واصدقاءه الثلاثة،تؤدي الى مفارقة طريفة.فهدف المحادثة وفي حقيقتها-لمؤلف السفر الرغبة،والقصد في تضمين الدعاية الدينية في طيات خطاب الاصدقاء وحوارهم مع ايوب!.م.أ-هو معاونة ايوب في ادراك ومعرفة،معنى وغاية ماحدث له،وتبسيط الغامض من مسالك الرب واجراءاته.فصديق ايوب"صوفر النعماني"وبخطاب دفاعي تقليدي-مدرسي،عن صلاح العالم،وجدارته بالعيش تحت ظل النعمة و العدل والعناية الالهية،وكذلك يفعل صديق ايوب الثاني"اليفاز التيماني".وصديقه الثالث"يلدد الشوحي".فالثلاثة هم في دائرة التبرير والتسويغ للقدر الالهي،وينهلون من ثقافة دينية سائدة في المسؤولية البشرية عن: تأثيم ،ذنب،خطيئة،الخ.وكل مايصيب الانسان فهو بسببه،والله نزيه عن الظلم والشر.وان الله كلي الحكمة والعظمة،وان ايوب بشكل ما يستحق مانزل به من عقاب،فعقابه جزاء،وليس جور محض.واذا كان الله قد ظلمه بمقياس البشر،فحكمه عادل بقانون الله العادل.وماحدث لايوب من جائحة شاملة،وحسب تفسير اصدقاءه هو:امتحان الخالق للمخلوق،ويجب قبوله،ومهما يكن.وعذابه ليس بدائم،وسيتغير حاله حتما،ليصبح افضل من السابق.يقول "صوفر لايوب:"امعن النظر".وبمغالطة متحذلقة يعظه:"هنيئا لمن يؤدبه الله".-اذن ماحدث لايوب وكما يرى صديقه هو عملية تأديب تربوي الهي!-.ان صديق ايوب الاول ،بل اصدقاءه الثلاثة،ومن طرف آخر،حاولوا المزايدة على ايمان ايوب الاكثر مثالية،واظهار انفسهم،وكأنهم اكثر حكمة منه،وتجاوزا في ادراك مقاصد الله!.ولكن ما اسهل خطاب الوعظ الثرثار،عندما تكون بعيدا عن الاذى،وتجربة الامتحان الفعلي،وشتان بين يدك في النار،ويدك في الماء!.كما وحاول اصحاب ايوب،التهوين من محنة صديقهم،وحتى تبريرها بذنوبه المفترضة،والتي تتطلب التوبة،وتوسل الرحمة،واستدرار المغفرة.-لازال المطلوب من ايوب ان يبذل جهدا والصلاة الى الرب عسى ان يرحمه ويحرره من آلامه!-ولكن..هل كانت خطابات ومواقف اصدقاء ايوب تستدعي كل ذلك التحامل والتجني والاتهام والنصح المجاني،وهو على تلك الحال من العسر اليائس،والضائقة القاسية،وبهذه الصورة الخرقاء،والحكمة الغبية الباردة،والتعالم الديني الاجوف،امام بؤس ايوب القاهر وآلامه التي لاتنتهي؟!.في الواقع..ان ايوب لم يرتكب خطيئة او ذنب،لافي حق الله،ولا بحق الناس،لابقول ولابفعل،يستحق عليه عقابا بهذا الشكل الهمجي الدامي!.والامر كله متعلق بلعبة الرهان السماوية الجائرة!.فهل من اللائق منطقيا واخلاقيا توجيه اللوم والعتاب لايوب من قبل اصدقاءه،والتقرير بانه هو لاغيره السبب في ما حل به من بلاء؟!.لايمكن ان يكون ايوب محط ادانة وتجريم،ولكن هاهم اصحابه الاوفياء يوبخوه،ويعنفوه كظالم لنفسه،ومعترضا على القدير،لايقدر عدل الله وعظمته،ولايحترم نزاهته وحكمته.فهم-اصدقاءه-جعلوا منه انموذجا للخاطيء المذنب،وعليه التوبه واستجداء الغفران،وهم يتفرجون عليه من شرفة السلامة وبر الامان!.لنسلم جدلا بأن ايوب ارتكب اثما او جدف على الله،فهل يستحق تلك العقوبات المهولة والظالمة،ناهيك عن ابناءه وبناته وعبيده الابرياء،بتصفيتهم جميعا بابادة جماعية؟!.كان ايوب واثقا ومقتنعا ببراءته،ونقاءه من الذنوب،ولم يكن ليتأثر بما ردده اصدقاءه على مسامعه،وهذا ماشكل مصدرا اخر لعذابه،فهو لايستطيع ان يهضم او يستوعب،فكرة:ان يكون هو نفسه سبب شقاءه؟!.ومع كل هذه المعاناة،لايمكن لاحد ان يتصور انه يجازى بهذا الشكل استحقاقا لما حل به،لاعقليا،ولاوجدانيا،ولاحتى دينيا،فكيف ينجو من هذه الشرنقة المحكمة التي تخنق انفاسه؟!.ما هو الوصف المناسب لما اصاب ايوب؟.هل هو العدل ام الظلم؟!.اخير ام شر؟!.تقاطعت رؤيتا ايوب واصدقاءه.واستمروا يتناوبون،ثلاثتهم بأزعاجه ومضاعفة اوجاعه،وكرروا محاجاتهم،وآرائهم وملاحظاتهم الممجوجة،حول بلاء ايوب،بمنطق العقيدة الدينية المدرسية المؤمنة،وكأنه خروف ضال بحاجة للهداية،والعودة الى قطيع الرب.كان ايوب قد بلغ منه السأم والانقباض مبلغه،ولكنه استمر يجاريهم،ويغالب غيظه،فهم اصدقاءه،فقال:"ماتعرفونه عرفته انا ايضا،ولست دونكم،ولكني اريد ان اكلم القدير،وان احاكم الى الله"و:"خطبكم امثال رماد،وحصونكم حصون من طين".ثم خاطب ربه الغائب:"اعلمني ذنبي وخطيئتي",واستمر الجدل بين ايوب واصدقاءه الثلاثة سجالا،ولكنه بيزنطينيا،سلبيا وغير مجدي كحوار الطرشان!.فأيوب يشكو ويريد ان يعرف ماذنبه،واصحابه يخدروه بمعسول وصاياهم وتبرير حكمة الرب المجهولة.هو يبغي منطقا مقنعا،وجوابا شافيا،وهم يعللون بحذلقة عدل الله وسبله الوعرة غير المطروقة.هو يريد تفسيرا انسانيا لمغزى عذابه،وهم يستنبطون الاسباب،والتعليلات الالهية الجاهزة والسهلة،والشروح المناسبة.لكن في دائرته الاتهامية المنصبة عليه،وبعيدا عن دائرة الله الحاكمة المتعالية السامية.فالله:نزيه،وحكيم،وعليم،وقادر، وعظيم،وعادل لايظلم احدا.الانسان وحده هو مصدر الشرور والظلم،وهو الذي يظلم نفسه،ولهذا يستحق كل مايصيبه.فعدل الله وحكمته ومنطقه مختلف،لايدركه او يفهمه الانسان،وهو بخلاف عدل او حكمة او منطق البشر الفانيين.فمعايير الله مغلقة وعصية على معرفة الانسان الناقص عقلا والعاجز تكوينا.وشتان مابينهما.(من الغريب جدا ان لايتطرق لااصدقاء ايوب ولاايوب نفسه لذكر الشيطان كمصدر او منبع للشرور وسقوط الانسان،فهو الغائب الكبير هنا!.فأيوب يحمل الله مسؤولية محنته،واصدقاءه يلقون على ايوب تبعة ماحل به،فهل الشيطان بريء من كل هذا؟!،ام كان مجهولا في زمن ايوب؟! ام ماذا؟!.م.أ)
لم يسأل اي من اصدقاء ايوب عن دور الرب القادر على كل شيء،والمتحكم بالظروف والقدر ومصائر البشر،في التيسير والمنع،والارادة والقدرة الكلية،فهو فعال لما يشاء.تركوا الله وجبرية الوضع البشري،وامسكوا بتلابيب ايوب،ليوصموه بالذنب،ويدمغوه بالانحراف عن خط الله وصراطه!.يقتحم المشهد الحواري المحتدم بين ايوب وخلانه المخلصين،شاب،اسمه"اليهو بن برحئيل"-يعتقد بعض الباحثين في التوراة ان الجزء المتعلق بهذا الشاب الغريب، مقحم،وقد ادخل لاحقا على السفر الايوبي،كأضافة لازمة!.م.أ-غاضبا من ايوب،وايضا من اصدقاءه،منزها الله عن الشر والظلم،فهو يقول:ان ايوب يتكلم بلا معرفة،وبلاتعقل يتهم الله.ثم يتحدث اليهو عن عجائب وقدرات الله،والتي سيكررها الله حرفيا عند حديثه الوجاهي مع ايوب،ولو بتفاصيل اوسع واكثر.كانت استجابة ايوب على العقلانية العرجاء،والمنطق السقيم المغالط لاصدقاءه،وهذا الدفاع الابله والمتحجر للمتطفل والدخيل الشاب-ممازاد طين ايوب بله!-عن العناية الالهية.فالله- بالنسبة لاصحابه-ظل في علياءه معصوما من الزلل مترفعا عن الشر،منزها من الخطأ،واسمى وارفع واعدل من ان يظلم مخلوقاته،ولاعزاء لايوب في حيرته وجربه وعذابه المقيم...
تفاقمت مشاعر ايوب السوداوية بعد الاستماع لخطابات اصدقاءه المستفزة و المتحاملة عليه،والمنحازة كليا لله.فكان بين حين وآخر،يوجه سهام نقده واعتراضه لماقيل ومايقال.بقيامه بتفنيد ودحض مزاعمهم،بنزاهة الله وعظمته،واصبح رافضا و منكرا للصورة الوردية النبيلة للرب التي رسمها ولمعها وبدئب يجليها اصدقاءه،ومدى اتساع الهوة بين مقالتهم،ومقاله،والتضاد الحاد في التوجه و المقاصد والمعاني بينه وبينهم.فقد ادرك تماما،ان الله ليس الا طاغية جبار،مستبد متصلب،متغير المزاج بين التعكر والصفاء،واعتباطي في مشيئته،وغير متوازن في قراراته،ولايعرف الثبات والحق،يظلم ويطغى دون ان يرف له جفن،ليس المذنبين فحسب،بل والابرياء عموما!.لايبالي،ولاتهزه عذابات البشر وموتهم العنيف،فيقول بلوعة وأسى:"عجبا..أصرخ من جوره،ولامن مجيب،وأدعو شاكيا،ولامن منصف،طريقي سيجه،فلاأعبر،وبالظلام غطى سبيلي".انها صرخة انسان معذب
مقهور، استغاثة جليه معبرة امام جبروت رب لايتجاهله ويتغافل عنه فقط،بل وايضا لايرحمه،ويضع حدا لعذابه،ويميته.لايضع الحق في نصابه كما يجب فحسب،بل يتعمد القسوة والايذاء،وسلوكه عدوانيا سافرا،طبيعة وقدرة،لارأفة، ولاعطف،ولاشفقة هناك.يبث ايوب شكايته بحرقة المظلوم قائلا:"هدمني الى الاساس فهلكت،ورجائي اقتلعه كشجرة،واضرم علي غضبه،ومن اعدائه اعتبرني،غطت الديدان والتراب والغبار جسدي،تهشم جلدي،وجسمي نتنا لبني امي".لمس ايوب ان ربه شديد العقاب وعن سابق اصرار ونقمة،ولكن على البريء مثله،وبلا اسباب او دواع.
اسرف ايوب في طرح حججه الشاكية،وتضخمت وطالت لائحته الاتهامية تجاه الله.فأثارت رهبة وخشية اصدقاءه المبلدين والمخدرين بتقواهم،بحيث عادوا لنشيدهم الورعي الممل و الذي لايحسنون غيره،ومن جديد انطلقوا مصوتين كببغاوات رطينة،عن:العدل والعناية الالهية،وعظمة ونزاهة الله.هم يمجدون القدير الاكبر،وايوب يئن ويتوجع من جربه الذي ينهش جسمه-لماذا الجرب بالذات؟!لانه مرض كلاسيكي من العالم القديم؟!مرض جلدي بشع يسبب الحكة والقيح وتقرن الجلد.فلو عاش ايوب في العصر الحديث لابتلاه ربه بمرض مثل الايدز او السرطان!-.ليرد عليهم،ومن جديد ايضا:"جميعكم مواسون بؤساء".القاريء العادي للسفر الايوبي يتعاطف حتمامع مايبديه ايوب من تظلم وجور عار في حقيقته،ولايمكن حجبه،والغياب التام لاي منطق ومعقولية في مانزل به من آلام وكرب،ووحدته الباردة،كمنبوذ كريه تعيس تخلى عنه حتى الاقربون.والبون الشاسع بين انسحاقه تحت ظلم قاهر لامبرر له،وبين براءته البيضاءالناصعة كالثلج،واضحة ومرئية حتى للاعمى!.كان الخطاب التقوي لاصدقاء ايوب هو انعكاسا وتعبيرا عن الصوت والخط الرسمي السائد للايمان اللاهوتي،والثقافة الدينية-التربوية المهيمنة على مدارك شعب العبرانيين،ومن ضمنهم مؤلف السفر الايوبي،فهو دفاع ومنافحة عن العقيدة اليهودية القويمة،وهي التسليم بقضاء الله وقدره دون شكوى او تذمر.فأذا اسبغ الله عليك فضله ونعمته ،واغدق بركاته،فعليك الشكر وتمجيد الرب،وان ضربتك نقمة الله وغضبه وانزل بك البلاء-ولله اسبابه الخافية-فواجبك الديني يفرض عليك الصبر والاحتساب والدعاء،وطلب المغفرة والعفو!.هكذا هي العلاقة بين الرب وشعبه،فامام السراء او الضراء،ليس هناك الا استجابة واحدة واجبة:القبول والشكر، والتسليم والرضى،فكل شيء من عند الله.ولايمكن قبول مايخدش هذه الاستقامة الايمانية ويعكرها،كخطاب ايوب المتمرد والعاصي لقدر الله.لذا يجب الوقوف بقوة امام السيل التجديفي المبلبل والمدمر الذي اطلقه ايوب بحق،مخالفا وصايا الخنوع للرب!.ولكن تبقى حجة ايوب معقولة وتساؤلاته محقة،لمن ينظر بحيادية مجردة في قضيته.فأنسان بار مستقيم،ولاشك في ايمانه،ورجل صالح في تعامله مع الناس،تعرض لظلم فادح في جوره:فقد الابناء والممتلكات،ونزل به داء جلدي عضال لاشفاء منه،وهاهو في قعر الحضيض من الهوان والذل والنبذ والعذاب.فكيف سيكون لسان حاله وموقفه من اطروحة العدل والحكمة والنزاهة الالهية المزعومة؟!.من الطبيعي جدا ان يكون انينه صارخا مدويا بكلمات نارية من الاستنكار،والشك،والشعور بالخذلان والهزيمة،بعد ان تصدع ايمانه بعدل الله وعنايته ورحمته.فالله لايميز او يفرق بين البراءة والذنب،يعاقب خبط عشواء احيانا،وبناءا على مراهنات مع غريمه-الشيطان- احيانا اخرى،وبلا معايير قيمية اخلاقيا او عقليا.ويبين ايوب لاحد اصدقاءه فحوى مسلك الله تجاهه،قائلا:"مزقني غضبا،وابغضني،واحمرت عيناه علي،خصومي فتحوا عيونهم علي".واكثر من ذلك:"الله سلمني الى الجائرين،وفي ايدي الاشرار طرحني،ويسفك على الارض مرارتي،احمر وجهي من البكاء،وعلا جفني ظلال الموت،مع ان يدي بريئة من الجور،وصلاتي لاتشوبها شائبة".ولصديق آخر يعرض فجيعته الكبرى:"اخواني ابتعدوا عني،وازدرى بي معارفي،واقاربي،واصدقائي خذلوني،واهل بيتي تناسوا ذكري،ولهاثي صار كريها عند زوجتي،حتى الصغار اشمئزوا مني،وفي غيابي يتكلمون عني".واكثر من ذلك،يمضي ايوب في عرض حاله:"الله قيده،وتركه يذوي،مثل شيء نتن".وعندما يصر اصدقاءه،كرة اخرى على:عدل الله وكرمه،ينفجر ايوب بأنكاره،كمكلوم عديم الحيلة،بأن لاعدل الهي هناك البتة في معاملته،بل وليس هناك من عدالة الهية نحو البشر قاطبة.ليتحول ايوب بعدها،عارضا لصورة مقارنة مفارقة،بين بؤسه، وبين رفاه وسعادة الفاسدين والاشرار،سائلا:"لماذا يعيش الاشرار ويشيخون،ومع الايام يزدادون اقتدارا؟وثورهم يلقح ولايخطيء،وبقرتهم تلد ولاتسقط،واطفالهم يمرحون كالغنم،واولادهم يرقصون كالغزلان".وسواء،اكان الانسان محظوظا،ونال قسطا من السعادة والفرح،ام كان محروما بائسا حزينا،فسينتهي الجميع الى نفس المصير :الموت.هذا ماكان يهمس به ايوب مغمغما تلك الكلمات،وكأنه يحدث نفسه،متفلسفا:"هناك من يموت بعز شبابه،وفي منتهى السعادة والهناء،جنباه مليئان شحما،ومخ عظامه طريا،وهناك من يموت بمرارة،من غير ان يذوق طعم السعادة،كلاهما يضطجعان في التراب،ويكسو جسديهما الدود".وبالرغم من عذابه الجسدي والنفسي،وتقلبه بين الم فقدانه لابناءه،وعذاب داءه الذي ينخر جسده المتفتت بقيحه،والم ضميره المتهافت تحت وقع الظلم الفادح،والمجاني في لامعقوليته،وانحطاط عالمه من السؤدد ونعيم العيش الرغيد الى الدرك الاسفل من البؤس والفاقة والمعاناة،الا ان لغته الشعرية-الفلسفية المتسائلة الشكاكة ظلت نضرة وحيوية،تبعث على الاعجاب،وتشدنا لروح أيوب القلقة الحائرة،والباحثة عن المعنى،معنى:العدل،الظلم،الايمان،التجديف،الخير،الشر،البراءة،الخطيئة.وفي كل مرة يقفز السؤال الملح بين فينة واخرى،مادا لسانه،ليجلد الضمير والعقل:كيف يكون ماحدث لايوب من دمار وخراب،هو العدل الالهي؟!.فكيف يكون الظلم اذن؟!.وقال رهان الرب(ايوب):"والقدير بعد ساكن معي،واولادي يحيطون بي..يراني الشبان فيحيدون،والشيوخ فينهضون واقفين،يمسك الامراء عن الكلام،ويجعلون ايديهم على افواههم،كانوا يستمعون لي بأشتياق،ويصغون لمشورتي صامتين،ينتظرونني انتظارهم للغيث،لم يعاملوا ايوب هكذا لانه لايعمل سوء فحسب،وليس فقط لانه اعان سائليه،بل لانه بحث عن البؤساء ليسعفهم،لاني كنت اغيث المسكين،واعين اليتيم الذي لاعون له،وتحل علي بركة البائسين،وتطرب لي قلوب الارامل،لبست الحق فكان كسائي،وبقى العدل حلتي وتاجي،كنت عينا بصيرة للاعمى،ورجلا صحيحة للاعرج،وكنت وحدي ابا للفقير،وسميعا لدعوى الغريب،وكنت اهشم انياب الظالم،ومن فكه انتزع فريسته،والان يمعن النظر في حاضر ايامه"."اما الان فيضحك علي من يصغرونني بالايام،من ابيت ان اجعل آبائهم في عداد كلاب غنمي،اولاد الدناءة هم،بلا اسم طلعوا،وانشقوا من الارض،والان صرت لهم اهجية،ومثلا شائعا للسخرية،يكرهونني ويبتعدون عني،ولايتورعون ان يبصقوا في وجهي".اهذا-وكما قال اصدقاء ايوب-هو عدل الله؟!.واذا كان ظلم الانسان للانسان نطلق عليه مع الغضب:دناءة وخسة،وبربرية يأنف منها الحيوان.فماذا نسمي فعل الله بعبده ايوب ،والذي فاق كل الحدود، وكسر كل المعايير؟!.
من اللافت والغريب،ان أيوب وعبرسفره الطويل،لم يستخدم او يستشهد او يقتبس اي نص توراتي،ولاحتى كلمة في خطابه،ومرافعته الاتهامية فلا اشارة،ولاقولا اوتلميحا او احالة،وهذا امر بالغ الغرابة،ويدعو للاستفهام؟!.فهناك الكثير من الاسفار،فيها مايدعم او يؤيد محاجته،منطقا وبينات،ووقائع،واحداث،ومرويات،ومشابهات،الخ،مناسبة جدا،تخدم غرضه،وتشهد له،فلم لم يلجأ لتلك النصوص،وهو يستعرض احوال العالم ومتناقضاته،وكان بأمكانه وبسهولة ان يقتبس منها تأييداعضدا وسندا،يعزز من احكام حججه،وهو يرافع ببلاغة وشاعرية عن خلو العالم من العدل،وانهيار القيم والمعايير؟!.مرد ذلك وجزئيا -كمانعتقد-،ان السفر الايوبي كتب باستقلالية ومعزل عن بقية الاسفار في الزمان والمكان،لذلك لم نجد اصداء او انعكاسات لباقي الاسفار تركت اثرا او ملمحا في متن السفر يثبت ذلك!..ان كل من يقرأ السفر الايوبي-كما نعتقد-وخصوصا القاريء اليهودي،سيتسائل حتما،وهو يستحضر ايوب خيالا،وفي ايامه العصيبة،ومحنته الالهية،تلك الشخصية الفذة في ورعها وصلاحها وبرائتها،وسؤاله الضمني الخفي هو:هل كان اشعيا محقا في ترانيمه النسكية المسبحة بالعدالة الالهية؟!..في نشيده الشعري الخاتم،والجدي في لومه،وسفور اتهامه لله يقول ايوب:"الاشرار يمضون في افعالهم،الاشرار ينقلون التخوم،ويسلبون القطعان،ويخفونها،يستاقون حمار اليتيم،ويرتهنون ثور الارملة،يزيحون الفقراء عن الطريق..يخطفون اليتامى عن الثدي،ويرتهنون الاطفال المساكين فيذهبون عراة لالباس لهم،ويحملون الحزم وهم جائعون،من المدن يخرج النحيب،وتستغيث نفوس الجرحى".ومع كل هذا-يفكر ايوب بصوت عال-لايعاقب الله هؤلاء الاوغاد،ولايمسهم بسوء،فيمعنون في غيهم واجرامهم.اليس ذلك غريبا وفاضحا؟!.:"فيقوم القاتل عند الصباح ويفتك بالبائس المسكين".و"عين الزاني تترقب الغيمة ليضعها قناعا على وجهه".و"يسرق البيوت في الظلام،ويغلق على نفسه في النهار،لقاء هذا الشر المتعمد،نصيبهم ملعون في الارض".وتترى اسئلة(المعذب)باحثة عن الفهم و الوضوح:"لماذا يفلح القاسي؟".و"تنساه الرحم،وتستطيبه الدود،واسمه لايذكر بعد،الشرير ينكسر كالشجرة،يسيء الى العاقر التي لاتلد،ولايحسن الى الارملة".وكما نرى بعين ايوب الدامعة،وقلبه الكسير،فلاعدل هنا،و العدل الالهي ماهو الاطرفة سخيفة،وبلا معنى!.فعدل الرب الايوبي هو ظلم بواح في حقيقته،واباطيل مخادعة تنطلي على الحمقى.فالرب يعطي لمن:"لايحسن الى الارملة"الخير والفلاح،ولكنه يعصف بثروة ايوب،ويبطش بأبناءه وعبيده،ويتركه صفرا اجرب في القيمة والجسد،كل ما يتمناه هو الموت!.كفر ايوب بعدالة ربه،ولكنه لم يخرج بأستنتاج اواستدلال منتبه يعي،او يتسائل عن وجود عدالة لدى البشر ام لا؟!.وغاب عنه انه هو نفسه كان تجسيدا مرئيا،وايقونة بشرية للعدل والاستقامة والرحمة،ورفض العسف بكل اشكاله،فهو يرعى ويساعد الارامل والايتام،والله يسلبهم معيشتهم الشحيحة،ويدلل ويكرم سالبيهم واعدائهم!.لحظة ايوب التجديفية،كانت جريئة،صريحة،وواعية في تشخيص المسؤولية الكاملة،لكل مظاهر الظلم والقسوة والفوضى التي تغرق العالم،،والتي تقع على عاتق الله وحده.وما فاضت به لائحة الاتهام الايوبية من بنود وادلة وتفاصيل تدين وتجرم الله بلا ادنى شك،وتضعه في دائرة الادانة،مع وفرة المعطيات المعززة بدقائق المجريات.:"ان قلت:فراشي يعزيني،ومضجعي يخفف شكواي،روعتني بفظائع الاحلام،وباغتني برهيب الرؤى،فأرى الحنق افضل شيء لي،والموت خير من عذابي،من الاسى لااحيا طويلا".نجد هنا ان كاتب السفر الايوبي-وهو حكواتي من الطراز الاول-يفسح المجال واسعا لايوب في الاسترسال الدفاعي عن قضيته-انه الانعكاس المرآوي لمكنونات الكاتب!.م.أ-وبث حججه،وكوامن براعم الشك التي ازدهرت في عقله-والتي مع الاسف ذبلت بسرعة وتبددت!.م.أ_عندما يقول:"لماذا التمهل طالما لامفر من الموت؟".ينساق ايوب وراء تهوره في النقد،وادانة القسوة والجور الالهي،عندما يعرض البشر،ل:تجارب الآلام والعذاب والحزن،والحداد على الاحبة،والاشفاق على الذات المنكوبة،والقلب المكلوم المحطم.لم عليه ان يأمل بان وضعه سيتغير،وينظر اليه الله بشفقة،ويبدل حاله،وهو قاب قوسين من الموت؟!.لماذ ينبغي على اي انسان،وهو ينشد الراحة في النوم ان يتعرض للكوابيس؟!.يمضي ايوب في كيل اتهاماته للرب،وقلبه يرتجف،محاولا ان يواسي نفسه بقرب فناءه،والذي سيختم عذابه،فيتجلد متشجعا،وهو يستمد قوة من توقع موته الرحيم القادم.ورغم غضبه من الله الا انه يعزي نفسه بفكرة،ملاذه الآمن،نعمة الموت التي سيمنحه الله له كنوع من خلاص مؤكد،فينطق:"تذكر،حياتي نسمة ريح،مثلما يضمحل السحاب ويزول،كذلك من يهبط من عالم الموت لايصعد،الى بيته ابدا لايعود،ومكانه لايتعرف عليه،لذلك لاامنع نفسي من الكلام شاكيا بمرارة النفس ضيقي".ونحن نقرأ سفر ايوب،ننتبه الى انه مرارا كان يلح في سؤاله:"لماذا الله غائب،والحكمة مختفية؟".متمنيا،ان كان ممكنا ان يدخل يوما بيت العدل الالهي المزعوم،ويقابل الله وجها لوجه،وخلافا للمألوف،يطرح عليه مظلوميته،ويطالب بأجابات على حيرته،وهو البريء المعذب،بلا ذنب!.ولكن الله لايبرر ولايفسر نفسه طبعا،فقراراته واوامره وسلوكه طلاسم واحجيات عصية على مخلوقاته،وايضا لايعقد او يقبل محاكمات يخضع هو فيها للاتهام،فهو الديان،بلا شبهة.يعرض جبروته وحكمته وفلسفته العصية على فهم البشر، بغرض الطاعة ولاشيء غير الطاعة.وليس من معنى او حكمة في قرارات الرب،فهي سرية وذاتية يحتفظ بها لنفسه،فهو الفعال المريد وكفى!.
بعد ان استنفذ أيوب كل مافي جعبته،وتقيأ كل مافي روحه من قيح وسواد.يحين دور الرب ليمثل ذروة العرض الختامي.وهنا.. وعبر العاصفة،ينبثق الحضور الالهي،كزيوس اليوناني،وجوبيتر الروماني،يظهر الرب العبراني ليواجه ايوب بمرافعته السماوية الطويلة و الحاسمة.هذه المعجزة الضرورية الطبيعية،ولكن النادرة جدا،لانها لاتحدث كل يوم،فالله لم يتحدث الا مع قلة من الانبياء!.وبعد ان ناداه ايوب كثيرا،يقف الرب وجها لوجه امام ايوب ليضع حدا لثرثرته وتجديفه بحق الاله.بدأ الرب خطابه بغضب عارم،وصوت راعد.وشرع في مرافعته المضادة،واخذ في سرد وتعداد ماجاء في لائحته:من اسئلة عويصة،وانجازات خارقة خفية،وافعال مبدعة مجهولة لايوب،واسرار غير معروفة.ومن العاصفة،وبكلام صاعق،خاطب الله ايوب،مؤنبا،معنفا،مستهينا،مزلزلا بكلماته كل حواس ايوب الواهنة:"اين كنت حين اسست الارض؟".ومن حجز البحر؟"،الخ.وبدلا من ان يجيب الرب على اسئلة ايوب الذاتية،واشكالات الواقع المؤلم المعيش،وماهية الخير والشر،وفحوى العدل والظلم.واستحقاقات البراءة والذنب.ضرب استفهامات ايوب المعلقة عرض الحائط،ليهيم مهلوسا طارقا موضوعات وجوانب مخالفة وبعيدة،ولاعلاقة لها البتة بحال ايوب ومصيره القاتم-
عرب وين،وطمبورة وين؟!-.ايوب في كربه ومأساته يبحث عن معنى العدل وكيفيته، وعن الحكمة ومدى سدادها في معاقبة البريء،ومكافأة المجرمين،اما الله فيستعرض قدرته وعظمته،متفاخرا منتشيا بأبداعه لكل موجودات الطبيعة من حي وجماد.يهذر الرب بنبرة مؤنبة،موبخة،كمعلم يلقي درسا،مقرعا تلميذه تقريعا قاسيا،لبلادته وعدم فهمه لدرس المعلم!.نقرأ في المحاضرة الالهية والتي هي من اندر واطرف النصوص،التي يتحدث بها الله مع بشر بحضور مادي عيانا،ويمارس فيها مباشرة:البروباغندا الالهية الذاتية،ويروج لنفسه،بدعاية تسويقية بيانية بليغة،والتي ستغسل مخ ايوب المتعب لاحقا-هذه هي السيرورة الضرورية للايمان القويم والتقويمي،والخط الواجب اتباعه من قبل كاتب النص الايوبي، والترويج لثقافة الطاعة الدينية للمؤمنين،والتراجع عن كل ضلال ومروق تجديفي-ويجعله ينسى نفسه،ومافعل الله به،فتتلاشى ثورته امام هيبة الرب،ويهيم بسحره،مقتنعا بسذاجة بلهاء:ان الله على حق،وهوضال مقصر،وبانقلاب غير متوقع-وهذا هو المطلوب في الوعظ والارشاد والتربية العبرانية،والعودة الى حضن الله-بعد برهة الانسحاب والشك والنكران والاتهام القصيرة،العودة الميمونة-المصطنعة-لعالم الهدى الجماعي،ضمن خراف الرب.وهذه بعض الجمل-الاسئلة من فيض(الادعاء الالهي،ومحاكمة ايوب على تجديفه)لتفتيت ومحو كل اعتراضاته وشكاويه الكافرة،فزجره بقوله:"هل تمشيت في اعماق الهاوية؟هل انفتحت لك بوابات الموت؟.هل للمطر أب،ومن ولد؟.أين الطريق حيث يسكن النور؟.والظلمة أين مقامها؟.أدخلت الى خزائن الثلج؟.ام ابصرت مخازن البرد؟.صقيع السماء،من ولده؟.هل انت تربط عقد الثريا؟.او تفك ربط الجبار؟.من اين يخرج الجليد؟.من وضع الحكمة في العقل؟.ومن منح القلب الفهم؟.من يحصي الغيوم بحكمته؟.ومن يسكب ازقاق السموات،فيصير التراب سبكا،ويتلاصق المدر؟.اتصطاد اللبؤة فريستها؟.ام تشبع اشبالها حين تقبع بعرائنها،وحين تكمن في ادغالها؟.ووو.في عصر ايوب اسئلة كهذه تبدو مهولة خارقة ليس لها من اجابة،سوى الله فهو الصانع والمسير والمنشيء والمغير،وليس غريبا او مفاجئا ان تندحر ارادة أيوب ،وعطشه للمعرفة،لتنطفيء بعد
بريقها الخاطف،منحسرة،منكفئة،تطلب العفو والغفران!...ومن اجل الاستحواذ على روح ايوب وعقله،يلجأ الله الى المزيد من عرض تحفيات خلقه،وانتيكات احياءه،فيسترسل،في سرد عجائب انتاجه وتدبيره،وكيفية تصريفه،وتحكمه بقوانين ونظام العالم،ورائحة الغرور والنرجسية تفوح من كلماته،حين يقول:"من وهب للطاووس جناحين بهيين؟.وانت..أتعطي الفرس قوته،وتكسو رقبته شعرا مرسلا؟.أتجعله يقفز مثل الجراد،ويصهل مثل صهيله الهائل؟".ما نلاحظه هنا:ان الرب من اجل ان يربك أيوب ويبهره،ويشل عقله بموضوعات وكائنات يعرفها ولايعرفها في نفس الوقت،كائنات قريبة وآخرى غريبة،ونوعية الاسئلة التي يطرحها لاصلة لها بأيوب،وايضا تعجيزية،يصعب عليه الرد عليها!.وهي اولا واخيرا،لاتعدو عن مجرد استعراض نرجسي للخالق،امام المخلوق العاجز،ونوعا من اظهار هيمنة كلية على الكائنات والكون.تلك الاسئلة المتعلقة ب:مصادر المعرفة،تناسق واتساق المخلوقات،حكمة الرب،الحياة والموت،سعة السماء وجمال الكواكب والنجوم،التنوع الاحيائي،الطبيعة المعقدة والمدهشة بمظاهرها العجيبة والغريبة،ظواهر وآليات الحركة والتنقل،المطر،الثلج،الرياح،العواصف،الجبال،البحار،الخ.كل هذا من اجل سحب وعودة أيوب لحضيرة الرب،يقوم الاله بهذا العرض البانورامي الكبير المفصل.فالله عندما يصف الفرس -هو يقصد الحصان،الذكر،ولكنه يستخدم الانثى:الفرس!.م.أ_بقوته وجماله وصهيله،فهو يذكر أيوب-يستحضر مقارنته بنفسه-بأنه حيوان ضعيف،وقابل للموت،ومثله كذبابة علقت بشبكة عنكبوت،ومفهوم جدا لدى ايوب مايرمي اليه الله من قصد،بتأكيده:ان لاشيء في العالم،كبيرا او صغيرا فوق او خارج قدرته وتحكمه،كل شيء في قبضته،ومن صنعه ،فهو يحي ويميت،فلتفهم ياايوب؟!.وهو ينتقل من حيوان لاخر،تحضر النعامة المسكينة هنا،في امثلة الرب المقررة على ايوب في درسه البايولوجي!.فيسأل الله أيوب عنها ايضا:"ان كان أعطى أجنحة وريشا للنعامة؟".والسؤال هو ضرب من الدعابة المضللة كمايبدو،فالنعامة لاتطير،وليس من داع لذكر جناحيها!.ولكنها دعابة الهية مهيبة تخدم غرضا محددا،وهو:ان الحياة بعيدة الاتساق،وتفتقد الهارموني المنسجم،بل واكثر من ذلك،فهي حافلة بالمتناقضات والمفارقة،وليست خيرا محضا او شرا خالص،والتوافق ينقصها والفوضى تعمها،ففيها العجيب والغريب،والشاذ والمتنافر،والصراع والتناحر.يسعى الله وهو يخاطب مخيلة وتصور أيوب العاجز والقاصر عن توليد صور فوق قدرته وطاقته البشرية،لاضفاء سحره الخالق، في مزج خلائط بدائعه،لاحداث صدمة الادهاش.فعندما يتمثل الله نموذج النعامة،فهو لايعني بمثاله،الرفع من شأنها،بقدر مايشير الى غرابتها العصية على التفسير،كطائر لايطير،بجناحين لا لزوم لهما،وهذا مايدعو للتفكر.فالنعامة-وكمايشرح الله في السفر-طائر يتسم بالغباء واللامبالاة،فهو يترك بيضه في اي مكان،ومكشوفا بلا حماية،وايضا لاتأسف او تحزن على تلف بيضها او التهامه من باقي الحيوانات،ولاتملك فهما او تدبيرا كبقية الطيور.ولكن يبقى مثل النعامة الذي اورده الله سخيفا،يفتقر للرصانة الجادة.من الممكن الدفاع عنه كشكل من اشكال المقارنة مع باقي الاحياء المخلوقة التي تعيش على الارض.والله وهو يترافع امام أيوب مواجهة كأدعاء عام عام سماوي لايقول صراحة:اليكم الدليل على عدالتي ومسؤوليتي وحضوري.فهو يستشهد،ودون تعليق او تفسير،وبخطاب قائم على الاسئلة لاغير،يستطيعه كل شخص،يقتبس من عالم الطبيعة العظيم المنظور،معطياته،والذي هو في نفس الآن تجل لعظمته وجبروته.ومايقوله الله هو صدى لما يقوله كاتب النص الايوبي،كراوي محايد.ف:الحياة تجعلنا نرفض العدالة الالهية،ولكن شيئا لايساعدنا على تفسير معنى:ان طائرا طوله متران،وله جناحان،ولكنه عاجز عن الطيران،وبتسكع بعيدا عن بيضه،رأسه الى السماء،احمق،وكثير النسيان؟!.والله لايجيب:لماذا هو كذلك؟،فهو يصف النعامة لااكثر!.من الطريف والممتع،ان نرى اله أيوب،وكواحد من انجازاته التكوينية،وابداع خلقه،يلتفت لحيوان بغيض وقبيح وشرس،ومغاير لماذكر من عالم الحيوان،مستحضرا ذلك الحيوان-الذي اشار اليه الفيلسوف اليوناني الكبير"ابيقور"كدليل مفند وناف للخلق الالهي للعالم.م.أ-الا وهو "التمساح"!.يقول رب أيوب،مخاطبا عبده،ذاكرا ميزات حيوانه الكريه:التمساح.:"لافكرة لديك عن كيفية خلقي اللوياثان-في السفر الايوبي،يسمي الرب:التمساح،ب"اللوياثان.م.أ-ناهيك عن السبب،اللوياثان خطر،وليس جميلا بصورة خاصة،وعلاقته بالبشر تتسم بالعداء الشديد،وغالبا ما تكون مهلكة".وهو يصف تمساحه،يحاول الرب ان ينزع تصور ايوب القبلي،وتفسيره لمسلك الرب،بغرور غير محتمل،وايضا التأثير بأصحابه الثلاثة المؤمنين وذوو النية الحسنة-هل كان اصدقاء ايوب يشاركونه في رؤية الله والاستماع لكلامه عيانا؟!-فالتمساح وكما وصفه الرب،كان وصفا أرعب أيوب:"الحديد عنده كالتبن،والنحاس كالخشب المنخور،والسهم لايجعله يركض،النبلة يحسبها قصبة،ويضحك على اهتزاز الرمح".ومن جديد نرى المبالغة والتهويل في الاوصاف التي يذكرها الرب،والنابعة من مخيلة جموح،تنهل من مخيال الهي منفلت،ومبالغ فيه،وتضخيم مهول ومقصود للتأثير على ايوب وارهابه المفترض،ومن ثم اعادته لجادة الايمان الضيقة.ثم يكمل الله وصفه السريالي لتمساحه اللوياثاني قائلا:"حين يغطس التمساح في اليم تغلي اللجة كالقدر"_يبدو ان الله غاب عنه ان التمساح لايعيش في البحار،بل في الانهار والمياه الضحلة فقط.م.أ-.بعد ان شرق الله وغرب في محاضرته الكونية،ومن تفصيل لعناصر الطبيعة وظواهرها المخيفة والعجيبة،الى حيوانات البراري،من:اللبؤة واشبالها،والطاووس والوان ذيله البديع،والفرس،وعدوه السريع،والنعامة وغباءها المريع،واخيرا التمساح وطبعه الشنيع،ينهي الله كلامه فيصمت،ناظرا الى ايوب:عبده الاواب المرعوب،وقد حقق نصره بالرعب.لم يخطر ببال ايوب،ولافكر ابدا، ولاسأل،وهو يستمع لرطانة الله ،عن العلاقة او الارتباط مابين حيوانات الرب،النعامة والفرس والتمساح،وبين وضعه كضحية تعسة،لجور فادح ليس له مسوغ من جرم او ذنب!.وبدلا من ان يجادل الله حول العدل ،وانصافه كانسان بريء عوقب بتجني وغلظة.نجده وعلى العكس يعلن توبته عن تطاوله القبيح على جلالة ورفعة الرب.في اللحظة التي سكت الله عن البوح،يفاجئنا ايوب،وعلى غير المتوقع،بتخاذله المرتد عن تمرده الشجاع،وشكه الواعي،واعتراضه الجريء،والذي لم يستمر طويلا مثل صبره وتحمله لسنين،وهو يواجه الله متراجعا القهقرى،منكفئاالى نسخة متكررة كثيرا في الادب الديني:عبد اواب تواب ،يطلب السماح والغفران والعفو،تاركا براءته المنتهكة،وظلمه الشنيع،ليمشي من جديد على سكة الله وصراطه المستقيم.وهذا السلوك من ايوب،يرضي غرور الله طبعا ،ولكنه يصدمنا بأنهزاميته وهدر كرامته المخجل،بعد تلك الثورة العارمة.وهاهو يغمغم،بأنكسار وذل مؤسف،ويعترف بأثمه وصغاره،وتجاسره على الله،قائلا بنبرة التواب المذنب:"تكلمت بكلام باطل على معجزات لاادرك مغزاها،سمعت عنك سمع الاذن،والآن رأتك عيني،لذلك استرد كلامي،واندم،وانا هكذا في التراب والرماد"-يبدو ان المستوى المعرفي-العلمي والفكري لله وايوب والكاتب متطابق جدا وجامع وليس هناك من متقدم او متأخر ،او خارج عن الدائرة الثقافية والعقلية لمجتمعات النمط العبودي،فعصرهم واحد،لذا فتفكيرهم لايختلف،وهم يقفون على نفس ارضية عصر الايمان ،والسائد من الثقافة والدين والقيم،ولن نتوسع في الاسترسال،حتى لانخرج عن اطار ومتن السفر الايوبي،موضوعنا الاساسي،وقرائتنا التحليلية للنص،واشتراطنا عدم تجاوز اطاره المحدد لاغير.م.أ-...
بعد ان ابدى ايوب ندمه الاخرق،وقدم مراسم وفروض الطاعة،والتراجع المهين عن ثورته الخاطفة.استعاد الله زمام السيطرة والتحكم،فشرع بمعاقبة اصدقاء ايوب،لقصور فهمهم،وفقر ماقالوه،وهزال منطقهم.وأعاد بناء مادمره وخربه،وكأن شيئا لم يكن،مجرد سحابة صيف مرت وولت!.لتعود المياه الى مجراها الطبيعي،ويعود الصفاء والوفاق ليسود العلاقة بين الله وايوب.فقد عوض الله لايوب خساراته الفادحة،بمواشيه(مضاعفة):14الف من الغنم،و6آلاف من الابل،وألف فدان من البقر،وألف أتان.ومن جديد رزقه ب:7بنين و3ينات كن من اجمل فتيات الارض،فأعطاهن ابوهن ميراثا الى جانب اخوتهن!.لانعرف ان كان ابناءه هم انفسهم اللذين هلكوا،ام خلق جديد سريع من الله،ام بطريقة التناسل البشري الطبيعية؟!.م.أ_.وعاد الاصحاب والاقرباء ليحيطوا بأيوب-اين كانوا عندما كان ايوب اجربا ووحيد يتألم دون عون او مواساة،وكيف غفر لهم أيوب وفي قلبه جرح النبذ والاهمال؟!،لانعرف ايضا!.م.أ_الذي عاش140عاما،وهو يهنأ برؤية بنيه وبني بنيه لاربعة اجيال!.ومات ايوب شيخا،وقد شيع من الايام!.انها قصة ميلودرامية جميلة تهديء النفوس،وتنقي وجدان المؤمنين،وتترك اثرا بليغا عن مكافأة الله الختامية لعبده الاواب أيوب!.قد تكون النهاية سعيدة،وهي فعلا سعيدة ومفرحة لايوب واسرته واصدقاءه ولقراء السفر،ولكن ماهو المغزى،والغاية من هذه الحكاية التوراتية،او الرواية الشعبية التي دونت في الكتاب المقدس؟!وماهي الاهداف التي تقصدها كاتب النص ومبدعه؟!.هل هي:قصة ايوب وحده كانسان مبتلى،ام هي قصة الله العادل،ام قصة الشيطان والاعيبه؟!.ماهو موضوع او تيمة القصة الايوبية؟:هل هو رهان الله-الشيطان المزدوج والمتنافر،تلك اللعبة الرهانية المتسلية بأقدار،ومصائر البشر،مقامرة عبثية خاضعة لمشيئة-مزاج الله مرة،ولأهواء ونزعة الشيطان في دفع الانسان للزلل والشك والكفر بالله،غريمه-ربه،ولأثبات دونية وهشاشة ابن آدم ،مرة آخرى؟!.ام هي مروية الانسان الممتحن ازليا،والمجبر على الدخول في تجربة التطهير والتطهر،والنجاة من الشرير،بخوض غمار الصبر والثبات من خلال الفجيعة الشاملة؟!.ام هي امثولة الانكسار والانسحاق والركوع تحت وطأة الضعف البشري،ومحدودية الارادة،وقدرة الجسد؟!...قد يكون جل ماذكرناه من كلام الله اعلاه،او كله مجتمعا صالحا لتفسير رواية ايوب العبرانية.ولكن على الجانب المحاذي الآخر يعتقد الكثير من الباحثين في الاديان،وكما يظن الاغلب من المؤمنين بالعهد القديم ان:سفر ايوب هو قصة موجهة ودعائية عن الايمان القويم،والعدل والحكمة الالهية السامقة والعصية على الافهام البشرية الادنى-مع انه ليس ثمة من عدل ولاحكمة في موضوع ايوب ابدا لكل من يحتكم للعقل الفاحص!-ولاعجب في ذلك.فعلى مدى تاريخ الكنيسة المتخم بالتبريرات والتفاسير والتأويلات التي تلوي عنق العقلانية والمنطق لصالح النصوص والمنقول والاعتقاد الدوغمائي،وايضا قراءات الاحبار والكهنة،ومؤسسات اللاهوت المسيطر،بأرجاع السفر الايوبي الى الاصل في الحكاية الشعبية الشفاهية الموروثة.فقد تدبروا جيدا نحت السفر وقولبوه،فجرى تشذيبه،واختزاله،بأستئصال الجزء الاوسط من السفر-ذلك الجزء الحيوي المتعلق بالتمرد والشك والتجرء على الله،والذي يشكل خطورة وتحديا-مما يقلل او يخفف من شأن الخلاف والتقاطع والخصومة والتوتر والتطاول بين ايوب والله.ويحول السفر -بل حوله!-الى مجرد حكاية كباقي الحكايات الوعظية البسيطة عن الايمان الراسخ والصبر على المكاره والعودة الى احضان العناية الالهية الرؤوم والتسليم بقضاء الله،وكأمثولة تربوية مدرسية مؤثرة على الجموع المؤمنة والتي يجري تلقينها وتعليمها بقصة الاثابة والتعويض بعد الامتحان والخسارة.والتي تعلن وتعلم ان:جوهر الايمان هو التسليم والقبول والخنوع امام تدبير وقدرية ومشيئة الله،خيرا كانت ام شرا،نعمة او نقمة،عطاءا او ابتلاء.فلا اعتراض،لااسئلة،لامراجعة او تفكير او تأمل.طبعا هنالك من تعامل مع النص الديني-طبعا- بموضوعية وحياد،وتحليل منطقي صريح، اداتها العقل-ومنهم مارتن بوبر-ولكن اغلبهم التزموا كلاهوتيين وباحثين،بخط الايمان القويم،ومن داخل دائرة اليقين المؤمن،ليستخلصوا من ثم العدل الالهي كحقيقة،تأويلا ومجازا.ويسلم البعض،وانسجاما مع ايمانهم،بلوي عنق التأويل بأتجاه يقيني حرفي،وتجنبا لكل مايثير الريبة ويزرع التشكيك،بنبذه ووضعه في سرداب الظل المعتم ك"لامفكر فيه".
فيما يتعلق بالرهان الالهي-الشيطاني في مفتتح النص الايوبي،وماترب عليه من الموت الفعلي لابناءه،وابادة عبيده ومواشيه.كل هذا لايمحي او يتجاوز الرهان الجائر والمتعسف بين الله والشيطان،وتنافسهما العبثي للانفراد بالانسان،وجعله لعبتهم السخيفة ومادة للتسلية،وقتل الوقت والملل.فالرهان حصل في بدء السفر،وتمت تصفية ابناء ايوب وعبيده،وسرقة كل مواشيه،وفوق كل ذلك،انزال الداء الجلدي الخبيث-الجرب-بجسد ايوب بعد ان اصبح وحيدا،ولايملك شيئا.فهل هو امتحان ام انتقام؟!.ذبح وقتل الابرياء دون جريرة او جرم،ومصادرة الحيوانات كلها،وسماح الله للشيطان بتعذيب ايوب بالمرض الجلدي الفتاك.كل هذا لايمكن انكاره،ومن العسير الغاءه،وهو بلالبس،مايشكل ادانة صريحة وتجريم لله وملاكه الساقط وتحالفهما معا في تدبير المؤامرات والمحن ضد الانسان.فأيوب وبلا شك كان بريئا لم يرتكب خطأ،ولايستحق اطلاقا ماحدث له او حل به.فأين العدل الالهي والحكمة في مصيبة ايوب ومحنته الفادحة؟!.مهما بحثنا وفتشنا لن نجد ابدا مبررا لما فعل الله به.انه الرهان التافه لاغير هو المبرر!.ولكن هل دعوى الرهان تبرر الجريمة،بل الجرائم التي ارتكبت بحق ايوب وابناءه وكل مافقده؟!.يبدو ان الله كخالق يملك حقا مطلقا بالعبث واللعب بمخلوقاته دون مسؤولية اومنازع او مشارك!. لو نظرنا بتمعن وحيادية،فلن نجد الا ايوب ،الشخص الوحيد الجدير بالاحترام والتقدير والاعجاب،فقد استطاع ان يقف شامخا متحديا انفا صلبا نبيلا شجاعا،لم تهزه النكبات التي توالت عليه،واخرها جسمه الذي نهشه الجرب،فاثبت بذلك ان الانسان من السهيل ان يتحطم،ولكنه لايقهر او يهزم الا اذا اراد ذلك.فأيوب كان الذروة في الصبر واحتمال الشدائد،لم يهن او يذل او يستسلم.ولكن عندما انبرى اصدقاءه السذج،لتفسير محنته الكبرى بأدخالها بمعميات عقلية-ايمانية ملتبسة،كتجلي للعدالة الالهية يقيني مصدق،وارجاع نظام الرب وحكمته غير المدركة بشريا،لعجز الانسان الضعيف القاصر عن فهم مقاصد الله ومراميه.اظهر ايوب حنقه وثورته،وافصح ببيانه الذي كبته طويلا بصبره وجلده.يصف الفيلسوف-الحواري-الصوفي-الحسيدي،والذي ولد في فيينا ومات في القدس"مارتن بوبر"-وهو شاهد من اهلها_يصف ماهية التناقض والصدام بين ايوب واصدقاءه التبريريون،كتقاطع صدامي،بين:أيوب وايمانه الوجداني بالله،والذي لايملك غيره،وبين دين اصحابه الاشد تمسكا بحرفية النصوص،بين الايمان المفتوح،والايمان المغلق:"اقبلوا الان بحثا عنه على كومة رماد دينه".معاناة ممتدة لسنوات،تقابل بذلك البرود الالهي المتحجر.كان هناك ربان:رب ايوب الحي القاسي اللامبالي،وبدلا منه يعرض له صحبه من خلال الدين الرسمي الكهنوتي،ربا مختلفا،عقلانيا معقولا،وحكيما بمقاييس غامضة،ومجهولة ولامنطقية،الوهية لايدركها او يفهمها ايوب،لافي وجوده الفردي الخاص ولا في العالم،ولايمكن ان يوجد-بلاشك-الا في مكان مغلق،هو ميدان الدين،والذي له نمطه الثابت والمحدد،وبالضد من اصحابه،يعلم ايوب جيدا ان العدل هو مفهوم وفاعلية انسانية لاعلاقة لها بالله،فهو يدعيها ويشاءها نظريا دون التزام بممارستها،فافعاله تعارضها حقيقة وبالصميم.
فشتان بين العدل المجرد،والعدل العياني المتحقق.فعندما يقال،وبمجانية لامسؤولة:ان الله عادل بجوهره،بينما نجد ان افعاله جائرة ومتعسفة،فما معنى ذلك؟!انه بلاشك قمة في المغالطة والتناقض الفج،ولاسبيل لحل هذه الاشكالية العويصة بمنطق عقلاني متوازن بين الاعلان النظري المثالي:الله عادل،وبين الفعل الملموس:الله ظالم،والغارق بالبشاعة التيل لا يهضمها الانسان،ناهيك عن المقدس!.يصف بوبر بحث ايوب المضني عن العدالة في العالم،ليصل الى الحقيقة السلبية المرة،الا وهي فقدانها او عدم وجودها،ليكتشف اخيرا انها داخل ذاته فقط ولاوجود لها في الخارج،فهي موجودة في الذات الانسانية و هي الوحيدة التي تميز وتعرف الفرق بين العدالة والظلم اخلاقيا،وخارج الاله والدين.فكروا في ايوب،وقبل وصول اصدقاءه،كان الاله الايوبي الخاص،يبدو اكثر نسخ الالهة غموضا وابهاما وغيابا لفرض الطابع الانساني على الكون.ولكن بعد حديث اصحابه،نجد ايوب مقتنعا بفكرة ان المرء:قد يربح حينا ويخسر حينا آخر،وعليه ان يتحلى بالصبر وهو يتلقى الضربات الموجعة ثابت الجنان،محتفظا بكرامته كانسان لاينيخ لمزاج القدر،ويكون جاهزا لتبدل الاحوال وفجاءيتها،فالريح قد تهب من الجبال وتطيح ببيتك وتسحق احبابك،وتترك ثقبا في السماء بدلا من المنارة!.يصر اصدقاء ايوب على ان العالم منظم جيدا والعدالة قائمة ينشرها ويحرسها الله بحكمته من خلال كونه العظيم المخلوق والمنسجم،والذي يعمل وفق مشيئته ونواميسه،واجراءاته المنصفة بمعاييره.ولكن ايوب لايعقل ذلك ولا يستوعبه،لان تلك السمات-وكما يوضح بوبر-تخصه هو اكثر بكثير مما تخص سمات العقل الكوني،سمات الله.يعد بوبر سفر ايوب واحدا من ابرز الاحداث الخاصة في الادب العالمي،نشهد فيه اول الباس للبحث البشري لبوس الكلام.حين يظهر الرب في النهاية،فأنه لاينكب على اسئلة ايوب المتعطشة للاجابة،والمتصلة اساسا بسؤال العدالة وماهيتها،وبدلا من تبديد الحيرة والتزود بالمعرفة،وعوضا عن بسط العدالة الالهية وتقريبها لذهن ايوب القلق،يترك الله كل ذلك،ويقدم عرضا مترعا بالغرور والاستحسان الذاتي،لخلقه المدهش من الاسرار والمفارقات والغرائب، ومخلوقاته المتنوعة،والتي يتبجح باستعراضها الفخم وبكبرياء قداسي منمط:من اين جاءت البشرية؟.من اين جاءت الارض؟وبقية الترهات!.عندما يظهر الرب لايوب اخيرا،وكان حضوره ضروريا لازما لتنظيم الفوضى واعادة التوازن بين الارض والسماء بعد سقوط ايوب في وهدة التجديف والانكار.وهذا ما شكل انحرافا في معادلة الايمان الثابتة، بدخيل مرفوض معكر هو الشك الكافر!.ولكنه وخلافا للمتوقع، لم يتصرف وفقا للموقف ولم ينكب اويتصدى لاسئلة ايوب الحائرة،والمتعلقة بماهية وجوهر عدالته هو،عدالة الرب المزعومة،ويجيب بعقلانية منطقية جادة ورصينة تريح ايوب وتزيح ضباب الريبة لديه، وتقلب التجديف لوجهه الآخر: الى ايمان.فعوضا عن ذلك،وبعيدا عن صلب الاشكال الموضوعي،مضي في شرح وتبيان منهجه وخطه الالهي لمفهوم العدالة والجزاء.ليقدم عرضا لاسرار ومفارقات وغرائب ومخلوقات هذا العالم المتنوعة،والتي ابدى تبجحا مغترا في عرضه لها ليبهر ايوب بالجانب الخلقي العملي لاالجانب الاخلاقي وقيم الحق.فماكان يهمه هو دفع ايوب لنسيان محنته،واسئلته العطشى لاجابة مقنعة،ورشق ايوب بأسئلة مضادة مربكة تغطي استفهامه القلق،لتغرقه بخدر بحر التكوين المتلاطم!..هجوم الهي مضاد يخترق محدودية فهم ومعلومات ايوب مثل:"من أين جاءت البشرية؟.من أين جاءت الارض؟.تبدو الحيوانات والنباتات والمعالم الفلكية والجغرافية اكثر جمالا وتلغيزا وتعقيدا واعجازا من ان تحدث بكيفية ذاتية وبنفسها دون علة او مسبب؟!.وايضا، تبدو اكثر جمالا وتعقيدا وادهاشا لايوب الذاهل وهو يستمع لمحاضرة الله وهو يسبح نفسه بتعالي فنسى ايوب نفسه ولم يعد يتذكر الاصنيع ربه الفنان!. وايضا كانت استراتيجية الله هي ان يجعل من نفسه بقوة الحجة المقررة،مركزا للكون،والبؤرة الوحيدة التي ينبثق منها كل شيء.وقد نجح الله في فعل ذلك فصدم ايوب وسحره وبالتالي هزمه،باستعراض عضلاته السماوية الجبارة!.فكيف تتحرك الاجرام السماوية بمثل تلك الدقة في مداراتها؟.وكيف يمكننا فهم التنوع والاختلاف في المقاييس بين المتناهي في الصغر،وحتى الكوني اللامتناهي في الحجم والامتداد؟.وبيان الاختلاف والتنافر في الزمن:الليل والنهار،ومن حيوات تستمر للحظة،الى نجوم لاتتغير ابدا اوتفنى؟.ماهي الحياة؟.ماهو الموت؟.طلاسم الاسئلة،والغاز محاجات واسئلة الرب المعجزة والباهرة تشل بسهولة العقل البدائي لطفولة البشرية،وايوب ايضا!.ولانه لايستطيع الاجابة على هذا الكم من الاحاجي والمعميات التي تهزه،فان شكه يختفي،ليعود ايوب الاواب الى ايمانه المخدر المريح بتسليم العاجز.وهذا ماقامر عليه الله برهانه المضمون،ونجح في ذلك الرهان.فخطاب الله كان دعوة مراوغة للتأمل والتفكير بهذه التشكيلة المتنوعة والضخمة من الاستعراض و الادهاش المبهر،وكانت قدرات ايوب العقلية المحدودة قاصرة عن هضمها وتمثلها في بيئة وزمن الايمان.فكل واحدة من اشكاليات موضوعاتها هي مثار اعجاب وروعة وغرابة،لكنها تبقى غير مقنعة للعقل النقدي العلمي الحديث الشكاك والممحص.التأثير الاجمالي لخطاب ولائحة الرب الاستثنائية كانت فاعلة في اقناع ايوب البسيط في تفكيره،وكان ذلك كافيا بطبيعة الحال لعقل العالم القديم الذي لايملك بديل عن الايمان الميتافيزيقي-هذا على الاقل مارمى اليه كاتب السفر-فالعقل البشري المتوسط في العالم الايماني القديم كان في مرحلة طفولته اللاهوتية،وظاهرة او فكرة الله هي مركزية تفسر كل شيء،وهي علة واصل هذا العالم.وان كانت اسئلة الرب عصية على التفسير عند ايوب،ولكن العلم الحديث استطاع الوصول لاسباب وعلل اغلب تلك الاسئلة،وتمكن من تفسيرها وشرحها علميا،وبعيدا عن الدائرة الدينية لله وقدراته الخارقة.ولكن تبقى بعض القضايا الانطولوجية شائكة تفتقر للوضوح والحل،ولازالت مطروحة وعرضة للفحص والدراسة،لما ورد في قائمة الرب وسفر ايوب، وماقدمته من منظور شعري مشوق:كسماء الليل المرصعة بالنجوم،والقمر البازغ،والمستقبل كفيل بتبيانها.نعم لدينا اليوم تفسيرات علمية كثيرة لتلك الظواهر والموجودات التي لجمت تجديف ايوب واخرست شكه،واخرجت الله الى الابد من سببيتها،ولم يعد ينظر الى تلك السموات القديمة على النحو الذي كان ينظر اليها في زمن ايوب،وكاتب سفره في غابر الازمنة.فالنور الصناعي الكهربائي انار سماء ليلنا،وحجب وابعد ذلك المشهد الرومانسي المذهل عن عقولنا وقلوبنا،وباتت التفسيرات لاغلب مظاهر غرائب وعجائب الطبيعة والكون متوفرة وتعرفها ابسط العقول،تلك التي اوردها الله منتشيا بعظمته وتفرده كخالق اوحد، وصفعت تجديف ايوب ونكرانه الخجول في سفره.نجدها اليوم وقد خفت بريقها،وتلاشى الاندهاش والرهبة عن معظم تلك المشاهد الكونية الملغزة.ومايبعث على الاعجاب اليوم هو مايبتكره ويصنعه الانسان لاالله من مكتشفات ومخترعات وانجازات:الجسور العملاقة،ناطحات السحاب والابراج الشاهقة،الطائرات النفاثة الضخمة،الاقمار الصناعية وسفن الفضاء التي تجوب خارج الكوكب وعبر المجرة،الاجهزة الدقيقة والالكترونيات المذهلة،الخ.مشاعرنا وتفكيرنا ورؤيتنا للطبيعة واسرارها هي غير،ومختلفة تماما عن مشاعر وتفكير وفطرية ايوب وفضاءه العقلي المحدود،الاحساس بالعجز والضآلة،سحرية الاشياء،الخ.كذلك فان بعض ماذكره الله بوصفه اكتشافات وغرائب غير مألوفةاو معروفة لايوب،كوحيد القرن،لم يعد عجيبا كما كان في الماضي السحيق.مؤلف السفر الايوبي يسرد الكثير من اسرار الطبيعة وخبايا العالم،وعلى لسان الله،ولكنه تركها هكذا دون تفسير او تبيان مسبباتها وشرح حركتها او آلية طبيعتها.فالله كان حاضرا بمشيئته وقدرته وسيطرته كعلة وانتساب سهل وجاهز في تكوين وخلق وايجاد وتحريك كل ماهو مجهول وغريب،ومعروف وقريب لدى الانسان.ولكن مبدع نص ايوب الحكائي يتجاهل عمدا او سهوا او جهلا،ويمر مرور الكرام على الثيمة الاساسية والمركزية في السفر الايوبي الا وهي:العدالة الالهية وماهيتها،وكيفية تحقيقها واقامتها بحياد واستقامة ونزاهة.وبالكاد نوه عنها،فالله-الراوي لم يتطرق على سبيل العرض لملابسات وتعقيدات العدالة الجماعية او الالهية وقوانين الرب،مقابل العدالة الفردية الانسانية التي رنى اليها ايوب وتطلع لتحقيقها.وايضا لم يتحداه بطرح الاشكالات الاخلاقية-القيمية التي اهملت او تركت معلقة او محشورة في جب الحيرة والسكوت.مادام الرب قد تجاهل فعلا وبقصد الموضوع الاهم والمحدد الذي أرق أيوب وتركه نهبا للعذاب والجهل.وبدلا من ذلك صادر السؤال،وحاجج بفذلكة خطابه،مستعرضا قواه الخارقة واعجازه الخلقي،وبنبرة غاضبة استعلائية،مظهرا قدر من الاستهانة والاحتقار لمحدودية وضآلة الكم المعرفي والمعلوماتي لعبده المسكين ايوب!.علينا ان نعترف بأن مؤلف السفر الايوبي ذو الخلفية الايمانية المدرسية الخالية من الشك المرتاب،قد رسم صورة مثالية ومتعالية للأله،واكد على كونه منبع ومصب كل خفايا واسرار الكون وسننه وموجوداته،ولكنه لم يلتفت لحظة واحدة، او يولي اهتماما او ذكرا حتى ولو بكلمة لعمدة السفر او عاموده الفقري الا وهو:العدالة التي طالب بها ايوب بأنينه الصارخ ،وافتقرها لدى الرب،كافرا بوجودها.فالله وكاتب السفر كانا معا في وادي الايمان الخالص والاعمى،وأيوب المحترق بالظلم والعدالة المفقودة في وادي النبذ والتهميش والتجديف!.نستطيع ان نستشف ونحن نقرأ سفر ايوب، ان نفسر او نؤول مقاصد واهداف كاتب النص من دعاية دينية وترويج وتوجيه تربوي ودوغما مقولبة،من خلال كلام الرب وفحواه:ان العدالة الالهية هي ضرب من الالغاز والشفرات العصية على فهم الانسان،ومتعالية فوق قدرته،ولايمكن ادراك كنهها،او بلوغ مراميها،مع انه لم يصرح بذلك او يلمح،لانه باطن في غيهب المستحيل.لم يتعاطف الله مع بلاء ايوب بحس الهي،ولاحتى انساني،بل تعامل مع شكواه بحساسية الهية،وبشيء من الغرور والغضب الالهي.فسنين الآلام والدمار الشامل لم تهز رحمته او عنايته او شفقته،ما اثاره وجعله يهبط بعجلة ليتدارك قضية مأزق الايمان وخطورة التجديف الذي اعلنه ايوب في يأسه.انها حالة طواريء تطلبت منه الظهور العياني النادر مع واحدا من عبيده الذي بدأ يشرد ويتمرد عن القطيع!.ما هيج امتعاض الرب هو:جسارة وجرأة وتطاول ايوب،ونطقه بخطيئة التجديف المميتة التي لايسمح او يتهاون بشأنها راعي القطيع!.الله-طبعا-لم يتعامل مع ايوب كانسان بسيط منكوب ملتاع،ويكتفي بوصفه بالضلال والحماقة وقصور الفهم،فهو الرب وايوب هو العبد،وشتان بين الخالق والمخلوق والعلة والمعلول.لذلك نهره الله قائلا:"كيف تجروء؟".وكأن ايوب لايملك حقا في الاعتراض او الاستفهام او التسائل عن جوهر وماهية العدل الرباني وحقيقته.فالله نفذ ابادة جماعية لابناء ايوب العشرة وعبيده،وقتل مواشيه ودمر مروجه،ولم يكتفي بذلك،بل اعطى تفويضا لشيطانه،بان ينتهك جسد ايوب بالداء الجلدي الوبيل الذي هرس لحمه وجلده وتركه يتعفن فوق الرماد!.وكل ذلك جرى من اجل ماذا؟!.من اجل رهان عبثي جرى وفق جلسة مسامرة وترفيه بين الله ورهطه من الملائكة والشيطان ،كما كان يجري بين آلهة الاولمب من تحديات ومراهنات، وتلاعبها في مصائر وشؤون البشر!.فأي منطق عقلاني او حس اخلاقي سليم ممكن ان يقنع ايوب بوجود او احتواء جوهر الرب وكيانه لادنى مستوى من عناصر العدل او الحكمة او المعقول؟!.يخبرنا رب ايوب:انه لايجوز افتراض ان من يعاني هو مذنب بالضرورة ،ومن لايعاني هو بريء حكما.وهذه الفكرة الالهية لاتترك لايوب مجالا او خيارا لتحديد ماهية العدل كما يراها هو نفسه.ومن اجل ان يكفر الله عن ذنبه الذي ارتكبه بحق ايوب-طبعا هو لايعترف بذلك مصرحا فهذا يقلب الموازنة-المعادلة والعلاقة بين الخالق والمخلوق،ولايمكن طرحها بصراحة وعلانية-وماسببه له من تحطيم ودمار لحياته وحياة عائلته وهو البريء المستقيم،والذي لم يستحق ماجرى له،ولو بأدنى مقاييس العدالة البشرية الناقصة اوالالهية المطلقة.ليقدم الله على تعويض ايوب بأعطيات وفيرة،وكبديل بشري مشابه او منسوخ او هو نفسه ببعثه للحياة من جديد لمافقده من ابناء-وكأن ايوب سيكون او سيبقى هو نفسه قبل نكبته واثناءها وبعدها عندما حل الانفراج!-حيث يتصالح الله مع ايوب،ويعقدوا سلاما تلفيقيا قائم على المساومة والعوض والرشوة الالهية:زينة الحياة الدنيا،مالها وبنونها!.لتمضي حياة ايوب وادعة مستقرة رتيبة بلا منغصات او بلايا،متمتعا بحفنة السنين التي من بها ربه عليه،وهنا ينتهي السفر.-تنويه لابد منه:ان وقوفنا الطويل عند مشهد المواجهة واللقاء بين الله وايوب والسفر يتصاعد نحو ذروته الختامية،والذي تبدو وكأنها وقفة مراوحة ودوران في نفس المكان تبعث على الملل،من تكرار قراءة النص اكثر من مرة،مجرد اجترار معاد او حشوا لالزوم له،ولكن الامر ليس كذلك،فلأهمية برهة المواجهة السلبية-الايجابية،ومن طرف واحد هو الله -فقد كان ايوب سلبيا طيلة الوقت ومصغيا حتى نهاية الخطاب الالهي-و التي هي لقطة نادرة وشحيحة في بقية الاسفار، هذا اللقاء الالهي العياني وجها لوجه والتحدث مع ايوب باللغة العبرية التي يفهمها.فتحليلنا للنص يتطلب اعادة القراءة عدة مرات ومن زوايا متعددة،وتتناول اكثر من جانب لحضور الله ومضمون ماقاله والاستراتيجية الهجومية التي استخدمها الرب في تفتيت و تذويب التمرد والشك الايوبي وتحويله الى خنوع وتسليم وعودة الى حضيرة الرب،وهذا ليس مألوفا او عاديا،لقاء الخالق بالمخلوق بصوت وصورة ومقاربة بصرية ولسانية.وهذا يحتاج للولوج بين طيات وثنيات خطاب الله،وتكرار واعادة القراءة لمرات.لذا كان ضروريا ان ننبش ونحفر ونقلب ونستقريء وننطق الخطاب الالهي المبهم،وكشف آلياته ومنهجه وغايته في صنع وهندسة المؤمن المثالي الانموذج.ونحن نتحدث عن خطاب الله الطويل الذي جندل ايوب معنويا،تسترعي الانتباه والملاحظة زاوية اخرى في سفر ايوب-وما اكثرها!-وهي تلك المتعلقة بالعالم الآخر البعدي،حياة مابعد الموت.فلا الله في حديثه عن كل شيء بتفصيل دقيق،ولاايوب،ولااصدقاءه ولاالشيطان نفسه،تناولوا او اشاروا او لمحوا لذلك لامن قريب ولامن بعيد!.في الخطابات التحاورية المتقاطعة بين ايوب واصدقاءه ،،وبين ايوب والله ،او االله والشيطان،الخ،كان مجمل الكلام يلف ويدور حول:العدالة والحكمة والعناية الالهية،ومحنة ايوب،وسبل الرب السرية والمجهولة لتنظيم وتحديد نصاب القيم والمفاهيم.ولكن لم نجد من يوظف او يستشهد او يستخدم شيئا من عناصر الدراما الايوبية ،ولا احدا استحضر عالم الآخرة الفردوسي -الجحيمي ابدا!.لماذا هذا الغياب للعالم الاسكاتولوجي او الابوكاليبس- عالم الاخرويات اوالحياة بعد الموت-كما وردت في سفر دانيال او التلمود؟!فهل هذا مستغرب يدعو للتسائل والاستفهام، ام هو عادي و طبيعي ولم يكن هناك من حاجة للتطرق اليه او ذكره؟!.نعتقد-وهذا اجتهاد قابل للمناقشة-ان كاتب السفر،والفترة التاريخية التي عاشها وكتب فيها،لم تكن بعد قد اسست او وضعت عمارتها او بنيتها الاسكاتولوجية لمابعد الموت ونهاية العالم،ولم يجري بعد تخيل او تحرير نسختها العبرية المكتوبة او المتناقلة شفاها و المختلفة او المشابهة لصياغات شتى من دراما او ملحمة الفردوس والجحيم والمطهر،وبقية عناصر عالم الآخرة البهيج والسعيد للمؤمنين الاخيار الذين التزموا بتعاليم ووصايا الرب،وعالم الرهبة والفزع والتعذيب على الكافرين الذين عصوا الوصايا واوامر الرب وتمردوا وضلوا في دروب الشك والغواية.فما من آخرة في سفر ايوب ولاحياة ثانية بعد الموت بالنسبة للرب التوراتي،ليجازي بها الابرياء ويعاقب المذنبين. هي قطعا الابقى والاهم من الحياة الدنيا وعليها يقوم دغائم و بنيان اغلب الاديان كوسيلة ردع وتخويف بالجحيم ،وايضا للاغراء كحافز جزائي بالنعيم.فدين بلا جزاء وعقاب للاخيار والاشرار هو دين كسيح وغير فعال في نفوذه وحضوره وسيطرته الايديولوجية.
فلو نظرنا الى ايوب فأننا سنجد انه لم يكن ينظر الى الموت الا كنهاية نهائية وراحة وخلاص من آلامه،وهو ايضا ما كان يتمناه ويريده،ولم يكن يرى في الموت معبرا او فاصلا بين حياة مؤقتة واخرى دائمة.ولو كانت فنطازيا الجنة متداولة ومعروفة في التقاليد الدينية -الثقافية في زمن ايوب لاصبحت عزاءا وسلوى واطمئنان نفسي مريح للمآل الاسعد والاجمل له،وجزاء ونعمة لايمانه وصبره يستحقها عن جدارة ونصيب معادل لبره وصلاحه.وايضا اصدقاء ايوب لم يقدموا في خطاباتهم الثلاثية مايشير الى نعيم تلك الحياة الاخرى الخالدة،كنهاية سعيدة لبؤس ايوب وعذابه وتعاسته،ولافاضوا كثيرافي ذكر الطيبات للبطن والفرج،وجمال تلك الحياة الخالدة الهانئة،والتي سيحضى بها ايوب ويتمتع.ولكنهم لم يفعلوا ذلك!.وكذلك الله ايضا،تكلم في تفاصيل كثيرة،ووصف حيوانات متنوعة من النعامة الى التمساح!.ولكنه لم يتحدث عن مدينته السماوية و عالمه القيامي الاخروي:فردوسه الموعود للمتقين والمؤمنين به،والجحيم المسعر للكافرين والمجدفين به و عليه .وهذا منطقيا ومن باب اولى،اكثر تأثيرا ونجاعة واقناعا في الاغواء والردع من خطابه الالهي الطويل الممل،واجدى لارجاع ايوب الى حضيرة الهداية والتوبة،ولحقيقة:ان صبره وصموده على ايمانه رغم بلواه،سيكافأ ويثاب بخير جزاء وثواب مضاعف،ولكنه لم يفعل ذلك ايضا،وليس من تفسير مقنع لذلك الا:ان الديانة العبرانية لم تستحدث او تخترع بعد قيامتها اليوكالبسية الخاصة باليهود،ففي الحياة الدنيا-وليس من غيرها-نثاب ونعاقب،نكرم بالخيرات والسعادة والعيش الكريم،او نحرم من كل خير وتنصب علينا الشرور والتعاسة فتكون حياتنا جحيما.وليس من نظام الهي ثابت او متوازن في قسمة الحظوظ والمكاسب حسب الافعال،فكل شيء يجري اعتباطا دون محددات او معايير،متروكا للمشيئة والمزاج والمقامرة الربانية العشوائية،وهذا مالمسه ايوب في حالته الخاصة المتفردة.الكوميديا الالهية المابعدية،يوم الحساب،يوم القيامة،الخ من نعوت البعث والنهوض من الاجداث.هي اهم ركيزة في الاديان التي تعني صلة مباشرة بالسماء من خلال وسيط رسولي نبوي.فبدون الحساب الآخروي الذي يضعه الدين في صلب بنيته العقدية،يجرد نفسه من قوة الردع واغواء الاثابة،ويصبح مجرد دين اخلاقوي سلوكي،يحض على السلوك القويم والالتزام الاخلاقي كواجب طوعي دون الزام او تبعات او جزاء في الاستقامة والانحراف.فالعالم الآخر هو محاولة لاصلاح فوضى العالم الدنيوي الجزافي الخالي من الانصاف في توزيع الارزاق والاقدار،ولكن حتى هذا العالم مابعد الموت والذي يبدو عادلا في نصيب الاخيار والاشرار بعد محاكمات صارمة وعادلة قانونيا،ينعم الاخيار بالجنة ومسراتها،ويقاسي الاشرار من عذاب جحيمها.وهذا ليس عدلا في جوهره ومطلقيته.فجزاء العبادة والايمان هو رشوة موعودة للمؤمنين،وعذاب الكافرين المجدفين هو اقرب الى الرشوة على الطاعة والامتثال،واقرب الى الانتقام والقصاص على التمرد والمخالفة منه الى العدل والجزاء الاوفى!فمامعنى التعذيب الابدي لانسان غيرمؤمن او مقر بالالوهية؟!.نقطع مع فكرة الآخرة لانه موضوع طويل وكان استطرادنا له جانبيا،ونعود الى ايوبنا-العبد البائس المضيع-..كانت لحظة ايوب التجديفية الخاطفة التي لامسته بقوتها الضاغطة بعد ان بلغ يأسه منتهاه،ولكنها لم تكن استدلالا عقليا مبنيا على منطق التأمل والتفكير الحر المحايد،وصل اليه بألامعان والتروي والتمحيص دون تدخل من المشاعر،بل كان على العكس تماما،هو نتيجة لنوع من الجزع القاهر،والخيبة العاطفية المتراكمة،التي فقدت ثقتها بالله،ومن ثم ايمانها بعدله وشكها بنزاهته في ادارة وتدبير الكون،وتسيير مصائر مخلوقاته العاقلة.فقد ظل لحفنة من السنين يوجه ضرباته الغاشمة والجائرة ممعنا في غيه،لايستجيب او تتحرك رحمته لصرخات ونداء ايوب بالغوث والنجدة،وهو يشاهده يتلوى في عذابه،وليس لديه الا الرغبة في الموت،وهو بارد كآله حجري بلاحس او تأثر!.فهل نرى هنا تجسد للعناية والرحمة او للقسوة والجور الغاشم؟!.
برهة:التجديف،الكفر،الانكار،المروق،الخ،من مظاهر الخروج على الطاعة الدينية وعصيان الرب.تلك الوهلة القصيرة العابرة،والتي رغم ذلك اثارت حفيظة الاله،واجبرته على النزوال الى الارض لمجابهة ايوب بحضوره العياني!.لم تكن تلك البرهة خطيرة او مزعزعة للايمان الايوبي،فتجديفه كان آنيا لحظي ومضي خاطف خرج من تلافيف المشاعر الملتاعة،والمضغوطة بالاحباط والاندحار المعنوي،والصدمة بغموض ولامنطقية العدل الالهي المطلقية الكمال وجوبا،وتبين انه لايرتفع حتى لمستوى الفهم البشري المتوسط لمعيارالعدالة.تجديفا تغذى من قنوط الذات المؤمنة-المشككة،وجفاف الضمير وتبلده وهو يرى القسوة الشنيعة في تعامل الرب مع عبده البار!.كفرا سايكولوجيا قح بمظاهر انفعالية،رد منفعل على انتهاك روحي شامل،اتسم بتوحش همجي دموي وبارد بلا مسوغ.انكارا تمرديا عفويا منفلتا لم يدرك انتقاله الفجائي الى الوجه الآخر للايمان،وهو التجديف السلبي المضطر المحاصر،لاذاك الكفر العقلي-الفلسفي-المبدئي،الذي يصل لقراره بتأني وتبصر، ومحاكمة منطقية او تجريبية مختبرة،استندت على قناعة وادراك ذهني مجرد عن العاطفة والهوى،دليله الموضوعية النزيهة والمعرفة العلمية.تجديفا لانوعيا من الكم الشعبي المألوف الذي يتعرض له الانسان البسيط وهو يصطدم بمظاهر تهزه وتحرفه مؤقتا عن جادة الايمان الصافي.الى تلك الخطيئة العارضة الهشة الغبية الرعناء،والقابلة ايضا للغفران والتسامح والتجاوز لانها لاتلوث العقل او الروح وتنسى ببساطة وتطوى.ولكن جذور تلك الخطيئة مغروسة وراسخة في تربة الايمان العميق،وجزءه المكمل،فهي ليست ذنبا بقدر ماهي ضرب من قول او اشارة او سلوك يخرج قليلا وينحرف عن استقامة الايمان،ولكنه لايلغيه او يدمره،بل يضببه ويجعله ملتبسا ومزعجا لطمأنينة الوجدان وسكينة الروح.ولكن مع ذلك يبقى التجديف عرضا من اعراض الايمان القلق المرتاب،ايمانا في محنة، او نتاجا لابد منه لطبيعة وبنية الاعتقاد الديني،والذي لايقابل بالمثل لاهوتيا.وهو في نفس الوقت اعترافا وتأكيدا على وجود الله في كل مكان،وتدخله في ادق واتفه التفاصيل.فلامعنى للايمان بلاكفر،ولامعنى للكفر بلا ايمان.فأن تشكك وترتاب بعدالة الرب وحكمته وحتى في وجوده،،يعني انك تتوقع عدلا وحكمة مفترضة لاتحتاج لبرهان،وعندما لاتجد مطابقا لماتنتظره من نتائج،فمن الطبيعي ان تنقلب لتعبر عن تجديفك البرزخي المجسر بين ايمانين،ايمان ماقبل الكفر ،وايمان مابعده،والقابل للتكرار والانزلاق،والتأرجح البندولي لمرات، وحسب ظروف ومواقف الانسان الديني.فالتجديف سحر وتسلط وجذب آثم،ومنزلق وعثرة حاضرة امام كل تجربة بشرية- دينية،واحتمال وارد ومتوقع في الوضع البشري الروحي-الايماني،عندما يتعرض الفرد لكم هائل من الشر والاذى،بلا ميرر او خطيئة.وقوام التجديف وهيكليته تقوم بلاشك على فكرة مجابهة الله وتحديه بنكرانه والكفر به،وهو الوجه الاكثر غلظة وفظاظة والاكثر سلبية للوجه الاخر من الايمان الديني،رغم منطقيته امام الحيف الجائر الذي يكابده الانسان من قبل القوى القدرية الغشوم-وهو فكرة الله قطعا-بين الكفر البواح،والتصديق والتسليم الايماني الابله اللاعقلاني.تلك الجدلية المتوترة المحتدمة والدائرة في حلقة الايمان-الكفر الصراعية.بين اللاهوت المتخيل،والناسوت المتجسد،تلك الاشكالية التي لن تحسم ابدا بنتيجة او طباق منبثق ينهي ذلك التناقض.ولان ايوب رجل من رجال الايمان او انبيائه،رجل اعتقاد،وليس مفكرا او فيلسوفا ليمضي بعيدا في تجديفه الى العاطفي،وتحوله الى الحاد عقلي نوعي مختار بلا عودة او ارتداد،،متحرر من الظن او التعلق.لذلك لم يطرح ايوب اسئلة لاهوتية عويصة على ربه،مثل:هل الجور هو جزء من بنية وجوهر الالوهية؟.او ماهي مصادر الشر التي تحيق بالانسان؟.وهل هي مخلوقة،او ماهية قديمة مثل الله نفسه؟.وهل الشر من الرب،او الشيطان،او الانسان؟!.وهل عدل الانسان ومعياره القانوني اكثر رحمة وانصاف من عدل الله وسننه؟.وو وغيرها الكثير من اشكالات تؤرق الانسان المرتاب والمتعطش للمعرفة والحقيقة،فضوله وضالته.لقد كان عذاب ايوب،وبتجريد،هو تمرين سايكولوجي وبأمتياز للمقاومة والصبر،مقاومة العذاب والالم،عذاب الله المسلط بعبث مجاني مزاجي،او مقصود وبرغبة سادية ملتذه بقهر الانسان.تمرين معاناة ينتهي عندما تصبح الحياة عبء ثقيل،لتشكل كما هائلا من التفاهة والعقم،وغير قابلة للتحمل او الاستمرار في العيش.حيث يكون الموت هو خشبة الخلاص،والبديل المنجي من حياة شقية منفرة.اذا كان الله مطلقا لامتناهيا،فمن المفترض والبديهي ان تكون قيمه مطلقة ولامتناهية ايضا،وبضمنها عدله وحكمته وعنايته الشاملة والمحيطة بكل مخلوقاته،ويطوي بيسر تحت جناحه العدل البشري المحدود ويحتويه بمطلقيته الالهية وتجاوزه لنسبية وقصور القيم الانسانية،واولها عدل ايوب الفردي البشري المتناهي؟!.ولكننا لانلمس ذلك حتى ولافي الحدود الدنيا،ومن هنا يقف ايوب عاجزا حائرا جاهلا،طاويا سؤاله بيأس وقنوط اسود من سلبية الاله المطلقة.
في نهاية السفر الايوبي والذي يبدو وكأنه خارج من واحدة من حكايات الف ليلة وليلة،تلك الليالي ونهاياتها السارة في اعقاب بدايات البلاء والهول،والتي تتأقلم منسجمة مع المسار النفسي المتجانس والجمعي والذي يقف بثبات عاطفيا واجتماعيا ضد انتصار الشر والخبث والظلم،وتقديس قيم الحق والخير والجمال،وانتصارها النهائي المؤكد كانتصار اخلاقي لقيم الانسان السامية ومندرجها الديني.فأيوب بعد ان كافئه ربه على صبره وخسارته الفادحة بعوض او مقابل مضاعف-هل يمكن تعويض الابناء بغيرهم كبدلاء حتى لو كانوا مشابهين لهم؟!-يمضي ايوب بعيدا ليعيش حياته الجديدة الممنوحة بكرم الله وفضله،مع عائلة جديدة مختلفة او مستنسخة اومشابهة،في ظل نظام جديد،قد يكون اقل تنظيما بكثير من النظام السابق،ولكنه اكثر اختلافا طبعا،فقد كانت جياة اخرى،وعائلة اخرى،وايوب اخر ايضا،ايوب شخصا جديدا مبرأ من المرض والمعاناة والتجديف والماضي المحزن الذي ولى وانطوى بكل حمله من اوجاع وجور قاسي. ايوب قياسي وانموذجا يحتذى ويعمم بتلك الرمزية الدينية السامقة.ربما يكون ايوب قد فقد جل اهتمامه ورغبته بالعدالة بعد التسوية الالهية التوفيقية التي انصفته-بعد دهر من الظلم!-وهذا لايعد انصافا بالمعنى الدقيق بل رشوة سافرة وثمن بخس للضر والمكابدة الطويلة التي مس بها الله ايوب؟!.ولكن هل نسى ايوب سنواته العصيبة بتلك السهولة،وبهذا الاستخفاف اللاانساني المحير؟!...ربما يكون أيوب فعلا قد انهى صراعه وتصالح مع ربه وآب لحضيرة التقى،مأواه الوحيد.واستكان لاستراحة المحارب الطويلة من الدعة والخمول والسلام اللذيذ الذي غمره الله به.ولكن من حقنا نحن قراء سفر ايوب ان نسأل:ان كان ممكنا تصور عقل ومنطق لوجود سامي متعالي،وبلا اسس من عدالة وقوانين الهية ثابتة؟.او نتخيل مشيئة عاقلة واعتباطية،مرنة بميوعةرجراجة دون سنن قويمة ومحددة وملزمة!.بعد تلك القراءة لسفر العذاب الايوبي نعتقد-بلا يقين جزمي طبعا-احتمالية وامكانية وجود عقل ميتافيزيقي مدبر-مدير،ولكن لايترتب على ذلك ضرورة او حتمية وجود مفهوم للعدل،او ادنى قيمة اخلاقية حقيقية كأعتبار ملزم.فالاخلاقية ليست محمولة على العقل الالهي ولاتلزمه،وبالتالي لاقيم ولاقوانين ولامقاهيم قيمية هناك.وهذا يسري على البشر ككائنات طبيعية قبل-ثقافية.ولكن سيبقى هناك عقلا وعقلانية،اذا كان لدينا قدر ضئيل من حس او ادراك العدالة الذي يتجلى عبر عقل الكون-الله.اذا توصلنا لاستنتاج او قناعة مفادها:انه لاوجود لاي عدل الهي،مع تمسكنا او اقرارنا بوجود الله او اي شكل من اشكال الالهة،فأي نوع من الالهة سيكون عليها الها بتلك المواصفات وعلى هذه الشاكلة والسمات؟!.وجوابنا المتواضع هو:اما ان يكون الرب الها عاجزا عن تحويل مبدأ عنايته او عدله الضمني الى فعل مشروط والزامي،والا سيكون الها معطلا او مستقيلا،او انه لايكترث بعدل او ظلم وعناية اوتخلي،حتى بالمعنى والمفهوم البشري،ومع ذلك يملك عقلا!.وهذا بالتالي نوعا من العرض الاجتماعي-الاخلاقي-الديني.اذا كانت الحجة الاساسية الملحة للاصرار على الايمان بالله هو مجرد عملية خلقه للعالم ومخلوقاته،ثم تركه لمصيره المجهول وفوضاه الجزافية.عندها سيكون من العسير جدا او عبثيا لدرجة المفارقة،الدفاع عن فرضية انه لايمتلك القدرة او المشيئة لجعل العالم اقل خطرا وفوضى وظلما،واكثر عدلا وعناية ورحمة وتنظيم،وان كان لايعني حقا،ويملك عقلا،فلا يمكن ان يكون من النوع الذي نعنيه ونفهمه نحن البشر،ومخالف لمعايير الله.من الثابت في سفر ايوب ان الله لم يفدم اطلاقا اي حجة او تبرير يدحض او يفند او يرد او يوضح ويقنع ايوب بأدراكه وفهمه ورؤيته هو الخالق العارف القادر لماهية العدالة،عدالته المطلقة.وخلافا لما يجب ان يظهره ويبديه وماينسجم مع المنطق.بل انهال بوابل من الاسئلة والاحاجي وغير ذات صلة او ارتباط بموضوعة ايوب وسؤاله المركزي عن طبيعة عدل الله وقدرية الشر او الظلم الطائش الذي يضرب مرة بتسديد ومرة خبط عشواء،وحقيقة وجوهر اخلاقية الله وشريعة رعايته وحدبه على مخلوقاته واولها الانسان.ولان ايوب ابن بيئته وثقافته وعصره،والسفر هو الصورة الخيالية للحكاية التي دونها كاتب السفر كحاخام او اديب لاهوتي او من العامة،لتلحق باسفار التناخ نصا لاهوتيا مقدسا يتعبد به من قبل معتنقي ديانة العهد القديم(اليهودية)وديانة العهد الجديد(المسيحية).فكان من الطبيعي في سيرورة السرد ومفهوما ان يسلم ايوب امره لرهبة وغموض ومشيئة ربه الغاضب،ويتراجع عن تمرده اللحظي الذي لجمه الرب بلائحته التكوينية وقصة الخلق.وبوعي مغيب وارادة مكسورة تائبة،ويخضع طائعا لجبروت واكراه الاله.ان موقف ايوب جدير بالتوقف عنده والتأمل والتمعن فيه.تلك البرهة الانسانية الاستثنائية المتحررة جزئيا من التعلق الوجداني،والتي تجلت بأنتفاض الكرامة الذاتية وتحرك التوق الانساني الاخلاقي الرافض للحيف امام القهر المجحف والانتهاك القدري المتسلط والمنتهك لقيمة الانسان.وعلى الرغم من محنته الرهيبة التي حطمته جسديا ولكنها لم تقهر روحه الصلبة.تلك البرهة النادرة التي اكتشفت فيها ذات ايوب قوتها المعنوية الكبيرة ومديات حرية الارادة المفتوحة على التقرير المصيري رفضا او قبول،فمزق ايوب شرنقته وصب جام غضبه على الجور المتعسف الذي سامه العذاب.ولكن هذه اللحظة التراجيدية الفارقة لم تدم طويلا مع الاسف،لتتراجع كموجة مد تلاشت بخجل لتغيب بعد ان صدمه ربه وابهره بكم بليغ من الفذلكة الالهية والاسئلة المربكة والتعجيزية والتي لم يكن لدى ايوب ادنى معرفة او معلومة بشأنها فلم يملك لها اجابة او ردا،فأنطفأت تلك الومظة كوعي فجائي برق ثم اختفى ليعود ايوب القهقرى الى قواعد ايمانه المتجذر في عقله وقلبه سالما بندمه وطلبه للغفران.يخبر ايوب الهه بأن رؤيته العيانية له دفعته لان يعترف قائلا:"أمقت نفسي واندم هكذا في التراب والرماد".كره الذات! والندم!والاذلال النفسي والتحقير الشخصي!.بعد فورة الكرامة والرفض،يبدو امرا محيرا ولكنه مفهوم.فمن اين جاء الاحساس الثقيل بالذنب ليصيب ايوب في صميم انسانيته؟!.ولماذا يمقت ايوب نفسه؟!.فما الذي انقلب وتغير،وكيف؟!.بعد ان تجلى الله عيانا وبان كنور الشمس امام ايوب الذي تحدث عن الحيف والظلم الذي قاساه من الله نفسه او الشيطان،لافرق!.فأين ذهبت كلماته النارية وخطابه الثائر،ورباطة الجأش الواثقة وادانته الصريحة والوقحة لله؟!.من المحير والغريب ايضا ان تراجع وتوبة ايوب كانت قبل ان يشفيه الله من مرضه بعد،ولم يعد له ممتلكاته ولا اولاده وبناته بعد!.لم يكن الامر عرفانا بالجميل،او شكرا على العطاء والعوض البديل اذن.حتى ان ايوب لم يعفر وجهه بالتراب بعد،فلماذا مهانة وذل التعفير هذا؟!.هل هو عقاب على الجرأة والتطاول؟!.ام هو التكفير عن التمرد والتجاوز على الله حتى ولو بالنية فقط؟!. ان دائرة الذنوب والمعاصي لاتحيط او تعتقل الا الانسان المقيد بالتعبد الديني المتوارث،ويبقى الله ربا نظيفا طاهرا وغير مسؤول،خارج وفوق تلك الدائرة الملعونة من الخطائين والعصاة،متسلطا حاكما فوق القانون منزها عن مايلوث بني الانسان،ابيض اليدين،صانع السنن السامية-ولكنه غير ملزم بها ولايحترمها!- لعبيده صانعي الآثام وجنود ابليس!.ان مبدأ قصة ايوب هو سؤال الذل،الذل البشري المقابل لكبرياء الله.فأيوب كان رجلا مؤمنا صالحا متواضعا كريما ذو ضمير حي،رحيم بالفقراء والمعوزين،ولكنه وعبر تجربته المرة والمروعة بين ألم وعنف وقتل ومرض،وخسارة كارثية غير مبررة او مفهومة.كل هذا اوصل ايوب ومن خلال امتحانه الطويل،لبلوغ معرفته الخاصة والمستقلة حول مفهوم العدالة بالمعنى الاصطلاحي الانساني المستقيم،ومع كل ذلك فقد اصغى ايوب بأنتباه لسرد الله وقائمة اعجازه الرباني،ولمجرد تفكيره بأسئلة الوجود الملغزة التي صاغها الرب ببيانه ومنطقه الصادم المبهم.ظن ايوب،بل كان على يقين من ان هناك رب خالق ومبدع لكائنات وظواهر لايستوعبها او يطيقها عقله البسيط المحدود،وبالرغم من قناعته بلاوجود اي عدالة او عناية الهية فعلية.يعد قراءتنا لسفر ايوب،نقول ان الله لم يحضى بتقديرنا واعجابنا بقدر ماهزنا وبهرنا ايوب بنبله وانسانيته وروحه الحية،وخاصة حين غطى الجذام الفتاك جسده المتقرح بصديده المتعفن الذي اكل جلده.وراح يتأمل في حالته البائسة وشقاءه.اثار ايوب اعجابنا وفي نفس الوقت خيبتنا وأسفنا لنكوصه لايمانه القديم!.في الظاهروحسب مشيئة محرر السفر الايوبي،وصيغة الحكاية المروية،وهو يواجه اسئلة الرب الكثيرة والعويصة،والتي نميز فيها ايوب بالجلد وتحمل العذاب والصبر على آلامه الكبيرة،بينما استسلم لقوة اعلى،قد يكون فرجا وانقاذا ربما ضروريا،ولكنه ليس جليلا او باعثا غلى الاحترام بوجه الخصوص.ربما يكون رد فعله المذكور ليس كانسان متجسد يختار،بل هو الميل والهوى التقوي لمبدع الحكاية وتحكمه في سلوك شخصية ايوب المروية بتلك المدونة التي يجب وحتما ان تصاغ وفقا لمعايير توراتية قويمة وصارمة كأمثولة دينية تثقيفية تسعى لتكريس التهذيب والاعداد البيداغوجي الامثل.ان يشكر الانسان ربه في سراءه وضراءه،في خيره وشره،فمن الاله كل شيء واليه يعود كل شيء.هذا هو لب ومغزى ومعنى وغاية سفر ايوب الوعظي اساسا.في كتابه الممتع"سيرة الله"يطالعنا جاك مايلز بكتاب التناخ،والذي اعتبره سيرة ذاتية للرب،وسيرورة صاعدة لمفهوم الاله وتطوره كفكرة،ومن خلال تحليل ادبي ولاهوتي شيق ومدهش،وببصيرة دقيقة وذكية،ان:الرب العبراني لم يتكلم على الاطلاق بعد سفر ايوب!.وبات الله بعد ذلك الها صامتا
مستقيلا غير مكترث منزويا متواريا الى الابد..
مايبدو على سطح السرد في صراع الرب الحواري-الخطابي مع ايوب انه قد افحمه ببراهين لاتدحض،فأخرسه،وبالتالي رفع راية الهزيمة البيضاء،وصمت كما ورد في سفره.ولكننا نعتقد،وهو اقرب للحقيقة:ان أيوب هو من اخرس الله وألجمه!.من الطريف ان نجد ان اسكات أيوب للرب هو جزء من النص-نحن لانعرف بالضبط كيف تم ترتيب الاسفار التوراتية،وهل ان ترتيبها جرى بالتنسيق التاريخي المتتابع،ام بالشكل العرضي الاعتباطي كما حدث للقرآن الاسلامي؟!.م.ا-لان الرب لم يتكلم مع احد قط بعد محاضرته في سفر ايوب!.وهذا يعكس تغييرا حقيقيا في عالم الواقع،بعد ان دخل اليه سفر ايوب محررا كنص قداسي في بنية العهد القديم الكلي المعتمد.ثمة ماهو حاسم في قصة ايوب و يرمي لهدف محدد وهو:مصالحة العبد الاواب مع الاله وتسوية العلاقة بينهما.فرغم الفقدان الفادح لكل الابناء،وضياع الممتلكات،وذلك التخلي القسري او انتزاع الاشياء الممنوحة من قبل الله والتي من بها على عبده ايوب،وسمح له بتكديسها ومراكمتها واكثارها الى حين،ثم جرده منها لاحقا،وهي في حقيقتها ليست ملكا ثابتا ودائما،بل هي مجرد عطاء موقت او اعارة او حيازة لملكية الهية تشمل كل الطبيعة والاشياء ولكنها قابلة للاسترجاع في اي وقت.والفكرة التي لاتقول:انه وبعد فقدان وخسارة كل شيء،هنالك امكانية وفرصة ثانية لاعادة الامور الى نصابها وعودة مافقد او اختفى،واسترداد الملكية الصورية لما جردنا منه،في يوم وساعة يحددها الرب القابض والمانح.فهل كان ذلك كافيا ومرضيا لمؤلف السفر الايوبي،ومستنفذا الغرض منه،وبالتالي مقنعا لقراءه المومنين كجكاية دينية رمزية-تعليمية عن سمو وابهام ولاعقلانية العدل الالهي الاكثر لبسا،والمفارق المتقاطع مع العدل الانساني بالمعيار الدنيوي البشري الذي يفهمه الجميع؟.لانعتقد انها حكاية عن العدل الالهي الحاضر-الغائب،بل هي اعمق وابعد من ذلك بكثير.انها قصة عن الاستسلام البشري لقوة خلق العالم المسيطرة والقاهرة،ولكنها ايضا المفتقرة للعدالة الانسانية كما نعيها نحن البشر.يأتي الرب وكأنه كناية عن الكون والطبيعة،عنيفا،وفوضويا،غير انه جميل ومدهش بسحره وفرادته.قصة ايوب هي قصة مركبة ومعقدة ومتعددة الوجوه والاسطح والقراءات.انها قصة الشك المنقشع،والظن العابر.عندما تعيد لائحة الرب ايوب الضال طائعا الى حضيرة القطيع الخنوع-القانع بمشيئة الرب ولمزاجه الفوضوي المتقلب.ولكن الصراع حول قولبة القطيع وضبطه بوحدة كلية متماسكة، مع ايوب وصل نموذج الرب العادل الى حدوده القصوى كعجز فاضح،بحيث تحددت المشكلة ومباشرة بفكرة العالم غير العادل،وبالتالي الظالم،وان كانت موجودة كما يستنتج سفر ايوب وكاتبه والشخصيات التي صاحبت ايوب وحاورته،وليس ايوب هنا طبعا كشخص بل كوظيفة.هذه العدالة الزئبقية موجودة بطريقة لايمكن تصورها او فهمها من البشر بمنطقهم العقلي وبمحاكمتهم القياسية،فهي ميتابشرية وحرفة وصفة خاصة بالاله.كانت الاسئلة الاشكالية العميقة والتي ظلت معلقة لآلاف السنين دون اجابة رغم انها طافت بمخيلة ايوب وطرح بعضها جزئيا وعلى هامش خطابه وتداعياته النفسية.وعلى الرغم من مساهمة ايوب الهائلة في تاريخنا:رمزيا وثقافيا واخلاقيا ودينيا،والى جانبه تقف زوجه الممتحنة معه،والمساوية له في الوعي والندية الفردية والارادة الصلبة،ولكن الاكثر حزما وتشددا في تمردها ورفضها للاذلال والمهانة التي تعرض لها زوجها الصابر المستكين، وخاضتها معه بوفاء وتفان.فشخصية الزوجة-من الغريب انها لم تتعرض للبلاء في جسدها او حياتها اسوة بعائلة ايوب من بنين وبنات،فلم اهملها الله من شمولية تدميره؟!-كانت تشكل الشك الاكبر المقابل لشك ايوب البسيط والجزئي كما رأينا في السفر.فهي التي اشارت لزوجها وهي ترى معاناته،بنصيحتها المذهلة والصادقة والصادمة:"ألعن ربك ومت"!.ماهو سائد وغالبا مانرى في كل الثقافات والاديان موقفا منحازا ومضادا للمرأة.فهي توزع على النساء ادوارا من الازدراء والدونية والتحقير والتهميش والابلسة،وكما نجد في كل النصوص والادبيات الدينية القديمة،فهي تحط من مكانة المرأة وتقلل من قيمتها كذات وشخص وشريكة للرجل ومكمل له اجتماعيا وانسانيا.وقد وضع اولئك الذين يصرون على السخرية والنيل من النساء الكثير من اوصاف ونعوت الدونية والكراهية والشيطنة والخطيئة كجزء من طبيعة المرأة واساس من بنيانها البايولوجي والسايكولوجي الثابت الذي لايتغير.وايضا هناك جانبا من اسباب استمرار هذه القصص والخرافات المعادية للمرأة-رغم اختفاء عدد لايحصى من الحكايات المضادة الاخرى- مرجع تلك الاسباب هو ميل النساء اليها ومحاولة تثبيتها كدالة جندرية،ولهفتها لتقمص تلك الادوار لارضاء الرجل وتجميد تلك الصورة النمطية للمرأة التي انتجها الرجل.زوج ايوب كانت عكس هذا القالب التقليدي،فهي ذلك الطائر المشاكس،ثاقب النظر ودقيق الملاحظة،وتستطيع ان ترى سوء طالع بعلها بمجرد النظر اليه.فهي تقترح عليه التوقف عن المقامرة بمصيره فورا قبل او بعد فوات الاوان:الولاء لله،والموقف من الحياة،متابعة التجديف حتى منتهاه،وماخططته لنفسها كان غامضا لابعد الحدود،والسفر لايخبرنا ان كانت زوج ايوب تؤمن بالله مثله ام لا،او بأي شيء اخر على الاطلاق؟!.وخلافا لايوب واصدقاءه،تظهر زوج ايوب وتختفي في سياق السرد مثلما اختفى الرب والشيطان.والغرض من ذلك طبعا هو عدم ملاحظة او الانتباه الى ان هذذه المرأة العاقلة كانت صريحة في بيانها،واعلنت تمردها الكامل على الرب فيما قالت وهو تحريض مباشر لزوجها على تقرير مصيره بنفسه.يكفر بربه ثم ليكن مايكون.وحدث ذلك ثم تراجع عنه ايوب بعد مجيء الله.ان سفر ايوب هو جزء من كتاب مقدس يعترف ويؤمن به مئات الملايين من الناس عبر التاريخ وحاضرنا الان.لذلك كان سفر ايوب جديرا باهتمام عقول لاهوتية وعلمانية عظيمة،وتأثر واهتمام ب:بهاء وعذوبة شعرية النص،ورهافة الاسئلة الصعبة،ومفارقات النص وتناقضاته وتوتره،ودرامية مصير ايوب،كل هذا واكثر يجعل منه خطابا دسما غنيا بالعاطفة الدينية والمشاعر الانسانية وذرى التعقيد والتصعيد النفسي.وقد عمل الكثير من الكهنوت الحاخامي وآباء وكهان الكنيسة على تأويله وتفسيره،ورؤية تاريخ وحكاية ايوب كرواية او حقيقة شبه تاريخية-شعبية،وايضا فهم لحظة الشك والتنكر التي بلغها ايوب.ومايجب من ضرورة تخفيف حدة الاندفاع الايوبي المارق بخلق الاعذار،والاحتياط في تأمين يقين البعض الاخر واحترام ايمانهم.تماما كما وقف المكابيين والحسيدية امام حركة الاصلاح الديني الكوزموبوليتاني،فحجبوها عبر التاريخ على مبدع ايوب القصة.لكن ايوب بطبيعة الحال ومهما قيل بخلاف ذلك خاض في غمار الشك الموحل بلا جدال،وخرج منه مؤمنا ابيض!.
ونحن نختم مقالنا الموجز والذي حاولنا فيه تسلط بصيص من ضوء على سفر ايوب،ولم نفلح الا جزئيا في ذلك،نطرح سؤالنا الاخير الخارجي المتهافت:هل كان في دراما ايوب الدامية -في بدءها والكوميدية في نهايتها وكأننا نشاهد فلما هنديا!-شيء ولو ضئيل من الحكمة الالهية المدعاة؟!.وهل كان في هذا الرهان الالهي-الشيطاني،هذه المقامرة الهزلية والخالية من القواعد والشروط والاخلاقية ادنى ذرة من الحصافة العقلية والمبررات الاخلاقية،والحد الادنى من الدلالات على نزاهة ومنطقية القيم اللاهوتية؟!.من الذي انتصر في هذا الرهان العبثي الباطل؟!.الله !ام الشيطان!ام هو ضحية االرهان،مادته وموضوعه:ايوب؟!.لانعتقد بأن هناك منتصر حسم الفوز حتى النهاية.فالله انتصر جزئيا بعد ان جعل من حياة هادئة مستقرة،خراب شامل لحياة واسرة انسان لم يؤذي ذبابة مسالما كشجرة،لالشيء الا ليرضي الله غروره ومجده كاله،ويلعب الشيطان لعبته الخالدة التي انتدب لتحقيقها،والشيطان كذلك كان انتصاره جزئيا عندما قامر على ضعف الانسان وعجزه وطاقته المحدودة على التحمل،ومع ذلك اعيته الحيلة في قلب الايمان الذاتي وروح المقاومة الى سقوط وانكار وردة.وأيوب وحده لم ينتصر او ينهزم،بل كان بكل بساطة انسان بكل عظمته وضعفه،في سموه وحضيضه،انسان من لحم ودم،من قوة وضعف،جابه مصيره التراجيدي الذي تلاعب به الله والشيطان معا،ولكنه لم يرضخ او يلين.فكان منتصرا في هزيمته،ومهزوما في انتصاره امام قدره الغاشم.لم تمنعنا غلالة العبرة والموعظة الشفافة،او الدرس الديني-التربوي المطلوب من رؤية التجلي السامي لمجد وعظمة وايضا القدرية والبؤس والاغتراب الديني للانسان!...
..........................................................................................................................................................................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي