الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحسد والرغبة

احمد حسن

2020 / 1 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في المبنى المجاور يسكن شاب سلفي كثيف اللحية، لمح ذات يوم امرأة غريبة تدخل عمارتنا، تتبعها حتى وجدها تدخل شقة شخص عازب مصاب بشلل أطفال، طرق عليه الباب ففتح له وطلب الدخول للأهمية، وجد شابًا أخرًا في الشقة، صارحهم برؤيته امرأة تدخل عليهم، وأن هذا خطأ وفاحشة وعليهم صرفها وسوف يستر عليهم، ثم طلب السماح له بالجلوس معها بمفرده ليهديها وينصحها فتركوه يكلمها، وبعد عشر دقائق كانت المرأة تصيح "لا يا روح أمك مش بالعافية"، خرج مهرولاً ومتوترًا يردد "ربنا يهديها".
ما حدث أنه طلب مضاجعتها فرفضت، حاول إجبارها بالعنف قاومته وشتمته، فالشاب السلفي الذي يعتقد في مقولة "ما اجتمع رجل وامرأة إلا وثالثهما الشيطان، تمنى أن يكون الشيطان معه في تلك اللحظة داخل الغرفة، لدرجة حسد بها جاره المعاق.
إن كل حسد هو "رغبة معاقة" بفعل التقاليد أو العجز، ذلك ما انطلق منه؛ أن العجز يعود في جذره الأوسع إلى الثقافة، قوة السلطة، والهرمية الاجتماعية، وينسب إلى القيود والعقبات... إلخ.
إن انطلقنا من الميول الفطرية للإنسان لم تكن الرغبات في البدء تخضع لتنظيم جماعة، كانت الأنثى تؤخذ بالقوة ولو من رفيقها، ليس فقط الأنثى ولكن أيضا الطعام والمسكن والأدوات، هذا السلوك الموروث من مراحلنا البدائية صارت درجاته أقل فقط لكنه لم يختفي، ترك رواسب تعاود الظهور حتى الآن.
هذا الحال يرتبط في الغالب بالثدييات، ولازال القانون الأساسي الفاعل في مملكة الحيوان– غير المدجن - حيث لا توجد نظم أخلاقية أو تنظيم يحتوي على قواعد قيمية لحياة الجماعة (القطيع) والتي تصل في اغلب جماعاتها إلى حد منازلة الابن للأب والاستيلاء على الإناث بما فيهم الأم.
وقبل أن ينتظم الكائن المدعو الآن بالإنسان في جماعات مستقرة تنشأ قواعد فيما بينها، كانت حياته حيوانية صرف كباقي سكان الغابات والقفار.
في المجتمعات القبلية نظمت رغبات الأفراد وعلاقتهم بطرق مختلفة، ومعاقبة من ينتهك هذا التنظيم، ولم يكن العقاب وحده كافيًا للردع، دعت الضرورة إلى إقناع أفراد القبيلة بقدسية تلك النظم، ولعنة من يخالفها، وأن الأرواح تكافئ من يطيعها، وتعاقب الذين يتجاسرون على انتهاكها بلعنة أبدية، تعاليم القبيلة كانت الدين الأول الذي يسهر عليه الأسلاف، في المرحلة الطوطمية، ثم سكان السماء فيما بعد.
غير أن لا التعاليم ولا القمع يمكنهم إزاحة ميل غريزي، أو الرغبة فيما لا نملكه من أشياء، لكن القوة المهددة يمكن أن تخيفنا، وأن تجبرنا على كبت ميولنا خوفًا من العقاب، إلا أن هذا المكبوت يظل يبحث عن منفذ لتصريف طاقته الحبيسة، وتحقيق إشباع بدرجة ما، وبطريقة ما، للرغبة المزاحة قهرا. وكلما بالغت التعاليم والعقائد في القيود وفرض النظم، أصبحت الرغبة (المقموعة) أكثر توترًا وعدوانية.
هؤلاء الذين ينظرون إلى فتاة مثيرة في الطريق بتقزز واحتقار، إنما يخفون بوضوح رغبتهم فيها، يقلبون تلك الرغبة "المعاقة" إلى استعلاء أخلاقي، هكذا يبدو هو "شيخنا" أو غيره من يرفض، وليس من يعجز، فهم يتحاشون المواجهة الصريحة (والمؤلمة أيضا) مع المقموع داخلهم، وكشيخنا الشاب عندما لا تنجح ألية الاستعلاء يتحولون إلى وحوش بدائية.
أحد حيل النفس الثقافية في مواجهة العجز هي إدانة المرغوب البعيد، إن كل إعاقة لرغبة تترك توترا محلها مثل شهوة غير مشبعة، فيلجأ الأشخاص لطرق عديدة لتحقيق تلك الرغبة، بالحيلة أو القوة، كالسرقة والاغتصاب، أو لتخفيف التوتر بصناعة مواساة للذات تجعل عدم تحقيق الرغبة أفضل من تحقيقها.
يطلق فرويد على تلك العملية مصطلح "التسامي"، بمعنى مواجهة الرغبة الجنسية بتوظيف الطاقة الدافعة لها في الرياضة أو الأدب، كأحد روافع بناء الحضارات التي تحتاج بالضرورة إلى عدم انفاق طاقات الإنسان في إشباع الحاجات الأولية، لكن هذا التحويل للطاقة لا يحدث تلقائيا، بل يصطدم بالميول الغريزية وقوتها، ومن ثم وبسبب العجز عن تحقيقها تظهر حيلة التحقير والإدانة الأخلاقية، هكذا تتوازن الدوافع الأولية مع مقتضيات التنظيم النفسي وتوازنه، وبدقة يلعب الأنا الأعلى، حارس القيم في الفرد، دورا رئيسيا في تلك العملية التي تمكن للبديل الإعلاني (التسامي) وتحول مجري الطاقة النفسية المرتبطة بالرغبة (في غير المتاح أو المشروع) للتصريف في أمور أخري ممكنة ومشروعة كالعمل أو الرياضة أو العبادة.. الخ. وهكذا تقدم اللعنات والتحقير حلا ل (أو تحايلا على) مشكلة الرغبة الغير مشبعة.
هذا العجز ليس قاصرًا على اشتهاء المرأة غير المتاحة فقط، لكنه يمتد إلى الثروة، والحضارات المتفوقة، والعلوم، وكل مرغوب غير متاح، ولعدم الإسهاب في قضايا تحتاج لشرح طويل يكفي الإشارة إلى بعض سجالات اليسار في الربع الأول من القرن العشرين حول قضية الاستعمار، وتبرير بعضهم بأن له دور تاريخي تقدمي، وأن تطور الإنسانية يتطلب ألا تكون ثروة المستعمرات من حق سكانها المتخلفين فقط "تذكر ما أشرت إليه عن الاستحقاق".
الشرقي يعشق الأوربية، ويسميها فاجرة وزنديقة، يتمنى حريتها ويسميه انحلالاً، يواسي شبقه العاجز بلعنها أخلاقيا وإرسالها إلى جهنم، لكنه يتمنى حوريات على صورتها في الجنة. مسحور بعلوم الغرب وعلماءه، يستهلك بنهم منتجاتهم، ويعوض عجزه عن خلقها بإرسالهم إلى الجحيم.
ترسم المخيلة الدينية الشرقية حوريات الجنة بيضاوات بشعر غزير طويل وعيون ملونة، صورة أقرب إلى النساء الروميات وقتذاك، وتخلو تلك المخيلة من صورة لحورية سوداء. بل إن النص المقدس يستخدم رمزيًا التمييز بين اللون الأبيض والأسود كعلامة على فروق الصالح والشرير، أو المؤمن والكافر، فيوم القيامة تسود وجوه غير المؤمنين، بينما يتحول كل المؤمنين إلى اللون الأبيض "يوم تسود وجوه وتبيض وجوه".
يقول كتاب فتح الباري لشرح صحيح البخاري تأليف الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: "قَوْلُهُ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ أَيْ عَلَى صِفَتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ النَّقْصِ مِنْ سَوَادٍ وَغَيْرِهِ تَنْتَفِي عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ". ويضيف: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة والذين صدقوا وجوههم بيضاء نيرة".
انه ينتصر رمزيا لعجزه بعدم الترحم على موتاهم، رغم أن أحدًا لم يطلب منه هذا الترحم، يشعر هكذا كمن انتصر في معركة، وأنه سيد الموقف أخيرًا، فها هو “هوكينج مات كافرا ولن ينفعه علمه، وما قدمه من نفع للبشر تعوض عنه في الدنيا".
حالة بالذات مربكة، الرجل كان قعيدًا مشلول الأطراف عاجزًا عن النطق والتنفس الطبيعي، أزمة صحية شاملة تتحرك على كرسي بعجل، لكن لو تخيلناه مسلمًا مثلًا لصار معجزة الإسلام وفخر علماء المسلمين، إن الشرقي المتدين لديه علوم أفضل، إنها علوم الدين، وهي أنفع من كل علوم الدنيا – التي لا يكف أبدًا عن استهلاكها - هكذا تتشكل ثنائية مدهشة ( شعور بالدونية تجاه العلم والتطور والحرية يعادله هو نفسيا بشعور بالاستعلاء) ومن ثم يعادل "نفسيًا" عجزه بتفوق صوفي رمزي، هو في النار وكل العلماء على غير ديننا، الأديان الشرقية عموما تزرع تلك المفاهيم في اتباعها، والمسلم بشكل خاص يتقدم الجميع في هذا الاعتقاد.
نعود إلى شيخنا الشاب، ثمة مشترك جزئيا مع ، شلل الأطفال، كيف تذهب المرأة إلى المشلول ولا تذهب إلى شاب قوى مثله، ثمة استحقاق غائب، أن الحسد مصحوب دائما بشعور بالاستحقاق، لكنه لن يعترف بالرغبة أو بالحسد، وربما لم يكن يستهدف مضاجعتها فعلا، لكن الرغبات المكبوتة أعنف في تعبيرها في المجتمعات المحافظة، أصدقائنا محاصرين في الخوف من الفضيحة، واستغل شيخنا خوفهم وضاعفه وهددهم وهو يقول انه سيستر عليهم، ومن يملك الستر يملك الفضح إذًا، وما أن اختلى بها سقط قناعه، لكنها لم تقبله، وكيف لها أن ترفضه، إنها موضوع وليست ذات، وهو صاحب استحقاق لا شك، فانحدر أكثر إلى مرتبة حيوانية يحاول فرض استحقاقه فيها بالعنف.
كان على ستيفن أن يدخل حظيرة الدين، نحن من نقل العلوم إلى الغرب، ونستحق قطف ثمارها، شعور الاستحقاق يلازمنا، بعيد ومتحصن بعلمه لكن الموت هزمه، حصره وجعله عاجزًا عن المقاومة، لنركب خيولنا الدينية المطهمة إذًا، ونقف على جثته بتشفي وفخر.
من لا يقبل الإسلام قد يخاف شيوخه المتطرفين، انهم "يرهبون" مخالفيهم، إعلان عدم جواز الترحم هو ترهيب، تحذير ديني من أشخاص قد يقتلوا مخالفيهم.
هذا الحسد والرغبة المقموعة، المتضمنين في صيحات الاستنكار واللعنات، لا يقدمان حلا فعليا للشعور بالنقص أو العجز، لذلك يظل التوتر فاعلاً، نحن هنا ندرك في عقلنا الواعي أننا لم نتقدم قيد أنملة، فلا عجز تم تجاوزه ولا رغبة تحققت، الحل هو مزيد من صيحات الاستنكار عالية الرنين، لتغطى على تلك المشاعر المتوترة وتطغى على ما عداها وما حولها، هذا يفسر الحالة الهستيرية في حفلات الإدانة والاستنكار.
نعم نحن نحسد هوكينج، ونحسد الفتاة المتحررة والفتى الذي يمشي رفقة بنت جميلة، نواسي عجزنا بغطاء القيم والدين وتعويضات الجنة، ستيفن ونساء الغرب، والشرقيات السافرات المثيرات، وكل نابغي الديانات والحضارات الأخرى في النار.
وماذا عنا .... نحن أيضا في نار، نار الحرمان والكبت والشعور بالعجز، لكن الله سيعوضنا، يمكن إذا رغم كل ذلك أن نشعر بالراحة، أو أن نردد هالولويا هالولويا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س