الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس والدستور الثالث.

فريد العليبي

2020 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


مرت قبل أيام قليلة الذكري السادسة لولادة الدستور التونسي الثاني ، الذي قال عنه وقتها رئيس المجلس التأسيسي أنه أحسن دستور في العالم ، وقُدم على أنه ضامن للحكم الرشيد والحقوق والحريات والديمقراطية الخ ... واذا كانت تلك الذكرى قد جلبت الاهتمام في السابق فإنها مرت هذا العام في صمت ، وعندما سُئل رئيس الجمهورية الحالي عن الدستور الذي كان على وشك الصدور في تلك الأثناء قال جملته الشهيرة : لقد أكله الحمار ، ويبدو أنه كان حاضرا في ذهنه ما ورد في مسرحية غربة لغوار الطوشي ، عندما يسأل معلم جاء للضيعة لتعليم الناس القراءة والكتابة حاكمها : من ملكك رقاب الناس المساكين ؟ فيجيبه: انه الدستور ، ولما أراد الاستظهار به يعلمه أحد حراسه أنه وضعه في " خرج " على ظهر حمار ولكنه أكله ، ويطمئنه بأنه نال جزاءه فقد تم ايداعه السجن ، فما كان من الحاكم الا استغراب هضم الدستور من قبل الحمار .
صدر الدستور التونسي الثاني يوم 27 جانفي 2014 ، في ظرف صعب ، طغى عليه التناحر السياسي داخليا ، الذي وصل حد الاغتيالات السياسية سنة 2013 وتدخل قوى خارجية في استثمار الانتفاضة التونسية وتطويعها لخدمة أهدافها ، ومن ثمة عكس من حيث محتواه ذلك الواقع ، لكي ينتج منظومة سياسية مشلولة فالسلطة السياسية مُبعثرة ، فهي موزعة بطريقة تؤدي إلى غيابها ، فلا أحد من الأحزاب السياسية بإمكانه الزعم أنه يمتلكها كاملة ، لذلك يُرجع اليوم كثيرون الأزمة السياسية أو جانبا منها على الأقل إلى الدستور الثاني إياه ، الذي يُنظر اليه فضلا عن ذلك على أنه ملئ بالثغرات ، فقد وردت فيه بصورة أساسية الحقوق السياسية بينما كان حضور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضعيفا وباهتا ، وهو ما يكشف عن طابعه الليبرالي المُسقط ،مما يعني أن صناعه كانوا خاضعين لإرادة قوى دولية أرادت للانتفاضة التونسية أن تكون مآلاتها ليبرالية ، تركز على الحقوق المدنية بينما تتناسى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية،والحال هذه ليس غريبا تجاهل تلك الذكرى بعد اعتراف أصحابه أنفسهم أنه سبب عجز المنظومة السياسية الحالية دون اخفاء رغبتهم في تنقيحه .
يُضاف الى ذلك مشكلة التطبيق ، فكثيرا ما تكون الكلمات في واد والأفعال في واد آخر ، من ذلك خضوع العملية السياسية الى سيطرة المال السياسي والاعلام الفاسد وتزوير التزكيات خلال الانتخابات ، والتدخل الأجنبي ووجود أحزاب وجمعيات واذاعات وقنوات تلفزية تتمول من الخارج دون أدنى رقابة ، فتحولت الى أذرع لقوى دولية تود الهيمنة على الوضع السياسي التونسي . واذا كانت بنود ذلك الدستور تقر على سبيل الذكر المساواة بين النساء والرجال فإن تلك المساواة معدومة في الميراث ، كما لا تزال المرأة في الريف تتلقى أجرا غير متساو مع الرجل في الأعمال الزراعية وغير ذلك كثير . فالدساتير والقوانين مهما بلغت من تطور فإنه لا قيمة لها اذا لم يستجب لها الواقع .
وفي بلد غارق في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية فإن الحقوق تظل كلمات فارغة من محتواها عندما لا يتجسد الحق في الشغل والصحة والتعليم الخ في حياة الناس فقد انتفض الشعب في سبيل الشغل وتحصيل الثروة والعدل الاجتماعي فلم ينل غير فوضى الكلام ، مما عمق احباطه وحفر هوة يصعب ردمها بينه وبين الحكام الجدد ، وهو ما تدلل عليه مرة أخرى نسبة المشاركة الضئيلة في الانتخابات البلدية الجزئية التي شهدتها بعض الجهات مؤخرا .
واللافت أن رئيس الجمهورية الحالي يحكم البلد بموجب الدستور الذي أكله الحمار وهو من دعا الى تغيير القانون الانتخابي الصادر في 26 ماي 2014 ، حتى يتم الاقتراع على الأفراد لا على القائمات ، وتكون الديمقراطية نابعة من القاعدة الانتخابية التي لها الحق في سحب ثقتها من النواب متى شاءت ، تأسيسا للحكم المحلي . غير أن مقترحاته تتطلب تغيير الدستور الحالي ، وهو ما يستدعي موافقة ثلثي نواب البرلمان ، مما يعني استحالة ذلك الآن . ومن ثمة بقاء الرئيس أسير دستور لا يعترف به واقعيا ، وإن أكد خطابيا بعد فوزه بمنصب الرئيس احترامه له وتقيده ببنوده.
واذا كانت هناك من فرصة أمامه للإفلات من ذلك المصير فهي الانتخابات البرلمانية المبكرة ، التي يمكن أن تأتي بجيل جديد من البرلمانيين المقتنعين بفكرته تلك ، فوقتها فقط يمكن للدستور التونسي الثالث أن يرى النور على أن لا يأكله الحمار هذه المرة مثل سابقه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف