الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [11]

وديع العبيدي

2020 / 2 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


(25)
قراءة الطبري [839- 923م] في (الغرانيق) والجنّ وما إليها..
[كلّما ضعف النصّ، زادت العنعنة]- محمد باقر الصدر [1935- 1980م]
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس الرسول في نادٍ من أندية قريش كثير أهله؛ فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه. فجاءه: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)؛ فقرأها حتى إذا بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)، ألقى عليه (الشيطان) كلمتين: (تلك الغرانقة العلى. وإنّ شفاعتهنّ لترجى)، فتكلم بها.
ثم مضى فقرأ السورة كلها؛ وسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه.
ورفع الوليد بن المغيرة [527- 622م] ترابا إلى جبهته فسجد عليه. وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السّجود. فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق. ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده؛ إذ جعلت لها نصيبا، فنحن معك.
فلمّا أمسى، أتاه جبرائيل، فعرض عليه السورة؛ فلما بلغ (الكلمتين) اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين! فقال الرسول: افْتَرَيْتُ عَلى الله، وَقُلْتُ عَلى اللهِ ما لَمْ يَقُلْ!.. فأوحى إليه: [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ... إلى قوله: ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا]- (الاسراء 17: 73- 75) .
فما زال مغموما مهموما حتى جاءه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ]- (الحجّ 22: 53). فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد (أسلموا) كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي؛ قال: لما رأى الرسول تولي قَومه عنه، وشقّ عليه ما يرى من مباعدتهم، تمنى في نفسه أن يأتيه ما يقارب به بينه وبين قومه.
وكان يسرّه، مع حبّه وحرصه عليهم، أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم، حين حدّث بذلك نفسه، وتمنى وأحبه. فجاءه: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، فلمّا انتهى إلى القول: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)، ألقى (الشيطان) على لسانه، بمّا كان يحدّث به نفسه، ويتمنى أن يأتي به قومه: (تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتضى).
فلمّا سمعت قريش ذلك، فرحوا وسرّهم. وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له. والمؤمنون مصدّقون نبيّهم فيما جاءهم به، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل. فلمّا انتهى إلى السّجدة منها، وختم السّورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره؛ وسجد مَنْ في المسجد من المشركين، من قريش وغيرهم.
فلم يبق في المكان مؤمن ولا كافر، إلا سجد، إلّا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخا كبيرا، فلم يستطع, فأخذ بيده حفنة من البطحاء، فسجد عليها. ثم تفرّق الناس، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم؛ يقولون: قد ذكر (محمّد) آلهتنا بأحسن الذكر.
وقد زعم فيما يتلو: (أنها الغرانيق العلى. وأن شفاعتهنّ ترتضى).
وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب الرسول. وقيل: أسلمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتخلَّف آخرون. وأتى جبرائيل النبيّ، فقال: يا محمّد ماذا صنعت؟.. لقد تلوت على الناس ما لم آتك به! وقلت ما لم يُقل لك. فحزن الرسول عند ذلك، وخاف من الله خوفا كبيرا.
فأنـزل الله عليه، وكانَ بِهِ رَحِيما، يعزّيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبيّ، تمنى كما تمنى ولا حبّ كما أحبّ، إلا و(الشيطان) قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه؛ فنسخ الله ما ألقى (الشيطان) وأحكم آياته.
أي فأنت كبعض الأنبياء والرسل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)- (الحجّ 22: 52). فأذهب الله عن نبيه الحزن، وأمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى (الشيطان) على لسانه : (أنها الغرانيق العلى. وأن شفاعتهنّ ترتضى).
يقول الله حين ذكر (اللات والعُزَّى. ومناة الثالثة الأخرى)، إلى قوله: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى): أي: فكيف تمنع شفاعة آلهتكم عنده؟.. فلمّا جاءه ما نسخ ما كان (الشيطان)، ألقى على لسانه، قالت قريش: ندم محمد على ما كان من منـزلة آلهتكم عند الله, فغيّر ذلك وجاء بغيره.
وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان محمّد، قد وقعا في فم كل مشرك، فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه..
حدّثنا ابن بشار: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، قال: لمّا جاءت: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى) قرأها الرسول فقال: (تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى). فسجد. فقال المشركون: أنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه. فأنـزل الله: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ... إلى قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ]- (الحج 22: 52- 55).
حدّثنا ابن المثنى، ثنى عبد الصمد، ثنا شعبة، ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير، قال: لما نـزلت: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى)، ثمّ ذكر نحوه.
حدّثني محمد بن سعد، ثنا أبي، ثنا عمي، قال أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) إلى قوله: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )-(الحجّ 22: 52). وذلك أن النبيّ بينما هو يصلّي، إذ نـزلت عليه قصة (آلهة العرب).
فجعل يتلوها؛ فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه. فبينما هو يتلوها ويقول: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)، ألقى (الشيطان): (إن تلك الغرانيق العلى. منها الشفاعة ترتجى). فنـزل جبرائيل فنسخها. ثمّ قال له: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلى قوله: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)- (الحجّ22: 52).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي)/الآية؛ أن النبيّ وهو بمكة، أنـزل (الله) عليه في آلهة العرب؛ فجعل يتلو: (اللات والعزّى) ويكثرُ ترديدها. فسمع أهلُ مكة النبيّ يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك.
ودنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوته: (تلك الغرانيق العلى. منها الشفاعة ترتجى)؛ فقرأها النبيّ كذلك؛ حتى أنـزل عليه: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.. إِلَى.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]- (الحجّ 22: 52).
حدّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ].. قال ابن شهاب: ثنا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: أن الرسول وهو بمكة قرأ عليهم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، فلما بلغ: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) قال: (إن شفاعتهن ترتجى).
وسها الرسول، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض/(الحجّ22: 53)، فسلموا عليه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: إنما ذلك من الشيطان. فأنـزل الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ )... حتى بلغ: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ)..
حدّثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية [602/ 661- 680م]، عن عليّ [599/ 656- 661م]، عن ابن عباس [619- 687م]، قوله: ( إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) يقول: إذا حدث ألقى (الشيطان) في حديثه
حدّثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( إِذَا تَمَنَّى ) قال: إذا قال..
حدّثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد. مثله.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إِلا إِذَا تَمَنَّى ) يعني بالتمني: التلاوة والقراءة.
وهذا القول أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله: ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) على ذلك. لأن الآيات التي أخبر الله أنه يحكمها، لا شكّ أنها آيات تنـزيله. فمعلوم أن الذي ألقى فيه (الشيطان)، هو ما أخبر الله، أنه نسخ ذلك منه وأبطله، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدّث وتكلم، ألقى (الشيطان) فيه، أو في حديثه الذي حدث وتكلم ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ). يقول تعالى: فيذهب الله ما يلقي (الشيطان) من ذلك على لسان نبيه ويبطله.:
ثمّ يخلص الله آيات كتابه من (الباطل)، الذي ألقى (الشيطان) على لسان نبيه: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، بما يحدث في خلقه من حدث؛ لا يخفى عليه منه شيء. (حَكِيمٌ) في تدبيره إياهم وصرفه لهم فيما شاء وأحَبّ.
الشيطان عند الطبري..
[ان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم]- حديث نبوي صحيح برواية أحمد والشيخين وأبي داود، من حديث أنس، الشيخان وأبو داود وابن ماجه، من حديث صفيّة بنت حيي بن أخطب [؟/ 628- 632/ 670م] أمّ المؤمنين.
[ان للانسان من المَلَك لمّة، ومن الشييطان لمّة. فإذا أحسّ من لمّة الملك، فليحمد الله؛ وإذا أحسّ من لمّة الشيطان شيئا، فليستغفر الله، وليتعوذ من الشيطان]- رواه ابن حميد عن الحكم بن بشير بن سلمان عن عمرو عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبدالله؛ وذلك في تفسير (البقرة 2: 268): [الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا].
وفي حديث هناد عن أبي الأحوص عن عطاء ابن السائب عن مرة عن عبدالله: ان للشيطان لمّة من ابن آدم، وللملك لمّة. فإما لمّة الشيطان فايعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ. وأما لمّة المّلّك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، وليحمد الله، ومن وجد الأخرى، فليعوذ بالله من الشيطان.
يعقوب عن ابن علية عن عطاء عن ابي الاحوص/(أو: عن مرّة)، عن عبدالله: ألا أن للمَلَك لمّة وللشيطان لمّة.فلمّة الملك ايعاد بالخير وتصديق بالحق؛ ولمّة الشيطان ايعاد بالشرّ وتكذيب بالحق. وقد ورد الحديث منسوبا لعبدالله بن مسعود في أكثر من عنعنة.
عن عمار ابن الحسن عن أبن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال: حدثني محدّث (!!): ان (الجنّ) دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير؛ فلعن، فسقطت قوائمه، فصار حيّة.
وبنفس العنعنة عن الربيع عن ابي العالية: ان من الابل من كان أولها من (الجنّ)، فأبيحت له الجنة إلا شجرة؛ من أكل منها أحدث؛ ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. فأزلّهما الشيطان، فأخرج آدم من الجنة.
عن ابن حميد عن سلمة عن ابن اسحق عن ليث ابن ابي سليم عن طاووس اليماني عن ابن عباس: ان (ابليس) عرض نفسه على دواب الأرض، أيّها يحمله حتى يدخل الجنة ويكلم أدم وحواء. فأبت، حتى كلّم الحيّة، وكانت كاسية تمشى على أربع، فقال لها: أمنعك عن ابن ادم، فأنت في ذمتي إن أدخلتني إليها!.
فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فتكلم من فيها؛ فأعراها الله وجعلها تزحف على بطنها. قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، اخفروا ذمّة عدوّ الله فيها.
وفي الكتاب أن ابليس (وسوس) لآدم وحواء: فهو وسواس/(الناس 114، طه 20: 120). و(ابليس) لآدم من الناصحين بغرور. فالناصحون هم بضعة من أبليس، يصدرون عن غروره/(الاعراف 6: 27).
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: [الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه (الشيطان) من المسّ]- (البقرة 2: 275)، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ!.
وفي حديث موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:المسّ: الجنون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه (الشيطان) من المسّ. قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون.
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: يتخبّطه/(يتخبّله) الشيطانُ من المسّ = يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه: قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق. كلّ ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف7: 201]، ومنه قول الأعشى [570- 625م]..
وَتُصْبـحُ عَـنْ غِـبِّ السُّـرَى, وكأَنَّمَا
أَلَـمَّ بِهَـا مِـنْ طَـائِفِ الجِـنِّ أَوْلَـقُ
[وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُورًا]- (النساء 4: 119- 120)
من يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره، ويواليه فيتخذه وليّا من دون الله، فقد هلك وبخس نفسه فأوبقها بخسا، يبين عن عطبه وهلاكه. لأنّ (الشيطان) لا يملك له نصرا من الله، بل يخذله عن حاجته إليه؛ وإنما حاله معه ما دام حيا: [وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُورًا] ممهّلا بالعقاب. فـ(الشيطان) المريد يعد أولياءه الذين هم نصيبه المفروض.
والغرور = السراب
[كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا]- (النور 24: 39)
خلاصة..
ولا يفوتني هنا التنويه ان الفاعل هو: [جنّ، شياطين] في صيغة الفعل: (قالوا): [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]- (البقرة 2: 30)؛ بدلالة مادة المحاججة: (يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ).
وهو ما يتأكد في المجادلة الأثيرة بين(أبليس) وربّه:
[قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون.
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ.
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.
ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ،
وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ.
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ،
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ.
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ،
فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ،
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ.
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ،
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا،
وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ،
إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ.
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ.
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ،
فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا،
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ،
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا:
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ،
وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ]- (الاعراف 7: 14- 22)
وقد أسفرت المناظرة عن تربّص أبليس بأتباعه: [إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ]- (الاعراف 7: 27)؛ فمن هم أنصار (أبليس) اليوم، على الأرض.
ظاهرة القذف والتكفير، أو التسقيط الديني متداولة في كلّ الديانات، كلّ ديانة ترفض الأخرى، وكل طائفة وفرقة داخل الديانة تكفر الثانية، وكلّ فرد متدين، يعتبر نفسه على حقّ، ومخالفيه على باطل.
لكن السؤال الحقيقي الغائب، هو مَن الذي جعل ديانة ما، ديانة إلهية، سماوية، صادرة عن الحق المطلق؟..
ان كلّ ديانة قائمة على الادعاء والافتراء والغرور. ليس لها بينة/ شهادة من الخارج. تستدلّ على حقّيتها من نصوص كتابها الديني، والذي هو جزء من الديانة، ودستور ايمانها وشرعيتها وشريعتها.
وثمة.. لا مصداقية لشهادة شخصية، فكيف لو كانت الشهادة منافية للعقل والمنطق.
ان ما لا يسوغه قانون القضاء البشري، لا يجوز قبوله على أساس قانون سواه.
لقد ابتلعت البشرية طويلا، إشكالية الدين واللاهوت ودعاوى الشريعة والكهنوت، منذ كانت البشرية في طفولتها الغريزية الحيوانية، ولما تزل الديانات كلّها غريزية في منطلقاتها وأحكامها وأهدافها. وأن احتكارها سمة (القداسة)، واستبدادها بالوكالة الالهية، لا يخرج عن دائرة الادعاء والغرور، سيما وأن (الكذب والافتراء) هو لغة (أبليس) الأولى.
فلا غرو أن يتخذ أتباع (ديانته)، أسلحة العنف والخوف والتهديد والقتل والاضطهاد، وسيلة لبقائها، وقهر الناس على الخنوع لها. وهذا من بقايا تسلكات جماعات ومنظومات أرضية حيوانية بدائية؛ ممّا يعفّ عنها ربّ السموات، خالق البشرية، الذي لو شاء، لجعل الناس أمة واحدة.
أين هي ديانات الشيطان؟.. ما هي العقيدة الشيطانية؟..
هل يجوز أن تكون الديانة سياسية؟.. أو : تجارية؟.. أو: أقتصادية؟.. أو عسكرية؟!!..
الله بالمنطق الديني يأمر بالخير ومنفعة الانسان. فهل كلّ الديانات داعية للخير فعلا؟.. وإذا كان الدين له هذا التاريخ والسطوة على طبائع البشرية وتسلكاتهم وغلق عقولهم، فمن وراء (الشرور) التي تملأ الأرض؟.. أيّ دين وتشريع وكهنوت يفرض سلطانه بفعل ممارسات وسياسات دموية همجية، مهينة للإنسان وخالقه.
أم أن كلام الكتب الدينية، المفترى على (الربّ الإله)، هو واجب التصديق والاقرار الأعمى، على كلّ البشرية.
كان المفترض بعقل الانسان أن يكون أسمى مما صدر عنه. وكان الأولى بأخلاق البشر والقيم السامية، أن لا تجعلهم في هذا المنحدر المهين. وإذا حصل ما حصل من قبل؛ فأن الانسان وعقله أمام امتحان وجودي عسير وشائك. امتحان يكلّفه حياته ووجوده وكرامته، في الالفية الثالثة الراهنة.
هل الانسان خليفة، أم عبد؟..
الله أراد الانسان خليفة/ سيّدا على الأرض..
والأديان جعلته عبدا لها ولكهنوتها البشري الإقطاعي..
التطور الرأسمالي والتحول الاشتراكي، مسح جذور الاقطاع التقليدي، ولكن الاقطاع الديني استمر في الوجود متحديا العصر والتمدن، واختراق التكنولوجيا طبقات الفضاء والسموات..
البشريّة اليوم أكثر عبودية ومسخا، في زمن يرفع شعارات الحرية والمساواة والمراءاة..
الأرض اليوم تغرق في الشرّ والدم وقتل البشر وكراهتهم وتدميير الطبيعة..
الدولة والرأسمالية والدين، تسعى وتتنافس حول مثلث [المال والنساء والسلطة].
عالم اليوم، هو أحطّ عوالم الأرض: والسبب، ان الديانات لم تراجع -مراجعة ذاتية-، ما ألحقته من مهانات وخراب بالطبيعة والبشر والحياة؛ إنما تحولت إلى أحزاب دينية وحزبيات مرائية، تتاجر بشعارات التمدّن والحداثة من الخارج، وتلهث وراء عربة السلطة والدولة والمال، ضاربة عرض الحائط؛ ليس المدنية والدمقراطية وحقوق الانسان، وإنما قبل ذلكم، ضربت الدين والأخلاق والله في سلة النفايات، مستبدة ومحتكرة كلّ شيء لأشخاصها.
والذي لا يستنهض ضميره وإنسانيته وعقله ما يجري في عراقستان، فليعلّم من هو أبليس، ما هي صفاته وأحكامه ورغباته..
ولا شك.. بالمقابل، ان كثيرين يفضلون أن يوصفوا بالجهل وعمى البصيرة، على إدراك الحقيقة، وفقدان مغانم النجاسة والسفليّة التي يفتخرون بها.
وليس أخيرا.. كثيرون وكثيرا جدا، جرّدوا أقلامهم في حملة ضدّ السلفيّة وفقه ابن تيمية، متظاهرين بشعارات إنسانية وحقوقية .. هؤلاء فضحوا أنفسهم، عندما ابتلعوا ألسنتهم، في فضح ما يجري في عراقستان، على يد الفكر اليهمجوسي وطوابيرهم الذليلة في العراق والشام ولبنان..
يستطيع الشيطان أن يتلبّس بقفطان النور، ولكنه لا يستطيع أبدا.. إخفاء سوءاته وخزيه والدماء الجارية على يديه..
فهنيئا للأشرار وسقوطهم التاريخي، فلكل شيء زمن، وليس ثمن فحسب..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الطبري: محمد بن جرير [839- 923م]: فقيه ومفسّرومؤرخ. من مواليد أمل/عاصمة طبرستان. تنقل بين الري والكوفة وبغداد والبصرة ومصر/ الفسطاط، ثم استقر ببغداد. عرض عليه القضاء فامتنع، والمظالم فأبى. ذكر ياقوت الحموي من كتبه ثمانين جزء، كتبت بخطّه الدقيق، وكان يكتب بالعربية. وأوّل ما ألّف الطبري كتابه: (اختلاف علماء الأمصار). وله: جامع البيان في تأويل القرآن، تاريخ الأمم والملوك. كان ابو بكر محمد بن داود الظاهري يقدح فيه ويرميه بالعظائم، فاضطهده حنابلة بغداد وعوامها، حتى لزم بيته واعتكف حتى مات، ودفن في داره الكائنة برحبة يعقوب/ حديقة الرحبي/ شارع عشرين بالأعظمية ببغداد. قال الخطيب البغدادي أنه من أئمة العلماء؛ واعتبره ابن كثير من أئمة الإسلام؛ ولدى الذهبي هو من كبار أئمة الإسلام المعتمدين؛ وقال عنه ابن تغري بردي احد أئمة العلم؛ ووصف ابن تيميه تفاسيره، من أصحّ التفاسير؛ وجعله السيوطي رأس المفسرين على الاطلاق، جمع من العلوم ما لم يجتمع لأحد في عصره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نحن بحاجة لفولتير عربي
وديع العبيدي ( 2020 / 2 / 10 - 23:16 )
Mazen Charaf
https://www.youtube.com/watch?v=Pr2WbCUbGlY&t=4s

الأخ مازن شرف
اشكرك على توقفك والمداخلة
فولتير مفكر وتنويري أوربي، نقل الفكر الغربي من القرون الوسطى إلى جبل الحداثة
فولتير أطلق الرصاصة الأخير على المؤسسة الدينية وكان إلى جانب روسو من المحرضين للثورة الفرنسية العالمية
العمل الفني لا يعنى بتصوير التاريخ واستعادته، بقدر ما يعيد صياغته لتوصيل رسالة
ولا يمكن وصف فولتير المفكر والفيلسوف بجهله تاريخ العرب والاسلام، في وقت سبق للاستشراق الغربي وضع مؤلفات أساسية عن العرب والاسلام، قبل أن يصحو العرب من خدر القرون الوسطى.
ثمة شفرات بين السطور وطريقة هيكلة الاحداث والشخوص
علينا نحن أن نتعلم كيف نفكر بعقل فولتير، وليس قهره لعبادة تاريخنا الوهمي، والذي لا يسنده دليل أثري أو منطق عقلي
مداخلة ممتعة،.. تحية

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س