الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(كاتمين على انفاسنا)

خالد صبيح

2020 / 2 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يبدو ان خروج نساء العراق المدنيات في تظاهرة يوم أمس (13شباط - فبراير) قد أدخل الانتفاضة في منعطف جديد جعلها اكثر حيوية وتجذرا من محدودية مطالب اصلاح منظومة الحكم التي وسمتها في مراحلها الاولى، فهذه التظاهرة، بتصوري، كانت اشهارا لمطلب جوهري واضح هو مدنية الدولة والمجتمع.

قبل هذا وفي السياق نفسه عبر تحدي المنتفضين وتصديهم للتشويهات التي حاولت المس بظاهرة الاختلاط بين الجنسين في ساحات التظاهر، وحضور المراة الفعال فيها، عن الميل نحو مفهوم متحرر للعلاقات الاجتماعية وبنظرة مساواتية تنسجم كليا مع تصورات المجتمع المدني. بل اكاد اجزم أن (معركة) الدفاع عن حق المرأة في الحضور الاجتماعي ولعبها دورا في جوانب الحياة المختلفة وأولها السياسة، والدفاع عن فكرة الاختلاط المنّزه بين الجنسين الذي يتنافى مع المفهوم الديني الأسلاموي الفظ عنه، سواء في العراق او مجتمعات اخرى (تونس مثلا) هو يشبه في ملامحه العامة معركة السفور التي خاضتها المجتمعات العربية في بدايات القرن العشرين، وسيفضي الى ما أدت إليه، حيث كانت تلك المعركة حينها مدخلا لتحولات اجتماعية وثقافية أعادت هيكلة المجتمعات وأركبتها قاطرة التحضر.

وبظني أن هذه المجتمعات ستكسب هذه المعركة مثلما كسبت التي من قبلها، لأنها، ببساطة، مطلب حياتي طبيعي وضروي ومنسجم مع سياق التطور الحضاري.

لكن الملفت ان هذه المظاهر أثارت خشية بعض اليساريين (المدنيين) من أن تتحول الانتفاضة الى نزاع بين المدنيين والاسلاميين واصفين هذا التحول في مسارها بانه انحراف محتمل في مسيرة الحراك، ويشكل خطرا عليه.

(عبر عن هذا التصور السيد رائد فهمي، سكرتير الحزب الشيوعي، في تغريدة له على تويتر)

اتصور ان مثل هكذا تخوف يعكس قصورا في النظر، لأنه لم يستوعب أن المدنية ليست ترفا ولا أمراً طارئا لكي توصف بأنها يمكن ان تشكل انحرافا في مسار الانتفاضة، بل هي مطلب جوهري نتج من سياق منطلق الحراك الاساسي (استعادة الوطن)، الذي يتضمن استعادة هوية المجتمع المصادرة او اعادة تعريف لها، وهذا التحول المحتمل (او القائم فعلا) في مسار الانتفاضة هو تتمة طبيعية لتطور نوعي كان يهجس به المجتمع، على خلفية تحولات نوعية في الوعي وفي البنى الاجتماعية، من بينها ( تنامي الطبقة الوسطى مجددا، اتساع التعليم، وفرة المعلومة والتواصل الحضاري)، طوال سنوات حكم الاسلام السياسي، وليس ردة فعل على تعنت السلطة واحزابها كما تذهب بعض التصورات.

مدنية الدولة والمجتع هي سمة العصر الحديث وهي طريق طبيعية لكل مجتمع يريد أن يمارس حضوره داخل التاريخ. والمجتمعات الحديثة تدير نفسها بقوانين وأعراف تضعها لنفسها وفق معطيات وتطورات واقعها وضروراته، تناقشها وتتنافس على تطبيقاتها، وليس وفق تصور فوقي، إلهي أو مقدس، يستمد تعاليمه من قوانين (شريعة) لم تعد نافعة لزماننا، ليس لأنها سيئة أو قاصرة بحد ذاتها، وإنما لأنها وضعت لزمن وبيئة وناس مختلفين، والالتجاء اليها لإدارة مجتمع عصري سيكون إساءةً لها بالدرجة الاولى والى المجتمع الذي يرغم على الالتزام بها.

لست ضد التدين، فحرية المعتقد واحدة من اسس فكرة مدنية وعلمانية الدولة والمجتمع التي أتبناها، لكني ضد أن يتحول الدين والتدين سلاحا يسلط على حرية الناس وخياراتهم. وضد أن يتدخل في كيفية تسيير الدولة لشؤونها.

مثال:

هناك مادة في الدستور العراقي تفرض أن لايُسَّن أي قانون يتعارض مع تعاليم الشريعة. هذه المادة قنبلة موقوتة، لأنها تمنح صلاحية ضمنية لأي موظف أو مسؤول بالدولة في أن يرفض تنفيذ القوانين (لاسيما أن قوانين الدولة العراقية متداخلة وموروثة من أنظمة أخرى)، أو إنه سوف ينفذها وفق رؤيته وفهمه لهذه المادة. وفعلا حدث مرات أن موظفين في الدولة، رفضوا، على سبيل المثال، منح تصريحات رسمية قانونية لبيع الخمور بادعاء أن واجبهم الشرعي يحّرم عليهم فعل ذلك. وكثيرا ما نسمع مسؤولين كبارا في الدولة يرددون عبارة: (واجبي الشرعي والوطني)، مقدمين، قولا وفعلا، الشرعي على الوطني والقانوني.

قد تمد الشريعة الانسان بمفاهيم وروادع أخلاقية، (كأن تمنعه من السرقة أو اسغلال المنصب) وهذا أمر ايجابي، لكن لايمكن أن تقحم مفاهيمها ومعاييرها في تنفيذ القوانين الرسمية الموضوعة والتي تمس المجتمع كله.

ولا يقل تاثيرا الأخذ بالشريعة كمعيار لتطبيق القوانين ماتقوم به، او بالاحرى من يستغلها في ذلك، في تقييد المجتمع بتعاليمها واجراءاتها. فالحجاب والايمان والطقوس الدينية وغيرها هي حريات فردية تمارس عن قناعة وليس ارغاما بالضغط الخفي باسم المقدس والقول الالهي وواجبات الشرع، كما يحدث في المجتمع الآن من فرض لها باسم اغلبية دينية لا تعني بالتأكيد أن الآخرين المختلفين متوافقون معها وعليها.

سيعترض محبذو الشريعة على أن ذلك جاء برغبة الناس، وأن ليس هناك ضغوطا مادية تمارس في فرضها، وهذا يبدو صحيحا ظاهريا، لكن في العمق هناك ضغط معنوي (يتحول الى مادي ما أن تقتضيه الحاجة) يمارس على الناس في فرض تعاليم الشريعة عليهم في حياتهم الشخصية.

أختم باستحضار قول لشاب كويتي وصف مرة دور القوى الاسلامية في الضغط الاجتماعي بالقول أنهم (كاتمين على انفاسنا).

وهذا ادق توصيف لما يمارسه الاسلاميون من مختلف المشارب في مجتمعاتهم، والامثلة اكثر من أن تُحصى وتُحصر.

اتركو الناس يختارون مصائرهم بأنفسهم، من يريد الذهاب الى الجنة ليذهب، هنيئا له، شرط أن يذهب اليها بمفرده، ومن يريد جهنم ليذهب اليها، فهذا خياره، ولكن بمفرده هو الآخر أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نعم مشاكلنا ليست اقتصاديه سياسيه فقط-انها بمجموعها
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2020 / 2 / 14 - 23:39 )
حضاريه-والموقف من المراءة في مجتمعاتنا ودورها الموازي المتساوي قضية جوهرية وحلها تقدميا يعتبر تحقيق قفزه حضاريه جباره-لقد عشت وعايشت منذ بداية الخمسينات في القرن العشرين اندحار البوشي-البرقع-ومن ثم بدء تقهقر العباءة واختفائها الكامل خاصة مع بزوغ يوم 14تموز 58المجيدالذي اظهر الاندماج العضوي بين التقدم السياسي-الاجتماعي والتحضر وثورةالثقافه بمعناها الانساني الاشمل منتصرا على التقوقع الجيني او القومي وما كان يسمى الشرق شرق والغرب غرب لصالح الانتماء للنوع البشري وان تخلف مجتمعاتنا ليس بسبب كنسيتنا ولكن بسبب تخلفنا صناعيا وزراعيا وتعليميا وعيشنا في ظروف لم تؤدي الى امتلاء معدنا بالغذاء ومقولة الانسان يبداء بالتفلسف بعد ان يشبع ويظهر ان مليونيات بناتنا ونسائنا هو ايضا علامة على =ان الانسان لايعيش بالخبز وحده-تحياتي الخاصة للكاتب النبيه حقا الاستاذ خالد صبيح والى الامام لانتقال العراق الى المستوى الحضاري للعراقيات وليس للبهيمه مقتده


2 - شكرا
خالد صبيح ( 2020 / 2 / 15 - 16:16 )
شكرا لمرورك واضافتك دكتور صادق
تقبل تحياتي واعتزازي

اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد