الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعلام الكرد الخفاقة

ابراهيم محمود

2006 / 6 / 4
القضية الكردية


على سطح بيتي، نصب ابني عالياً، علماً لإحدى الدول المشاركة في مباريات كأس العالم لكرة القدم. لا أسمي العلم هنا، حتى لا يكون ذلك دعاية للدولة التي يُرمز إليها، هو كغيره من أنداده، أو أبناء جيله، شغوف بكرة القدم، أو به هوى محيطي بالرياضة( القدمية ) هذه، كنوع من التعبير عن الإنصهار في مجتمع محكوم بميول، لها أثرها في تحديد التباينات والمفارقات، ميول تعرّف بصاحبها في وضع كهذا، على أنه في هوى كثيف الانتشار، يستقطب أنظاراً وقلوباً، ويحرّك خيالات عن بطولة نجومية تحتذى هنا وهناك، وبشكل جماعي.
لا أستطيع أن أمنع ابني من تصرف كالذي قام به، إنه بالغ سن الرشد تماماً، إذ إنه مقروء بالنسبة لي من الداخل، باعتباري معايشاً لـه طويلاً تحت سقف واحد، وليس كأب فقط، أو باعتباره ابني، وما تعنيه البنوة من تبعية أحياناً، لهذا فأنا ملزم في أن أحترم ميله الرياضي ذاك، وإن كنت أود أن تكون الرياضة تلك، نافذة متجلية في نشاط آخر ، يدوم، يقربه مما هو عليه واقعاً ومجتمعاً، ولكنني ثانية، أجد نفسي في وازع التقدير لسلوكه المشهدي، مثلما أتبصر في ما وراء السلوك ذاك، وإن لم يسمَّ، تلك المواطنة الكوسموبوليتية، وأعني بذلك، أنه يعيش متخيَّلاً سنيًّاً، ويتحرك صوب أفق يتجاوز الحدود التي تقلل من شخصه ومن أهميته كونياً، إنها رياضة كرة القدم، نعم، ولكنها تضفي عليه طابعاً من الميثولوجيا والغواية والمغامرة في اللامكان، ليكون كأي كان، هاتفاً مع الجميع، تلك المفردات المعروفة عالمياً، ولا تتطلب ترجماناً، عند تسجيل هدف مثلاً، إنه الهتاف الذي يحرر صاحبه من انتمائه المكاني الضيق، ويبرز شبوبيته أو فتوته.
عندما أقف على سطح بيتي، وأتلفت حولي، أبصر من الجهات كافة، أعلاماً: زرقاء في حمراء في بيضاء، خضراء في زرقاء، صفراء في خضراء، إنها الألوان الأساسية المتعددة، أو المركبة: الحارة والباردة، الباهتة والداكنة، تتضمن في تجليها دولاً تنتمي إلى قارات، وتنطق بلسان حال ثقافات، وكأن ثمة سباقاً من الألوان في الفضاء البصري الكوني المقام، حيث الهواء الذي يدفع بها إلى الخفق والاصطفاق، الانبساط والانطواء، يمارس إعلاماً بوجودها، بوجود تنافس بين النفوس ورغبات مختلفة على الأرض بالذات.
في محيط حارتي، وربما في مدينة قامشلو، وما يتجاوزها كما لاحظت، تبرز المساحات القماشية المختلفة الأبعاد والقياسات، مترجمة رغبات أهليها، عشاق كرة القدم، أو على هامشها، أو من خلالها كذلك، عشاق المغامرات التي تشي بفتوات، تعد ذويها نفسياً بما هو مكبوت داخلهم، أو تنشلهم من واقع متروس عليهم، ليكونوا طليقين مرفرفي أفئدة مثل الأعلام تلك. ويظهر أن الدول الأوربية وبضعاً من دول أمريكا( البرازيل أولاً)، هي الفائزة بقصب السبق، دون أن ننسى انتماء الأشخاص قومياً ومذهبياً أيضاً، إذ لا يخفى لذي البصيرة أن يرى علماً لدولة ما، ومقابله علماً مختلفاً، بنوع من السجال أو التنافس البصري، أو حتى المكايدة( فرنسا ضد ألمانيا)، أو ( البرازيل إزاء الأرجنتين)...الخ.
ربما في الطرف الأقصى تكون الدولة العربية حاضرة حضوراً هزيلاً، إن المهارة الجسدية تحكم هنا، وتوجه الميول والرهانات في الداخل، وربما يرفع أحدهم علم دولة ما، تجاوباً مع مصلحة أو معتقد( السعودية نموذجاً)، وليس لأنها تستحق رفع علمها على سطح هذا البيت أو ذاك، من باب الأهلية الرياضية.
رؤية هذه الألوان السابحة في الفضاء، تستثير أسئلة مختلفة، منها، أن الذين رفعوها عالياً، لم يتملكهم خوف معين، ليس لأن العسس والمعنيين بمراقبة ما يجري على سطوح البنايات المختلفة الارتفاعات، في عمي عما يفعل ذوو الأعلام الخفاقة، إن ذلك يشد انتباههم، مثلما يدفع بهم إلى القيام- ربما- بجردة بصرية، أو حسابية دقيقة، لمعرفة الميول هذه، وكيفية انتشارها، بحسب الأحياء أو الشوارع أو البيوت، ومن يكونون هؤلاء الذين رفعوها، كل ذلك وارد تماماً، إنما لأن العملية هذه، تمارس تنفيساً لرغبات ، وترويحاً عن حالات نفسية ضاغطة، ولا بأس في أن يستمر التنافس إلى أجل غير مسمى، لأن القوة الشبابية المرصودة والمكبوتة داخلاً، تستحيل حركات وصيحات مع المباريات المتلفزة كثيراً.
في إطار الرغبات والميول النفسية، وفي وسطي الكردي كنموذج، من النادر رؤية أعلام تخص دولاً عربية، ليس لأن ثمة تقديراً مباشرة لمحدودية مهارة فرقها، وإنما لأن ثمة تقديراً لا يسمى، ولكنه غير مجهول العلامة، ينصب على الموقف منها، موقفها مما يجري كرديا سلباً طبعاًً. إن التشجيع لا علاقة لـه بفريق ما، وإنما بذلك التوحد الوجداني معه، بتلك المصداقية الخاصة بالفريق، وإنما قبل ذلك، بمجتمع الفريق بالذات، وفي الوقت ذاته، فإن الأكثر جدارة بالقول، هو تقرير حساب ذاتي، إذ يجري صراع ضمني، وممالأة أو موالاة لهذه الدولة أو سواها ضد سواها. إن السياسة لا تخفي عقدتها أو ظلها الظليل الوارف هنا، وإن عجزت اللغة عن تبيان هذه الظاهرة وليس الحالة.
تصوروا لو أن العراق ذات يوم شارك في مباريات كأس العالم لكرة القدم، وأن فريقه كان ممثلاً للمجتمع العراقي، أعتقد هنا أن أعلاماً لافتة سترتفع عالية عالية، إنها ستكون أعلاماً مزدوجة، بالنسبة لغالبية الكرد، إن لم يكونوا جموعهم من محبي الرياضة، أو ممتهني السياسة، لأن الأمر يكون مستجداً، وهو يعزز هذا التوجه . سيكون هناك علمان : عراقي وكردي.
تُرى لو أن أحدهم حاول رفع علم كردي على سطح بيته، ماذا سيحصل خلال وقت غير محتسب؟ سيحصل ما لا يُحمد عقباه. ومن هنا كان التشديد على العلم سلباً أو إيجاباً، فأن ترفع علماً هو أن تعرّف بدولة ولغة وثقافة ومجتمع مختلف، وتنتمي إليها.
ولأنني أنتمي إلى مجتمع متعدد اللغات والقوميات، كما هو الواقع المعاش، كسوري وككردي، ماذا يحدث لو كان لي علمان سوري وكردي؟ إن ذلك يشدني أكثر إلى هذا المجتمع الذي لطالما كتبت عنه، وما زلت!
ربما كان في وسعي تحويل مشاعر ابني إلى لغة، إلى جانب آخرين من أمثاله، وهو يرفع العلم الخاص بدولة من دول المونديال الكروي: إنه تحويل النظر إلى فضاء الدولة تلك، إلى مجتمعها، رغم أنه يجهل لغتها، ولم يبصرها أرضاً، إنه وحده يدرك أكثر مني، وبصفته يفيض فتوة، ما يعنيه التأمل عبر علم خفاق في الهواء، علم لا ينتمي إليه، بأي شكل من الأشكال، إنه ذلك الشعور بحرية مفقودة، بذات معاشة من وراء متخيَّل، من وراء علم، لا يعرف صاحبه الرئيس أنه مرفوع هنا.
وحدهم الذين يمارسون قهراً للانسان وهدراً لإمكاناته وانسانيته: لغةً وانتماء، من أولي الأمر المر، يدركون تماماً تماماً، ماذا يعني، أن يحلم أحدهم( الكردي نموذجاً هنا) بالسفر والإقامة في مجتمع آخر، وهو غريب الوجه واليد واللسان ، وينسلخ عن مجتمع عاش فيه مديداً، وهو يعرف الكثير من صرفه ونحوه وقواعده ولغته السائدة، ليكون الشعور بأمان أكثر، وانسانية معلومة أكثر، وتقدير طاقات وإمكانات أكثر، البديل الأكثر حيوية وجلاء قيمة، أم إن ذلك تقويل وتضليل؟ هنا انفجرت ضحكاً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي


.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين