الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اريد وطنا؟

فالح مهدي

2020 / 2 / 15
ملف: الحراك الجماهيري والثوري في العالم العربي، موقف ودور القوى اليسارية والديمقراطية


أريد وطنا!

منذ لحظة ولادتها، رفعت هذه الانتفاضة البطلة شعار (أريد وطنا) . ومع ان الشعار لاقى استحسانا فذا ، إنما أن يطلق أبطال الانتفاضة وهم أبناء هذا البلد ومعظمهم ان لم نقل كلهم انحدروا من عوائل فقيرة بل معدمة فمسألة تحتاج الى نظر والسبب ان ذلك الشعار ينطوي على سؤال يختصر كل تاريخ العراق المعاصر الذي ساهم بولادته البريطانيون ومس بيل بالذات . ما هو الوطن الذي نبحث عنه ؟ وكيف ضاع ومن ضيّعه ؟ ولماذا ضاع ؟
ويمكننا ان نطرح عدد كبير من علامات الاستفهام ، إنما ماذا نعني بوطن ؟ هذا السؤال لم يفكر به الشباب المنتفض ، مع أنه من أصعب الأسئلة ، فهو ليس حقيبة فقدناها عند مفترق احد الطرقات ، أو في محطة قطار ولا طفلاً ضاع كما ضاع السيد يوسف كما تقول حكاية العهد القديم فوُجد بعد حين كأحد أسياد مصر! في قواميس اللغة هو البلد الذي ولدنا فيه وأصبحنا من مواطنيه أو ذاك الذي تربطنا به مشاعر حب فاعلة. هناك عدد من التعريفات إنما كلها تلتقي بمفهوم الانتماء .من يطالب بوطن في العراق هم المهمشون حيث اعتبر صدام حسين وأجهزته الإعلامية آبائهم واجداهم غير عرب! أو نساء نظر لهم عبر منظور المتعة المقيت، ومواطنين شرفاء على قدر كبير من الوعي نظروا الى ضياع ودمار هذا البلد أمام أعينهم دون ان تكون لهم القدرة على صد السيل الذي تحّكم بأمره عدة جماعات ودول أهمها وأخطرها إيران .
لمن يقرأ من أمثالي يدرك جيداً ان الوطن دخل في دروب التيه منذ ثورة 14 تموز في عام 1958 ولم يخرج منها بل تفاقم ضياعه في دروب مظلمة لم يفكر بها كائن من يكون .
لم يكن عبد الكريم قاسم سببا في ما آلت إليه الأمور ، بل العكس هو الصحيح فالرجل مخلص لهذا البلد على نحو قل نظيره وبفضل من كان معه من خيرة رجال العراق أبان تلك الفترة،فقد كان يحلم ببناء بلد في مصاف البلدان التي ينظر لها باحترام ، ولكن الخط القومي والإسلامي ( حيث كانا متشابكين) وأحلامه المريضة بقيام وحدة يقودها جمال الناصر من المحيط الى الخليج ساهمت في إجهاض تلك التجربة الفذة ، إضافة الى الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الحزب الشيوعي العراقي آبان تلك الفترة ودون شك سذاجة قاسم وعدم درايته، كل تلك العوامل ساهمت في ذلك التيه الذي دخل به العراق ولم يخرج منه لحد الآن .

ولو نظرنا الى هذا الموضوع على نحو آخر فسنجد ان القوميين وبدءا من انقلاب شباط الأسود ، وضعوا هذا المشروع الذي بدأ مع الملك فيصل الأول ، جانباً واعتبروا ان هناك مهمة أنبل وأعظم من بناء وطن اسمه العراق ، تتمثل ببناء وطن من الخليج الى المحيط!
كما ان الشيوعيين لم يفكروا ببناء وطن ، ذلك أنهم كانوا منشغلين ببناء كيانٍ يدخل الوطن الكبير الذي كان يقوم بإنشائه الرفيق ستالين!
العراق ككيان حولته الإيديولوجية القومية الى بيدق بين يدي بطل الخطابات الرنانة عبد الناصر والشيوعيون فكروا في ان يدخلوه في المنظومة التي يطلق عليها اشتراكية من اجل خلق الجنة الأرضية عبر شعار وطن حر وشعب سعيد .
وعندما ننظر الى هذا التاريخ الذي ساهم في دمار العراق ، نجد ان هناك شخصيتين بل نظامين فكرا ببناء وطن: التجربة الملكية ونوري السعيد بالذات وثورة 14 تموز وعبد الكريم ومن معه .
هذا الشعار الذي رفعه شباب الانتفاضة الأبطال ومنذ اللحظات الأولى ينطوي على حلم انقطع في عام 1958 وتمزق بعد عام 1968 حيث تحول الوطن بؤرة تحكمها عصابة فاشية همها الوحيد الحفاظ على السلطة ، ومن ثم تفتت على يد الرجال الذين دخلوا العراق فوق ظهور الدبابات الأمريكية . وكلم).ر الزمن أصبح العثور على هذا الكائن المعنوي الذي اسمه العراق امراً يقرب من الاستحالة ، فقد تمكنت العصابات الحاكمة والموالية لإيران من الإجهاز كلياً على إي نزوع وأية رغبة في بناء وطن، بل أصبح التفكير ببناء وطن جريمة غير معلن عنها فقد يتم اغتيال من يطالب ببناء وطن أو تشويه سمعته ولنا في انتفاضة الشباب مثلا عظيما ، فقد أطلقت العصابات الحاكمة على المنتفضين عبارات كان يراد منها إنهاء هذا الحراك العظيم ، فقد أصبح المنتفضون ( مندسين ، يعملون بأمر من إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية .. الخ ) .
لم يعد سراً أن الطموح الإيراني بجعل العراق جزءا من إمبراطورية الولي القاتل الذي يطمح رجال الحكم في ذلك البلد بإنشائها.
انتفاضة الشباب التي رفعت هذا الشعار، أعادت للعراق الأمل في ان يكون في يوم ما وطناً يستحق الاحترام والتقدير من قبل الأمم الأخرى ومن قبل أبناءه بالذات .
صعوبة تحقيق هذا الأمل
سألني صديق أفريقي ذو ثقافة واسعة ومن المدافعين عن أفريقيا بكل أوتي من وسائل ، عن سبب تأخر أفريقيا وعدم دخولها التاريخ من أوسع أبوابه ، فكان جوابي: غياب الدولة .المجتمعات التي لم تقم بها دول بقت مشتتة ولم تتمكن من إنتاج حضارة يعتد بها. يمكن اعتبار الحضارة المصرية هي أهم ما أنتجت أفريقيا في تاريخها القديم. إنما وبعدالقديم. أصبح للمغرب والجزائر وتونس حضورا براقاً. ولكن أفريقيا السوداء وبسبب غياب الدولة لم تنتج أمرا جوهرياً في التاريخ الإنساني القديم .
في العصر الراهن هناك مجتمعات عانت ولم تزل من فقدان الدولة أو عدم اكتمال بنائها ولنا في العراق وسوريا واليمن وليبيا أمثلة جلية.
التطور التاريخي الذي سمح لنا تتبع مرحلة انتقال الإنسان من عصر الصيد الى العصر الزراعي وسمحت لنا النخب أتتسومرية بالذات من ملاحظة التطور المذهل الذي انتهى بتشييد مدينة بل من أعظم مدن العالم القديم ( أور) . هذا التطور المذهل تم بفضل وجود سلطة وهنا اقصد بالسلطة ليس الملك والحاشية فحسب بل رجال الدين فكل النخب أتت من المؤسسة الدينية . ذلك التطور المذهل الذي بدأ مع السومريين ومن ثم تبناه الاكديون ( البابليين والاشوريين)، كان ثمرة من ثمار وجود الدولة بشكلها القديم.
قامت الحضارة العباسية بذلك المنجز السفالة:ذي اعتبر من أعظم ما أنتجت القرون الوسطى بفضل وجود سلطة ( خليفة، مؤسسة دينية، جيش وشرطة، مراقب للأسواق الذي كان يطلق عليه المحتسب، كتاب وشعراء ومتكلمين على شاكلة المعتزلة الخ).
وكما ذكرت ذلك في كتابي ( مقالة في السفالة : نقد الحاضر العراقي ) فقد مات العراق خلال الحكم العثماني اللئيم ولم ير النور إلا مع الاحتلال البريطاني . ذلك الاحتلال اخرج العراق ووضعه في غرفة إنعاش !
توقف هذا البناء كلياً مع انقلاب تموز في عام 1968 مع طموح صدام حسين ببناء نظام مافيوي عائلي مهمته الأساسية الاحتفاظ بالحكم للعائلة الحاكمة. رفع ذلك النظام شعار الوحدة العربية من الخليج الى المحيط ، ولكنه لم يكتف بالتآمر ضد بعض تلك الدول ، بل قام بتمزيق العراق وضرب وحدته الوطنية والتنكيل بمثقفيه وكتابه ومفكريه ، وقبل ان يقوم بمطاردة الأحزاب الشيعية ، قام بتوجيه ضربة قاسية ومدمرة الى الحزب الشيوعي العراقي الذي دخل معه في جبهة . انها الرغبة المجنونة بالاستحواذ على كل شيء. كان أمام صدام حسين أعظم فرصة لبناء وطن لو كان جادا بالتعاون مع الشيوعيين. لقد شكل الشيوعيون النخبة الثقافية والعلمية ولا يمكن ان ينهض البلد بدون مساهمتهم الفعالة كأفراد كفوئين في قيام وطن مبني على مؤسسات فاعلة. قيادة البعث وصدام حسين بالذات لم يكن يعنيه هذا الأمر البتة. ما يهمه هو ان يتفرد هو بالسلطة.
طريقة تفكير صدام حسين دفعته لمحاربة الحركات الشيعية بدل احتوائها. التشيع السياسي أصبح قوة يجب أخذه بنظر الاعتبار عند التفكير ببناء وطن وبناء دولة قادرة على العيش. العنف والارهاب الذي شنه صدام حسين ضد العراقيين، لم يتوقف العراق عن دفع ثمنه لحد هذه اللحظة .
الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (1638-1715 ) ، لم يقم بقتل كبار رجال الإقطاع بل دعاهم الى القصر الملكي لكي يشعرهم بأهميتهم ومن اجل مراقبتهم ! ذلك الملك كان يحلم ببناء دولة .
صدام حسين لم يكن وحيدا في عام2003 لمرتبط بشخصه فقد فعل ذلك القذافي وما تعانيه ليبيا الآن سببه القذافي نفسه الذي امتنع عن القيام بنظام مؤسسات كما فعل الحبيب بورقيبه في تونس.

سقوط ذلك النظام الفاشي في عام2003 لم ينهي مسألة بناء الدولة بل زادها تعقيداً . فالنظام السياسي الذي أوجده بول برايمر لم ولن يسمح ببناء دولة ، اذ تم وضع دستور أطلق عليه دستور دولة ديمقراطية وهو بعيد عن كل ديمقراطية بل كانت مهمته الأساسية توزيع الغنائم بين الأطراف التي تدير أمر هذا البلد. .قادة الأكراد استفادوا كثيرا من هذا النظام ولا يجدون مبرراً لاستبداله بنظام أخر. ليست مشكلتهم ان الدولة منهارة ،أما شيعة السلطة فحدث ولا حرج ذلك ان بناء الدولة ليس من همومهم .عدد كبير منهم جاء من إيران ولا يجد غضاضة في ان يصبح العراق تابعا لدولة الولي القاتل . طغى مفهوم الهوية الطائفية على كل سلوكياتهم وبأمر من ذلك الولي جرى العمل لشحذ النفس الطائفي عبر المسيرات المليونية.
كما ان سنّة السلطة لم يعنهم أمر بناء الدولة ، فهم جاءوا للكسالجوهري:ب. عدد كبير منهم كان فاعلا في هزال السلطة .
وهكذا وبعد مرور أكثر من نصف قرن وجدنا أنفسنا أمام هذا السؤال الجوهري : لماذا توقف بناء الدولة ، وكيف يمكننا إعادة بناء ما انقطع ؟
هناك أسباب كثيرة لضياع الدولة إنما من أهمها مفهوم الاستحواذ على السلطة بدءا من عام 1963 ، من قبل أفراد وجماعات بعيدة عن التحضر. لقد حكم العراق ولا سيما بعد عام 1968 أفراد بعيدين عن المدنية وعن أية هموم لبناء دولة . كان الهم الأول والأخير بناء نظام يبقى إلى الأبد . من جاء بعد صدام حسين وهنا اقصد السنة والشيعة والأكراد، لا يختلفون في بنائهم الذهني عن عقلية البعث . أنهم ممثلون بارعون لقوى ما قبل الدولة.
الفرق بين إيران والعراق، في إيران دولة قامت في القرن السادس عشر ولا زالت قائمة. الأنظمة تبدلت إنما جوهر الأشياء المتمثل ببناء الدولة بقى على أصله ولم يتم التلاعب به أو تغييبه.الخميني يشترك مع الشاه محمد رضا في ان كليهما ينتميان الى نفس البنيوية وكل منها يحمل نفس الأهداف فيما يتعلق بمستقبل إيران. النظام العسكري الإيراني نظام دفاعي ، لا تقوم إيران بمهاجمة الآخرين إلا عبر اذرعها وعملائها في البلدان الأخرى .
تركيا أيضا ورثت النظام العثماني فهناك مؤسسات دولة قامت منذ أكثر من خمسة قرون.
لم تكن الحروب الأهلية والدمار الذي حّل ببعض البلدان العربية محض صدفة، بل وقفت خلفه هشاشة الدولة.
كما ان لمصر دولة يمكن اعتبار جذورها تمتد الى الفراعنة ، انما من الناحية العقلية انشأ محمد علي دولة ، أنهى وجودها عبد الناصر وآتى بنظام عسكري حكم مصر منذ عام 1953 ولم يزل.
الدولتان اللتان تستحقان لقب دول هما تركيا وإيران. في المشرق طبعاً . هناك دولة في المغرب يطلق عليها المخزن ( ويالها من تسمية)،عانت الجزائر ولم تزل بسبب من فقدان الدولة ، إنما خرجت تونس بمجتمع مدني من أفضل المجتمعات الناطقة باللغة العربية.
يتضمن مفهوم الدولة مفاهيم:اجتماعية، تنظيمية وقانونية. فمن الناحية السوسيولوجية تمثل مجموعة الإفراد الذين يعيشون في نفس الإقليم ويخضعون الى سلطة واحدة هذا التعريف قديم وورد في قاموس الاكاديمية الفرنسية لعام 1696 .
ومن الناحية التنظيمية فهو يشير الى ذلك النمط الذي يلجأ اليه مجتمع من المجتمعات. ومن الناحية القانونية تعتبر الدول مجموعة السلطات المكرهة التي تمتلكها الأمة في حكمها وأدارتها لشؤون الأفراد المتواجدين داخل نفس الإقليم وهنا يدخل مفاهيم المصلحة العامة والأخلاق التي تتحكم بسلوكيات من يحكم تلك الدولة
وللجواب عن هذا السؤال ما جدوى الدولة؟
ـــ تقوم الدولة بضمان سلامة مواطنيها .
ـــ ان تضع المصادر الأساسية التي تعتبر جوهرية تحت تصرف كل المواطنين . ان تقوم بالدفاع عن الوطن .. ان تقّوض الخلافات بين الأفراد التي تنتج عن الانتقام .
عند المراقبة نجد ان الدول التي قطعت أشواطا في دروب التحضر ، اندحرت فيها المفاهيم القبائلية بل اندثرت في أوربا وفي البلدان التي حكمتها الإمبراطورية الرومانية كفرنسا مثلا. الإمبراطورية الرومانية قائمة على مفاهيم المواطنة ( لا علاقة لها بالمواطنة المعاصرة، فقد كانت تمنح للأفراد ، فاليهودي بول والذي أصبح القديس بول، مواطناً رومانيأ ، لأنه يجيد اللغة الإغريقية. لعب هذا الرجل دورا مهما في تطور المسيحية ).
الدول التي عانت من حروب أهلية كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، وقعت بها تلك الحرب، بسبب فقدان الدولة.
سنتوقف أمام العراق فالحرب الأهلية في ليبيا لا زالت قائمة والنظام الفاشي في سوريا لم يسمح بقيام دولة ، فقد سيطرت طغمة على مقدرات هدا البلد.
انتفاضة الشباب العظيمة في العراق خلقت الآمال بإعادة بناء الدولة . بيد اننا نجد من الجدير التطرق الى ضعف وهزال الدولة ومن ثم سقوطها حتى نتمكن من التطرق الى المعطيات التي ستساهم ببنائها.
كما ذكرنا فقد بدأت أعراض دمار سقوط الدولة منذ عام 1958.
صدام حسين لم يكتف بإدخال البلد بحرب لا قدرة له عليها وستؤدي الى دماره وتفككه، بل عاد هو نفسه الى النظام ما قبل الدولة ، فأصبح شيخ المشايخ! وسمح لنفسه في تفضيل قسم من العراقيين على بقية الآخرين . بل شن حروبا داخلية مجنونة وارتكب مجازر ليس من اجل بناء المواطنة وقيام دولة الفرص المتساوية بل من اجل بقاءه هو وبطانته .

هناك تعريف آخر: حيث تعتبر الدولة منظمة سياسية تنتقل من سلطة الفرد الى سلطة المؤسسات . سلطة الفرد تتمثل باعتبار السلطة ملكاً له . تظهر الدولة عندما يختفي مفهوم ملكية السلطة التي يواكب حكم الإفراد وتتحول السلطة الى نظام محكوم بقوانين مجردة لا علاقة لها بالأفراد . تتكون الدولة من ثلاث عوامل: إقليم وسلطة سياسية وشعب. يجري تحديد الإقليم على ضوء الحيز الذي تقطنة جماعة من الجماعات أو أكثر من جماعة , السلطة السياسية تمارس نفوذها داخل هذا الإقليم
سيادة الدولة تأتي من قبول الجماعة أو الجماعات التي تقطن في هذا الإقليم بسلطة حاكمة وتمنحها الشرعية. الدولة ذات سيادة لأنها سيدة القرار وسيدة تنظيم السلوك المجتمعي . كل الإفراد الموجودون في هذا الحيز خاضعون إلى سلطة هذه الدولة .
تحديات بناء الدولة
هناك ثلاالداخلية:قف عائقا أمام قيام دولة المؤسسات :
العوامل الداخلية :
فمنذ انقلاب 8 شباط في عام 1963 دخل العراق في حكم العشيرة والعائلة، وأصبحت السلطة ملكا يمارسه من يمتلك جبروت تلك السلطة. الموضوعية تقتضي القول ان هناك شخصيات ظهرت خلال هذه الفترة مثل عبد الرحمن البزاز ( 1913-1973) الذي كان رئيساً للوزراء في عهد الرئيس عبد السلام عارف في الفترة 1965-1966، واستمر فترة وجيزة في عهد عبد الرحمن عارف . كما ان عبد الرحمن عارف بالذات كان متسامحاً ويطمح في بناء عراق مبني على قيم المساواة في الفرص . الكارثة التي أصابت العراق تمثلت بانقلاب 17 تموز1968، حيث عاد البعث ذو التاريخ الأسود لقيادة البلد. مثلت هذه الفترة الدمار الفعلي لمفهوم الدول كمؤسسة وتنظيم يهدف الى ادراة شؤون الأفراد.
يمثل هذا الانقلاب عودة جماعات بدائية بعيدة عن مفاهيم الحداثة والقدرة على تقاسم السلطة من اجل قيام دولة المؤسسات.
طموح صدام حسين بالذات فهو الحاكم الفعلي والمخطط لما ستؤوقبله. الأمور لاحقاً ، كان بناء نظام قائم على القمع والإرهاب والتفرد بالسلطة باسم البعث وباسم الأمة العربية تارة أخرى.
توفرت لصدام حسين فرصة لم يحصل عليها غيره ممن حكم العراق قبله.الاتفاق مع الشيوعيين بما يطلق عليه الجبهة الوطنية التقدمية ، كانت تلك أهم فرصة لالحكم.ناء الدولة والسبب هو ان الشيوعيين واليساريين يمثلون النخبة في هذا البلد والاعتماد على براعتهم ومواهبهم في كل المجالات كانت لو اخذ بها ذلك الأرعن فرصة في ان يقف العراق على قدميه مجدداً. الشيوعيون كحركة وكحزب كانوا حريصين على بناء العراق ولم يكن في حساباتهم قلب نظام الحكم .
أهم التحديات في تقديري تتمثل في العمى الإيديولوجي الذي تحكم بما ستؤول اليه الأمور لاحقاً من تراجع الحس المدني واندحار المؤسسات . طموح صدام حسين تمثل ببناء نظام حديدي على طريقة ستالين ولم تعني المؤسسات امرأ مهماً له. كما ان الثقافة الشيوعية لم تعر اهتماما ملفتاً للنظر في أمر إعادة بناء الدولة . العهد الملكي وكبار رجاله إضافة الى الحزب الديمقراطي كانوا متحمسين وساعين لها الأمر الذي اعتبر لدى البعض ترفاً برجوازياً .
كل القوى السياسية العراقية ومنذ خمسينيات القرن الماضي ، كانت طاردة لمفاهيم الدولة والمؤسسات وهنا اعني القوى القومية التي استلمت مقاليد الحكم في عام 1963 والقوى الدينية المؤازرة لها من سنة وشيعة ، والحزب الشيوعي فثقافته لم تعر اهتماماً لهذا الموضوع . والزعامات بقيادة العشائري مصطفى البرزاني كانت تعمل دون هوادة ضد استقرار العراق وتعاونت مع كل شياطين الأرض من اجل ذلك.
بعد الاحتلال قام برايمر بحل الجيش العراقي وتهديم ما تبقى من أطلال يطلق عليها دولة اعتباطاً، ولم يكتف بذلك فقد أسس لنظام قائم على توزيع المغانم وتمكن من الحكم أحزاب وأشخاص بعيدين عن ثقافة المؤسسات وسيادة القانون وتساوي الفرص، بل بعيدين عن مبادئ الشرف.
شعار أريد وطنا ينطوي ضمناً على شعار أريد دولة. العراق تيتم في مؤسساته التي تشير الى الدولة بعد عام 1963 وتوقف بناء الدولة الذي بدأ مع الاحتلال البريطاني في بداية القرن المنصرم .
يمكنني وحتى أقُرب الصورة تصباطل.عراق على شكل شجرة فيها ثلاثة أغصان ، يجلس فوق كل غصن مجموعة سياسية وفي يدها منشار: القوميون والبعثيون ، الاسلاميون والشيعة على نحو خاص فمن مارس السلطة لا يهمه أمر هذا البلد شيئاً. ومن ثم الأكراد وقد اتضح هدفهم بعد 2003 . ما يهم هي المكاسب وما عداها باطل .
لم اعتبر الشيوعيين أصحاب منشار لتقطيع أوصال العراق علماً أنهم كانوا بعيدين عن ثقافة بناء دولة. يتحدثون عن العمال والفلاحين في بلد ريعي مثل العراق وتأييدهم الأعمى للحركة الانفصالية التي قادها البارزاني الأب والابن، كان يقف حائلاً ضد قيام دولة مؤسسات. .
عندما نمعن النظر في هذا الجسد الذي اسمه العراق ، نجد ان كل القوى الفاعلة عملت ضد مشروع إعادة بناء الدولة.
والآن دعونا نمعن النظر ليس في رجال هذا الحكم البائس ، بل الى شخصية قلقة لعبت دورا في مسيرة الإحداث من عام 2003 ولم تزل ، وهنا اقصد مقتدى الصدر . هذا الرجل المتورم نرجسياً والبعيد عن أية ثقافة جادة، منح لقب حجة الإسلام كما منح خميني لقب آية الله ومن بعده خامناي . فكما فعل صدام بمنح نفسه لقب مهيب ركن وهو لم يخدم يوماً واحداً في الجيش، منح مقتدى الصدر لقب حجة الإسلام وهو لا يفقه كثيرا في الفقه واللغة العربية، تتجلى طموحاته بل أعظم طموحاته ، بإقامة حكومة أبوية ! عبارة من هذا النوع تكشف مأساة بناء الدولة في العراق . لو كان مقتدى الصدر على قدر من الذكاء والعلم والحرص على مستقبل هذا البلد، لما داعبت ذهنه عبارة خطيرة تتمثل بحكم أبوي. لم ينتبه هذا الإنسان ان طموحه سيعيدنا الى عهد صدام حسين، وسيبقى العراق يتيماً فقد ذهب بناء الدولة منذ ستينيات القرن الماضي ولم يعد لحد الآن .
القوى التي تحكم العراق بكل أطيافها بعيدة عن ثقافة دولة القانون ودولة المؤسسات .
العوامل الخارجية
هناك عدة عوامل لا تسمح للعراق ان ينهض وهذا يعني ان يكون مستقراً منها الولايات المتحدة ، ودول الخليج لاسيما السعودية والكويت. سأركز هنا على عاملين أساسين يشكلان خطراً على مستخطرا وجودياًا تركيا وإيران، والسبب هو ان الولايات المتحدة التي تدور في فلكها الدول الخليجية الموالية لأمريكا ، أصبحت في تنافس نفوذ مع الصين وروسيا . السياسة الأمريكية تتكيف على ضوء مصالحها ، لذا فهي عدو لا بد من التعامل معه بقدر كبير من العقلانية . التركيز على تركيا وإيران يتأتى من كونهما يمثلان خطرا وجودياً على العراق .
تركيا أولاً: في فيديو نشر في وسائل التواصل الاجتماعي بتاريخ 22 -01-2020 يلقي فيه السيد دولت بهجلي رئيس حزب قومي ويميني متطرف MPH ،خطاباً في قاعة غاصة بحضور متميز ويبدو عليهم أنهم من عليّة القوم ، يعلن فيه كلاماً خطيراً من ضمنه هذا القول حرفياً ( عندما يحين الوقت وتنضج الظروف ، وعندما لم يعد التاريخ مناسباً للجغرافية الحالية سوف يستيقظ الميثاق الملي. وستكون محافظة كركوك هي ال 82 والموصل 83 بعد المحافظة التركية ال 81 دوزجه، ولن تكون هناك قوة قادرة على الوقوف ضد استرجاع هذا الحق..) . لقد قوطع ذلك الخطاب ولأكثر من مرة بالتصفيق الحار بل خرج هؤلاء المستمعون عن أناقتهم وكياستهم وصفقوا وهم وقوف !.
هذا الفيديو أثار الشك عند صديق من كبار مثقفي العراق فطلب مني التحقق من ذلك فقد وجده بعيد عن التصديق ، وحتى لا أطيل أفادني صديق عراقي تركماني يعيش في كثير من الأحيان في اسطنبول وأكد لي ان الترجمة دقيقة ، بل زاد وقال ان الأتراك ينتظرون خروجهم من معاهدة لوزان التي أبرمت بين تركيا وبين الحلفاء في عام 1923 وحلت محل اتفاقية سيفر في عام 1920 . في مقال للباحثة شذى خليل بعنوان ( هل تسترد تركيا إمبراطوريتها بانتهاء معاهدة لوزان 2023) ، وتبدأ مقالها على النحو التالي ( لم ينس الأتراك يوما معاهدة لوزان الثانية التي تسببت بتقليص جغرافيا الدولة التركية الحديثة ، وإلزامها بالتنازل عن مساحات كبيرة كانت تابعة لها ) ( راجع مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية 17 -07- 2017 )
ولم يخف الرئيس التركي اوردغان طموحه ، فقد كان يشير لها دوماً وذلك لإيصال رسالة الى الخارج قبل الداخل بطموح تركيا للتخلص من آثار الاتفاقية "واستعادة حقوقها"، التي اغتصبتها دول الحلفاء .....
خطاب دولت بهجلي يعبر عن الطموح والأمل التركي باسترداد ما تعتبره حقاً لها وجزءاً من أراضيها !
لست هنا بصدد العودة الى تلك الاتفاقية بل الإشارة الى ان هناك خطر وجودي يتهدد العراق وسوريا على نحو خاص ، وقد كشفت الأيام الأخيرة عن نية تركيا بالسيطرة على ليبيا .
نقلت ذلك المقطع من ذلك الخطاب الذي يعبر وبكل وضوح عن الطموح التركي وفي ذهني القادة الأكراد ولا سيما مسعود البرزاني الذي تربطه علاقات " محبة " مع الرئيس التركي ، من ان مصلحتهم تقتضي المساهمة الجادة ببناء العراق والخروج من عقلية المافيات المنتفعة من هذا الوضع المزري . معاهدة لوزان ستنتهي بعد ثلاث سنوات أيها السادة فهل حان الوقت لبناء جبهة داخلية تأخذ على عاتقها مهمة إعادة بناء الدولة؟
إيران ثانياً :لم تخف إيران طموحها بإعادة " أمجاد" الإمبراطورية الساسانية ، فصرح كبار المسؤولين فيها بما فيهم نائب رئيس الجمهوري الحالي ، ان بغداد ستكون عاصمة الامبراطورية ! إيران على العكس من السلطات التركية ليس لها تاريخ امبراطوري متواصل ، فقد ولت الامبراطورية الساسانية منذ الغزوات الإسلامية الأولى في القرن السابع . الإيرانيون مثل العرب يعانون من إمراض قائمة على الأوهام والأكاذيب.أيرن لن تقوم بحروب بنفسها ، استرتيجيتها قائمة على حماية الهضبة الإيرانية وتدافع عن تلك الهضبة بفضل عملائها في الدول الأخرى وربما تلجأ الى إسناد حركات انفصال في الدول المجاورة كما فعل شاه إيران مع مصطفى البرزاني .
في مقالي الذي نشرته في الحوار المتمدن بعنوان ( لماذا إيران ؟) بتاريخ 1-01-2020 ، اعتبرت إيران أخطر عدو للعراق في اللحظة الراهنة ، لقد ابتلعت إيران عربستان ولم تتراجع عن اتفاقية الجزائر التي وقعها صدام حسين مع شاه أيرن وأطلق عليها ( اتفاقية الجزائر ) ، حيث تنازل صدام حسين نتيجة غباءه عن نصف شط العرب لهذه الجارة التي تكن عداءا وجوديا للعراق .

تحديات بناء الدولة
العراق كمعظم دول هذه المنطقة من العالم بعيد عن ثقافة دولة كمؤسسة تقوم بإدارة حيز ، يسكنه مجموعة من الناس لهم تاريخ مشترك وثقافة ولغة واحدة في معظم الأحيان . هناك دول قائمة مثل الصين التي تمتد الى أكثر من ألفي عام ويسكنها جنس يكاد يكون واحدا وهو الهان الذي يمثل 94 °-°من الشعب الصيني. روسيا تمكنت من التحكم بأراضيها من سطوة المغول في القرن السابع عشر والصين وروسيا تعرضتا الى بربرية القبائل المغولية ولم تتمكن الصين من التخلص كلياً من عنف وسطوة هذه القبائل إلا في القرن التاسع عشر . المجتمعات التي تتمتع بالهند،ر في بنيويتها، تحكمها دول أثبتت شرعيتها بمرور الزمن بما فيها إيران . الاستثناء الوحيد يتمثل بالهند ، فليس هناك حكومة مركزية في الهند عبر تاريخها بل أمارات وممالك متناثرة هنا وهناك .يعود الفضل في بناء الدولة في الهند مستقرة وتتمتع باحترام المجتمع الدولي الى الاستعمار البريطاني . ولا أقوم هنا بتمجيد الاستعمار إنما لعبت بريطانيا دوراً جوهريا في صناعة الهند الحالية. بل تعتبر الهند خروج على القاعدة في عرف المفكرين السياسيين .انها المعجزة التي خلقها المستعمر البريطاني .
أمام كل هذه التحديات لا يمتلك شرفاء العراق إلا التفكير بإعادة بناء الدولة والتي تعني ضمنا بناء وطن .وهذا الامرالمستعجل ليس ترفاً إنما هو ضرورة أمام التحديات التي ستواجه العراق ككينونة وكشعب .
بيد ان تحقيق هذا الأمر سيحتاج الى جهود جبارة أولها ان يتولى أمر هذا البلد شرفاء يشعرون بحجم المهمة الملقاة على أكتافهم ، فصل الدين عن الدولة واعتبار الإيمان أمر شخصيا لا علاقة له بالدولة ومؤسساتها. تطوير التعليم وجعله إلزامياً الى سن الرشد مثلاً . إعادة خلق اقتصاد وطني زراعي وصناعي وهذه المهمة ليست بالهينة بعد ان قام هؤلاء المرتزقة بتمزيق الاقتصاد الوطني من اجل تسيد الجارة إيران، والسماح لها بتصدير كل بضائعها الفاسدة الى العراق.إقامة جيش وطني واحد لا جيشين، والتحكم بموارد العراق ومنعها من السرقة والتخريب.
وبدون القضاء على الريعية والطفيلية في الاقتصاد والاجتماع لا يمكن بناء دولة مؤسسات تحترم نفسها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على