الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدّين عندَ الفيلسوف إيمانويل كانط

زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)

2020 / 2 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الدين عند كانط .. من ضوء كتابه " الدين في حدود مجرد العقل "
بداية ً ، ألتمس العذر من القرّاء الكرام إن بدا لهم تقديمي لهذا الكتاب الضخم مبتورا بعض الشيء .
فالفلسفة في اعتقادي لا تُلخَّص ، والسبب أنّها كما أفهم :
قولٌ كليٌ مجردٌ دقيقٌ ومُحكم ، يقوم على المنطق وتناسق الأفكار والنقد ،
و هي على عكس ما يحسب كثير من الناس البسطاء ، من انها هذر بياني مبالغ فيه ، أو شطط في القول و الشرح والتعبير...
--------------------------
" إن الوهم والتعصّب الديني هو الموت الأخلاقي للعقل.."
- كانط
في هذا الكتاب يُبين لنا الفيلسوف " إيمانويل كانط " مطارحته الجديدة حول الدين، ويشرح اعتقاده بأن هناك دين واحد يستحق أن يُسمى ديناً ، وان كل ما عدا ذلك ، ما هي إلا تنويعات لمعتقدات وتشكيلات إيمانية ، يطلق عليها الناس مجازاً لفظ الدّين .
لكن ما هو هذا الدين الكوني الواحد الذي بشّر كانط بقدومه ، ورأى أنه سيوحّد الناس جميعاً عاجلاً أم آجلا. .؟!
و بماذا يختلف هذا الدين الجديد عن باقي الأديان الأخرى، والتي بلغ تعدادها حالياً ، بحسب بعض الإحصائيات أكثر من 4200 دينا أو مذهباً إيمانياً .. ؟! .
يستطيع كل من يقرأ كتاب " الدّين في حدود مجرد العقل " قراءة متأنية ، أن يستنتج إجابات واضحة نوعاً ما ، ويرى كيف ميّز هذا الفيلسوف الألماني صاحب المذهب النقدي في القرن 18 بين نوعين رئيسين من الدّين .
- النوع الأول : هو النوع السائد من الأديان الشائعة ، التي نقرأ لها أو نسمع عنها جميعاً.. وقد أطلق عليها أسماء عدة مثل : أديان الطقوس والشعائر ومظاهر العبادات أو الشعائر المختلفة ، والتي قد نقول نحن عن بعضها ذات مصدر سماوي ، و بعضها الآخر ذات مصدر أرضي أو وضعي ..
ثمَّ بيّن لنا كيف أن هذا النوع من الأديان ، يعتمد على الروحانيات الفياضة و حماسة العاطفة و الإنفعالات العمياء، والتصديق به يتمّ بلا أيّة أدلة عقلية أو برهان عقلي حقيقي ..
و شرح كيف أن ديمومته تتغذى على نسج الأساطير وتكرار إنتاج الأحداث الغرائبية ، و تكاثر التفاسير و إجتراح المعجزات في الصورة أو الكلمة أو الموقف ..
و سمّى "كانط " الايمان في هذا النوع من الدّين ، بإيمان العبيد أو إيمان السخرة ، لأن عُبّاده يكونون في الغالب ، حريصون على طلب الحسنات أو الأجر والثواب عن كل طاعة أوعبادة أو شكر .. ولهذا صحَّ تسميته بالدين التجاري الأناني، لأن المؤمن به حين يُنفذ تلك التعاليم ويقوم بالصلوات المطلوبة منه، إنما يفعل ذلك ، لينال جزاءاً وفاقاً ، او مثوبة أو نعيماً أو حور عين أو رضى أو ..الخ .
كما وإنه دينٌ قطعي دوغمائي ، متزمت في التأكيد على قطعية بعض أشكال العبادات وطرائق تنفيذها وإقامتها للأدعية والابتهالات والصلوات ..
يقوم عليه بعض الأشخاص المُصطفين ، ممن يُسمّون بـ " رجال الدّين " أو " الوعاظ "، الذين يتولون شؤون الناس والأكثرية المطيعة الخانعة بكل إخلاص وخضوع ، و يرسمون طرائق الإيمان الصحيح لهم، ويفسرون للعامة أركانه ويسهرون على تنفيذ عباداته ،
و يمارسون دورهم المُثابر في السيطرة على عقول الناس بسطوة ومهابة مؤثرة، معتمدين على بعض الأمور منها :
الموهبة في ترويج غموض الطقوس ، ورهبة الإيمان ، و سطوة اللغة ، وقدسية النص ...
لكن مع كل ذلك التوصيف ، فقد اعتقد " كانط " أن الأديان الطقوسية والشعائرية الشكلية ، كي يتقبلها الناس وتستمر ، لا بدَّ وأن يكون فيها شيئ ما من الفهم العقلي ، والفتات اليسير من القيم ، الذي تقدمهما لمُعتنقيها ، وبالطبع يستطيع فقط المُؤمن ذو الفهم الرصين أن يُدركهما فيها ويتبعهما دون تردد أو شك..
------------------------------------------------------------------------
(أيها الانسان إنّ منْ يُسمّى كافراً إنّما هو مؤمنٌ مُختلفٌ عنك فقط )
كانط
2 - أما النوع الثاني من الدين فقد رأه كانط في مجموع الأوجه العقلية المشتركة في كل الأديان ، و هو الجوهر الذي يسعى إليه ويُبشرنا بقدومه ..
وقد سمّاه دين المعنى والمحتوى أو" دين الإنسانية والعقل المحض " ..
ورجّح أنه سيكون ديناً عالمياً ، مُتخلصاً تماماً من كل اختلافات الطقوس وتناقضات النصوص وغرائب الشعائر و خلافات التأويل و .. الخ .
وقال أن دين العقل والجوهر الواحد ، سيكون هو الدين الوحيد الذي يليق بالبشرية .. وهو فقط ، من يستحق أن يسمى " الدين الإنساني الحر" ..
لأن الايمان فيه يكون إيماناً عقلياً حراً ، مؤسساً على محبة القلب النقي ، ومفعماً بالورع الخالص للخلق أجمعين ،
بالإضافة أنه لا يعني رفض النوع الأول ويقصد ( الأديان الطقسية والشعائرية الطقسية ) ، كما ولا يدعو إلى محاربة دينا بعينه أو قبول معتقداً بعينه ..
بل كل ما هنالك أن هذا الدين العقلي الجديد ، سيكون غير محتاج لأية طقوس محددة ، ولا إلى وسائط معينة ، كي يقتنع الآخرين بجدارته.
لأنه دين أخلاقي بإمتياز ، أو دين السيرة الحسنة، أو السلوك القويم والعمل الطيّب، و لأنه يقوم على مبدأ ، أن الانسان يتقرب من الله فقط بالأخلاق الحميدة وسلوكه الحسن مع الناس كافة ، دون انتظار أية مكافأة على ذلك السلوك ،
ولهذا فهو – أي دين العقل - لا يستعين بأية غيبيات أو خداع أو عنف أو إكراه ، كي يجعل الناس تؤمن به أو تتبعه ، وهو دينٌ حرٌ لا يحتاج لأية وسائل من خارج هذا العالم كالملائكة أو الوحي أو الرسل كي يتعرّف إليه الانسان العاقل أو إلى فضيلته.
- ولهذا اعتبره "كانط " ديناً يختلف عن كل أديان الملل والنحل في التاريخ ، فلا يقوم على تقديس بقعة معينة على سطح الأرض ، ولا على أية نصوص مقدسة ، أو طلاسم مغيّبة للوعي ، مغلقة في مبناها مفتوحة على اللانهاية في تفاسير لغوها و معناها ..بل على العكس تماماً ، فقد رأى كانط أن هذا التقديس للمكان والنصوص أو الشخوص، هو السبب الرئيس للحروب ، ونشر الكراهية والبغضاء بين أبناء الجنس الواحد من البشر ..
- ثمَّ وصف "كانط " هذا الدين الأخلاقي بأنه دين العلاقة الأخلاقية مع الله ، لأن الله بحسب كانط ، هو المصدر الأعلى للناموس الأخلاقي في الإنسان ، ولذلك فإن الدين العقلي هو الدين الذي يُمَكّنُ العقلَ وحده أن يُدرك جلاله، ويعي أهميته و فضائله ..
و هو الدين الذي يقوي في وجدان مؤمنيه ، أنه من دون العقل لا يمكن أن يكون هناك صلة حقيقية وأخلاقية مع الله ..
3- الآن ، بعد أن فصل لنا "كانط" صفات نوعا الدين، وشرح لنا بُشراه حول الدين الإنساني المأمول لديه ، بقي لنا أن نستخلص نحن بعض الملامح لجوهر الفكرة الذي أراد " كانط " ايصالها لنا من خلال تبيانه للدين الإنساني ، " دين العقل المحض" الذي دافع عنه و تمناه أن يسود وجدان الإنسانية جمعاء يوماً ما .
يمكن للقارئ أن يلاحظ عدة ملاحظات عقلية هامة - في اعتقادي - حول هذا الدين الجديد ، أراد لها " كانط " أن تصلنا بوضوح لكي نتمعّن بها :
1- أن علاقة الله بالبشر - برأي كانط - يجب أن تكون علاقة أخلاقية ، وليست علاقة نفعية تجارية ..
2- وأن دين العقل هو الدين الأخلاقي الصحيح ، لأن فيه يكون الانسان حر يؤمن بما يمليه عليه عقله ، لا يعتمد فيه على الكذب على نفسه أو النفاق أو التملق في ممارسة إيمانه ، ولا يُصيبه التغييب العقلي أثناء تنفيذ الطقوس الغامضة لهذا الطقس أو تلك الشعيرة ،
3- وأن حرية الإنسان في الإيمان بهذا الدين أو عدمه ستمكنه من أن ينجو من رهبة الطقوس ، وتهويمات النصوص ، وسطوة حرفيتها على تفكيره ، من خلال إعمال العقل وتفعيل مهارات التفكير النقدي ..
4- أن المؤمن العابد في هذا الدين الأخلاقي العقلي ، يجب أن يُدرك أن عبادته ليس هدفها التأثير على الله ، كما أن الداعي والمُصلي عليه أن يعي أن دعاءه لا يهدفُ إلى تغيير إرادة الله ، وحكمته في رعاية الوجود بل إلى تغييره هو ، و أن يعرف أيضاً بأن جوهر الصلاة إنما هي للتأثير على توجيه سلوك المصلي ومعاملته مع الناس وباقي الكائنات شركائه في نعمة الحياة ..
5- إن الدين الأخلاقي هو دين كوني ، وان كل الناس على اختلاف مشاربهم وألوانهم وأعراقهم هم شعب الله الواحد ..
6- أن هذا الدين الكوني لا يتم التعرف عليه من خلال حفنة من رجال الدين المنتفعين من ذوي المهارات الخطابية ، الذين يوهمون العوام دائماً أن رضى الله يمر من خلالهم ، و بأنهم ينبوع الصواب وأهل التقى وأصل الورع ، بل هو- بحسب تعبير كانط - ممارسة كونية موصولة إلى المقدس الإلهي بداخل كل انسان ..أو بعبارة أخرى : إنه عبادة الله من داخل العقل ..
7- تتم ممارسة هذا الدين العقلي الجديد ، بالتفكير والسلوك الخيّر وليس بالتنطّع وإشهار العبادات وممارسة طقوس وفرض شعائر محددة ، أو ترتيل نصوص وعبارات قديمة غامضة نفترق عن العلم شيئاً فشيئاً ، وغالباً لا يكون لها تفسير عقلي واحد وأحياناً ليس لها أية علاقة بالأخلاق ..
8- رفض "كانط " رفضاً قاطعاً فكرة التكفير ، وبيّنَ بطلان دعوى السلفية الاستبدادية المتوحشة في كل المعتقدات ، التي تطلق صفة الكافر على من سواها من اتباع المعتقدات الأخرى ، وأحياناً يكون التكفير بين أتباع المعتقد الواحد ، واعتبر إن من يسمى كافراً إنما هو في الحقيقة مؤمنٌ مختلفٌ عنا وحسب..
9- لم يدع "كانط" إلى إلغاء المعتقدات أو الدعوة إلى إماتتها، بل على العكس ، رأى خطورة جسيمة في فعل ذلك ، لما له من أثر كبير وسيء على استقرار الدولة والمجتمع..
10- وأضاف أنه لطالما طاعة قوانين الدولة هو أمر أخلاقي ، فهي من يجب عليها أن تتولى مسؤولية حماية الدّين ، وليس رجال الدين و القائمين عليه، أو أمزجة الافراد المؤمنين به ..
و لهذا رأى كانط أنّ حماية الدولة للدّين يجب تتم من خلال أمرين :
أولا : أن تحمي النص الديني المقدس من أن يتحول إلى جهاز استبدادي وسيف يسلط على عقول الناس ..
ثانياً : ان تحمي عقول الناس من استبداد النصوص المقدسة ومنحها فرصة الايمان الحر ..
قصارى القول : لقد أمن كانط بالدين الواحد للإنسانية ودعا إلى دين أممي ..
حين قال : انه قد آن الأوان لبزوغ هذا الدين الحر ، وان الوقت قد حان لأن يفهم الانسان بأن دين الحق ليس سوى فكرة " الإنسانية " التي يرضى عنها الله بكل تأكيد .. ..
وأخيراً ، يبقى السؤال قائماً : كيف يا ترى سيمكن للإنسانية الحاضرة ، الخروج من دائرة كل هذه الاختلافات الدينية والصراعات المذهبية ، و كيف لها أن تتجنب لعنات الكراهية المتبادلة والمستترة أحياناً بين الأفهام الدينية الشعائرية ، والإسراء بها إلى التوحد في كنف ذاك الدين الإنساني الأرقى ، " دين العقل المحض "، والجوهر الذي يخص ويليق بكل الشعوب .. ؟!..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة تنويرية بحق
منير كريم ( 2020 / 2 / 17 - 20:27 )
تحية للاستاذ الكاتب
ايمانوئيل كانت من ابرز رواد التنوير
اود ان اضيف اسمين اخرين لهما علاقة وثيقة بموضوع المقالة الدين العقلي
Thomas Paine(1737-1809) - The age of reason
David Hume (1711-1776)
شكرا جزيلا

اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق