الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رَذاذ

محمد يعقوب الهنداوي

2020 / 2 / 19
الادب والفن


يا أيّها المسافرُ العتيقُ
في سفائنِ الضجرْ
قد سافرَ المكانْ
وأنتَ في خرائبِ الزمانِ
في خرائبِ الزمانِ ما تزالْ
تحلمُ بالنساءِ والسفرْ
عقاربُ الزمانِ
اذْ تدورُ في مكانِها
تفرُّ من عناكبِ المكان
وأنتَ في شباكِها
تطاولتْ عليكَ أذرعُ الخدرْ

* * *

صحوتُ هذا الصباح مثقل الرأس ببقايا التبغ وطعم العلقم في فمي وأشياء كثيرة لم أنجزها أمس وقد لا أستطيع أن أنجزها اليوم أيضا (كدت أقول لا أنجزها أبدا ثم سخرت من سخافتي).

كيف أواصل يومي وماذا سأقدم للحياة من مجموع ساعات هذا اليوم؟

أتلفت في المدرسة ما نسميه الطفولة والصبا وشرخ الشباب، وقرأت ملايين الصفحات في كل شيء وعن كل شيء وصلته يداي وأعجبت بالكثير وأحببت الكثير وكتبت الكثير ومزقت الكثير.

لكن نكهة الطبيعة الطرية والصدق العاري في نبرة هذه المرأة تأخذني الى مشاعر لم أستذكرها منذ سنين بعيدة.

كنا عصبة من طلاب البكالوريا نسهر في الحديقة العامة الصغيرة وسط ساحة الخلاني قبل أن يخربها بهائم الدين ويضعوا بدلا عنها مسجدا رمزيا صغيرا، وكأن المسجد الكبير على بعد عشرين مترا لا يكفيهم دلالةً على وجود الله الذي ما عرفته قلوبهم يوما.

كانت نيتنا المعلنة من لقائنا اليومي ذاك هو أن نراجع كتبنا المدرسية ونتبادل المعلومات ونساعد بعضنا على حل الأسئلة الصعبة وتوقع ما سيأتي في الامتحانات المنتظرة.

لكن ما ان تمرّ نصف ساعة على انكفائنا على الكتب حتى يبادر أحدنا الى رفع عقيرته بالغناء بصوت لا موهبة فيه لكنه عابق بالحيوية والشباب والحلم الذي لا يخيب لأنه يبعد آلاف السنوات الضوئية دائما.

ويضحك الآخرون ويقذفون كتبهم عاليا في الهواء ويضمون أصواتهم النشاز اليه ويصيح أحدهم:

"متى ننتهي من هذه الدراسة السخيفة ونذهب الى باريس لنعيش حياتنا؟"

باريس التي كنا نحلم بها كانت باريس بول إيلوار ولويس آراغون وماياكوفسكي وكامو وإلزا تريوليه...

كانت باريس التي عاش فيها هيمنغواي بعضا من أجمل سني حياته وكتب عنها فيكتور هوغو بعض أجمل ما أنتجته الإنسانية من أدب.

باريس التي احتضنت أوسكار وايلد وبيكاسو وفان كوخ وشهدت ذبح دانتون وسان جوست...

باريس العمال والكومونة...

باريس التي أسقطت الباستيل وهزمت نابليون بونابرت وأخرجت لسانها لبونابرت الثالث حفيده الأحمق الذي كان يليق به أن يكون واحدا من حكامنا اذ امتلك كل مواهبهم تقريبا سوى أنه كان يقرأ قليلا من حين لآخر ولم يفرض يوما على أحد أن يكتب رواية يـُـعدم بعد إتمام تأليفها لتخرج الى الأسواق باسم القائد العبقري الذي حاز كل شهادات الدكتوراه الفخرية والمجدية والحمزية والسعدية والبلدية حتى أضاف اليها الجنرال فرانكو وسام ماريا الكبرى استحقاقا لوراثة الماركيز دي صاد.

باريس التي حلمنا بها لم يكن فيها دور أزياء وعطور ومواخير وممثلات بل متاريس يقف على رأسها العظيم دانتون وروبسبير وسان جوست ووراءهم يتصايح بؤساء فكتور هوغو وعلى الجانب الآخر مدافع بسمارك وجنود تيير.

باريس تلك كانت تستنشق عبق السين في الفجر ونساء اليعاقبة يتسلين بحياكة الجوارب ورتق القمصان المهترئة ولا يخطئن أبدا في غمرة ثرثرتهن في عدّ الرؤوس التي تدحرجت تحت حدّ المقصلة وهي تنهي عصرا وتعلن بدء آخر.
كنا نعرف باريس شبرا شبرا دون أن نراها.

وكنا نغني لها ونحلم بالتسكع فيها والتشرد في شوارعها مستذكرين أميل زولا وشخوصه وبيوت الصفيح وحقد الجوع على الاسراف الأهوج.

بعد ساعات من تبادل الآراء والأفكار وما سمعناه عن باريس منذ ليلة البارحة كنا نخلع القمصان والفانلات والأحذية والجواريب ونجمعها في كومة واحدة نخفيها تحت بعض أدغال الحديقة وأعشابها التي لم يعتن أحد بتنظيمها منذ أيام الثورة البيضاء ونسير حفاة ونحن نغني في قلب الليل.
هي رحلة الحجّ الليلية الى ضفاف دجلة.

لم نكن بعيدين كثيرا...

وبعد أقل من خمس دقائق نكون على بعد شارعين أو ثلاثة من ضفة النهر التي لن تخطئها الحواس. فمن على بعد مئات الأمتار كنا نشمّ عبق الماء ونشيش السمك يتلاعب فيه ويتقافز آمناً في هدأة الليل وبين فخاخ الشباك اللئيمة.

حين نبلغ جرف النهر كنا نقفز بسراويلنا وما فيها (وماذا كان فيها مما يستحق الحرص!) ونسبح في صلاة خاصة هي خليط من صلاة الموت وصلاة الوداع الحسرة.

كنا نبكي الفقد ونحن في قلب النهر اذ كان يبدو جليا لنا في اشراق الصدق والمحبة أننا على أبواب الفراق.

فراق قد لا نعود بعده أبدا ولن يتاح لنا أن نشم عبق هذا النهر بعد اليوم لذا كنا نسعى الى احتضانه واختزانه في ذواتنا.

كنا نشعر أننا في قلب الطِيب الممدد على طاولة الذبح وأن علينا أن نأخذ منه كل ما نستطيع لنقتات عليه يوم يحاصرنا القبح من جميع الجهات وأن نعيد زرعه أينما ذهبنا عساه ينبت جمالا جديدا.

في الصباح، كنا نصمت بقلوب واجفة ونحن نرقب انبلاج الفجر ثم احتراق ندف الغيم في أول خيوط الشمس وهي تصعد حمراء شيئا فشيئا فتبدو الغمائم صورة من تنور الطفولة الذي تحلقنا حوله صغارا ونحن ننتظر أمي تخطف من فم النار بأناملها العارية الرغيف الأول طريا عابقا حارا كالحب وترميه في أحضاننا.

في صباحات الأسى التي لا تنتهي بعد ذاك الفراق الذي اندس جرحا في العروق، لم يعد ثمة ما يغنينا عن لمسة الماء الأجاج يحتضن أجسادنا الصبيانية الراجفة في أحضان برد الليل الرؤوم ورذاذ الرذاذ يتطاير من أطرافنا ونحن نتقافز لنبعث فينا بعض الدفء.

* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج