الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مهرجانات مصر وأزمة العشوائيات

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 2 / 22
العولمة وتطورات العالم المعاصر


بالنسبة لأغاني المهرجانات في مصر وقرار نقابة الموسيقيين الأخير بمنعها،أتذكر وأنا طفل في الإعدادي كنت أدرس في قرية بجوارنا اسمها " محلة زياد" لعدم وجود مدرسة إعدادي في قريتنا، ثم جلست على جانب الطريق أنا وأصحابي ..وفجأة ظهر شخص (بلطجي) ومعاه عصابته قاموا بتثبيتنا جميعا (والتثبيت في اللغة المصرية يعني السطو المسلح أو السرقة الإجبارية)

هذا الشخص فوجئت بعدها أنه مطرب أفراح إسمه "ياسر شلاطة" برفقة عصابته في معظم حفلاته، ظلت صورة شلاطة لا تفارقني خصوصا بعد نزول شرائط كاسيت له في التسعينات وهو يغني بنظام المهرجانات الشائع في هذه الأيام..

شيئا فشيئا تحول شلاطة من بلطجي يسطو على الناس بالسلاح إلى رمز يفتخر بيه منتسبي هذه القرية التي أحبها ولي أًصدقاء منها بالعشرات، وبعد سطوع نجم شلاطة وتحوله لرمز فني لشباب القرية ترك البلطجة تماما حسب علمي، وعندما أسأل عنه أجده يعمل هنا أو هناك ولم يعد لممارسة هوايته في السرقة..

تفسير ما حدث أن مساحة الظهور الفني لشلاطة أعطته مسئوليات يصبح مجبرا أن يلتزم معايير الفضيلة والأخلاق، وهذا لم يكن متاحا وقتما كان بلطجي مغمور ولا يعرف فقط سوى لضحاياه، ولو تأملتم في نموذج "صبري نخنوخ" فهو يؤكد هذه النظرية الاجتماعية، أن الإنسان يتطور حسب المساحة التي يعمل من خلالها، فالمدير الذي يضطر للتعامل مع الأغنياء والأعيان يكتسب تلقائيا أخلاق ومعاملات أفضل خشية نفوذ هؤلاء عليه..خلافا للعامل الذي ينشط في مساحة كلها أميين وجهلة محدودي القدرات فلا يخاف من نتائج أفعاله..

صبري نخنوج بلطجي لكن مساحة ظهوره إعلاميا أكسبته أخلاق ومعاملات يظهر منها (رجل شهم يساعد الناس..وهكذا) وربما يصدم البعض أن كثير من المشاهير والفنانين أصدقاء نخنوخ شايفينه بهذه الصورة فعلا (رجل شهم وخدوم) بينما لو ظل مغمورا على حالته الأولى فهو (بلطجي يفرض الإتاوه على الضعفاء)

مطربي المهرجانات جميعا من هذه الفئة، شباب أساسه بلطجي وكثير المشاكل وأصحاب شخصيات قيادية أو أبناء أعيان المناطق الشعبية، ظهروا بنوع معين من الفن حاز على قبول ورضا محيطه الاجتماعي، فظهروا أولا من خلال حفلات الكادحين والفقراء بالمناطق الشعبية، ومن خلال تلك المساحة الكبيرة (ارتقوا أخلاقيا) بحيث تركوا أصولهم البلطجية وتطوروا (في مساحة أكبر) ليستقبلهم المجتمع ككل بصورتهم الحالية (مجرد بلطجية لكن سمعتهم جيدة وفنهم مقبول شعبيا)

من حيث الفن فلا يجوز تقييم أعمالهم إلا من خلال الفن نفسه، أي من حيث الكلمات والصوت واللحن..إلخ، وأظن أن معظمهم في ذلك المسار مقبولين كفنانين، أصواتهم جيدة فعلا وطبقاتهم الصوتية تقبل القرار والجواب ، وبعضهم له عذوبة في صوته..لكن من حيث الكلمات فهي مستوحاه من ثقافة الحي الشعبي والعشوائي بكل مشاكله سواء من البلطجة وفردة السلاح أو التحرش وعدم النظافة وزنا المحارم..وخلافه، أصبح بالتالي تقييم العمل على أساس الكلمة يلزمه ذكر كل ما سبق في سياق الإنكار وعلاجه..ومن هذا المدخل ينشط معارضي المهرجانات أنها مجرد فنون مبتذلة تدعو لكل شئ قبيح..

أما من ناحية تعريف الفن والأدب على أنها اتجاهات فقط (للتعبير عن النفس) يصبح إنكار البذئ في المهرجانات غير مشروط، لأن التعبير الفني لا يلزمه الرسالة، ومن هذا المدخل ينشط مؤيدي المهرجان كفن شعبي تعبيري موجود في كل الدول المتحضرة ولا يجوز منعه أو السطو عليه وإقصائه، وأبسط مثال على ذلك أن تقارن مثلا بين أغاني (سيلين ديون ونيكي ميناج) هذا فن متحضر بمقاييسنا والآخر مبتذل وردئ..لكن الإثنين موجودين وشغالين ضمن مساحة مؤيديهم، والتفاعل معهم وفقا للذوق العام الذي يقبل هذا وذاك..

وأرى أن كلمة الذوق العام نفسها بحاجة لتعريف، لأن الواقع لا يشهد بوجود ذوق فني واحد، بل هي (أذواق) ومثلما يوجد مؤيدين لطرب "حسن شاكوش" يوجد مؤيدين لطرب "ياسمين علي" ، مثلما يوجد محبين "لعمرو دياب" يوجد محبين "لحمّو بيكا" ومن هذا السياق أصبح منع المطربين والحجر عليهم هو وصاية على الذوق الفني من أساسه وإجباره على الاستماع لمن يكرهه أو يراه نشازا..!..وبالتالي أصبح قرار نقابة الموسيقيين في هذا الجانب "سطو علني" على أذواق الناس بسلطة الدولة..ورد الفعل الطبيعي سيكون تفاعل أكثر مع الممنوع وشعبية أكبر لشاكوش وبيكا وشطة وفرقتهم..

لو كنا نريد تحسين الفن فيجب أن تقبل النقد الصادق والقاسي للفن الحالي عموما، شعبية المهرجانات من تفاعلها مع مشاكل المجتمع والفقر والمخدرات وخلافه، بينما فنون مصر حاليا متفرغة إما للتطبيل والتهليل للمسئولين والأعيان..أو لشيطنة وتشويه آخرين..والباقي أعمال دينية فيها ترويج لثوابت الإسلاميين في الحجاب وتعدد الزوجات وخلافه..وهذه الأشياء لا تشغل بال العوام أصلا...العامي والكادح يرى تعدد الزوجات شريعة لكنه لا يطبقه ونادرا ما يعدد المصريين أو تمر الأمور بسلام..

مسلسل الأسطورة لمحمد رمضان لمع كأشهر مسلسلات مصر مشاهدة لأنه تفاعل مع مشكلات العوام كالفقر والبلطجة واستغلال الأعيان، بالضبط كما أن مسلسل رأفت الهجان قديما لمع لأنه تفاعل مع ثقافة الشعب القومية وكراهيته لإسرائيل في عز انتفاضة فلسطين وحرب لبنان في الثمانينات، وينطبق نفس الشئ على أفلام "رد قلبي والزوجة الثانية" لتفاعلهم مع مشاكل المجتمع الطبقية واستغلال الأعيان للفقراء..جميعها أعمال أخدت شعبية في وقتها ويستحيل رفضها إلا بتعريف سياقها، بالتالي يخطئ عقليا من يحاكم فيلم "رد قلبي" بمقاييس في عصر ما بعد الأيدلوجيات الذي نعيشه لأن رد قلبي هو (نقد لطبقية ما قبل عصر القومية) أصلا..وبالتالي هو كان يمثل ثورة فنية وقتها أخدت مساحتها الشعبية لعدة عقود.

كذلك الآن: لا يجوز منع أغاني المهرجانات إلا بتوفير بدائل متفاعلة مع قضايا الناس وتعقد المؤتمرات والخطط لعلاجها، وأن لا يتم احتقار مطربي المهرجات لأنهم ممثلين لطبقات كادحة وحالة مزاجية شبابية، وعليه فهذا الاحتقار والمنع سيوجه بشكل طبقي ويراه الآخرون بشكل طبقي..هاني شاكر نفسه ممثل لطبقة برجوازية غنية في نظر فقراء العشوائيات، وقرار المنع سيعد استغلالا للضعفاء يعيد للذاكرة قصة منع الفقراء من التعليم والوظائف في عصر الملكية..

أما من حيث المعايير الفنية لأغاني المهرجان فأتمنى يكون لها سوق خاص بعيد عن تقييمها كطرب شرقي، لأن مفهوم الطرب الشرقي الذي نعرفه ظل في الدرجة الثانية عند الناس بعد محمد طه وسيد أبو دراع وخضرة محمد خضر وأحمد عدوية مرورا بحسن الأسمر ورمضان البرنس..وأخيرا بيكا وشطة وشاكوش..ولمن ينظر لهذا التطور على أنه للأسوأ فهو يعترف ضمنيا بانحدار المجتمع للأسوأ وتردي الذوق الفني والحالة المزاجية مما يستدعي خطط حقيقية للمنافسة..مش للمنع، فمهما حجبنا الفن الآخر والأذواق الأخرى ستجد منصاتها للوصول إلى الناس..خصوصا في عصر اليوتيوب والساوند كلاود اللذان يسيطران تقريبا على سوق الغناء..وينتهي بالتدريج عصر سيادة التلفزيون والدش..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكر
خارق للطبيعة ( 2023 / 4 / 11 - 14:40 )
كلام نسبيا سليم .. واحييك على نظرتك الحيادية للموضوع

اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال