الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي عبد الرازق ورحلة الشك المتعبة التي إنتهت بالإخفاق الكامل

فارس إيغو

2020 / 2 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن رحلة الشك في ثقافتنا العربية المعاصرة والحديثة قادت بعض المفكرين الى متاعب لا يمكن تصورها، وتحملها بسهولة، على أشخاصهم وعلى أسرهم والمحيطين بهم. لقد كان على الشيخ الأزهري الورع علي عبد الرازق الذي شك في "شرعية" الخلافة في الإسلام، أن يقوم برحلة فكرية طويلة ليتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في قصة الخلافة الإسلامية التي لم تجد حلاً فقهياً لها الى يومنا هذا. يشرح علي عبد الرازق في بداية رحلة الشك المريرة هذه في مقدمة كتابه الإسلام وأصول الحكم بداياتها، يقول:
((وليت القضاء بمحاكم مصر الشرعية، منذ ثلاث وثلاثين وثلاثمئة وألف هجرية (1915م) فحفزني ذلك الى البحث عن تاريخ القضاء الشرعي. والقضاء بجميع أنواعه فرع من فروع الحكومة، وتاريخه يتصل بتاريخها اتصالاً كبيراً، وكذلك القضاء الشرعي ركن من أركان الحكومة الإسلامية، وشعبة من شعبها، فلا بد حينئذٍ لمن يدرس تاريخ ذلك القضاء أن يبدأ بدراسة ركنه الأول، أعني الحكومة في الإسلام.... وأساس كل حكم في الإسلام هو الخلافة والإمامة العظمى ـ على ما يقولون ـ فكان لا بد من بحثها)) (1).
ثم يضيف في مقطع أخير من مقدمته قائلاً:
((أما بعد فإن تلك الورقات هي ثمرة عمل بذلت له أقصى ما أملك من جهد وأنفقت فيه سنين كثيرة العدّد. كانت سنين متواصلة الشدائد، متعاقبة الشواغل، مشوبة بأنواع الهم، مترعة كأسها بالألم. أستطيع العمل فيها يوماً ثم تصرفني الحوادث أياماً، وأعود اليه شهراً ثم أنقطع أعوماً، فلا غرو أن جاء عملاً دون ما أردت له من كمال، وما ينبغي له من اتقان، بيد أنه على كل حال هو أقصى ما وصل اليه بحثي، وغاية ما وسعت نفسي)) (2).
فإنطلق الشيخ الازهري الورع يستطلع التاريخ الإسلامي والنصوص الى أن اكتشف أخيراً فراغ الفكرة، وأن لا حقائق وحجج تدعمها، سواء في النصوص (القرآن والحديث)، ولا في التاريخ العربي الإسلامي. فوضع الرجل جهد سنوات عدّة بذلها في مُسائلة النصوص في كتابه الشهير، والذي أنهاه بالمقطع التالي المُزلزل ليقينيات المؤسسة الدينية الرسمية وللسلطة السياسية الممثلة بالملك فؤاد الذي كان يتنافس مع الأمير عبد العزيز آل سعود على منصب الخليفة القادم بعد إنهاء الزعيم أتاتورك للخلافة العثمانية، يقول عبد الرازق:
((الحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. والخلافة ليست من الخطط الدينية، ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم، ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفه، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها الى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.
لا شيئ في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، أن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم)) (3).
بالطبع، الكل يعرف ماذا جرى للرجل بعد نشره للكتاب. فجأةً أصبح عبد الرازق منبوذا ومطارداً من قبل جماعته الازهرية، وقد حوكم وأُنزل فيه أشد حكماً يصدر بإنسان شكك في الأفكار التي تلقاها عن طريق النقل، فطرد من وظيفته في الازهر، ومنع من ممارسة القضاء، ووصل الأمر بالمفتي محمد بخيت بتكفيره وحتى رفض توبته إن تاب: ((لكن المؤلف قصد أن يعيب الرسول وينتقصه بما هو براء منه فتقوّل عليه وعلى شرعه وحكمه وافترى هذه الأقاويل التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكان بذلك كافراً وأكثر الحنفيّة على عدم قبول توبته في حق إقامة الحدّ عليه إن تاب)) (4). وقبع الرجل سنوات في منزله في قريته، الى أن قرّر يوماً مراجعة مراجعاته، فتراجع عن آراؤه كلها منضوياً من جديد الى حضن الجماعة التي قبلت توبته، فأعيد تأهيله ليعتلي فيما بعد أعلى المناصب الدينية في مصر قبل أن يتوفّاه الله عام 1966.
وقبل أن يغادر هذه الفانية بستة أشهر عملوا معه حوار، وفي أثناء الحوار قال له الصحافي أن هناك دار نشر تريد نشر كتابك، فانقبض علي عبد الرازق وانزعج كثيراً، وقال: سأرفع قضية على دار النشر إن فعلت، ممنوع، هذا الكتاب نسيته تماماً. مما يشير الى الصدمة الكبيرة التي عاناها المؤلف جراء المحاكمة والمطاردة والغبن العظيم والتكفير الذي واجهه بعد صدور الكتاب.
هذا التراجع والإقرار بالهزيمة من جانب التيار التنويري شهدناه مؤخراً في المؤتمر الدولي للتجديد الديني الذي عَقَده الأزهر في القاهرة يومي 27 ـ 28 يناير، حيث كان رد رئيس جامعة القاهرة على الهجوم المباشر من طرف شيخ الأزهر الذي دافع عن التراث والأشاعرة، رداً إنسحابياً وإنهزاميا، عندما ردّد مرتين ((لقد أسيئ فهمي))، بدلاً من تسجيل موقف قوي والانسحاب مباشرة من المؤتمر. وألم يكن بالأحرى على شيخ الأزهر ـ والذي يُنظّم المؤتمر في بيته وبين رجاله الذين أقاموا حفلة تصفيق لشيخهم الأكبر سماها أحد المدونين على الفايس بوك بأنها ((جهاد التصفيق)) ـ أن يستمع الى كل الآراء النقدية ـ على قلتها في هذا المؤتمر ـ ويترفع نظراً لمنصبه الرفيع والشهادات الفلسفية العالية التي يملكها عن الرد بهذه الطريقة المباشرة على رئيس جامعة القاهرة المختص بالفلسفة الدينية وله العديد من الكتب والدراسات في هذا المجال.
وربما، أن رحلة الشك والمُسائلة يلزمها الكثير من الشجاعة والصبر على المحن، وبأن ليس كل البشر قادرين على مكابدة هذه المغامرة الشاقة، لذلك فإن الكثيرين منهم، لا بل غالبيتهم، يفضلون الإنضواء الى حضن الجماعة المهيمنة الدافئ والمريح، فهذه المغامرة المتفردة ليست مهيئة إلا للأشخاص الذين حازوا على الحرية العميقة، هذه الحرية التي لا تستطيع إقتلاعها القوة الخارجية للاستبداد الديني والسياسي.
(1) علي عبد الرازق ((الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام))، دراسة ووثائق بقلم د. محمد عمارة (منشورات الطبعة العربية الجديدة، 2000)، ص:111.
ولقد صدر الكتاب لأول مرة في أبريل/نيسان عام 1925.
(2) نفس المصدر، ص:112.
(3) نفس المصدر، ص: 182.
(4) د. محمَّد الحَدّاد ((حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العَربي)) (دار الطليعة، بيروت 2002)، ص: 62، نقلاً عن كتاب مفتي الديار المصرية محمد بخيت ((حقيقة الإسلام وأصول الحكم))، القاهرة، المطبعة السلفية، 1344 هـ، ص: 269.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - (لقد أسيئ فهمي)
علاء احمد زكي ( 2020 / 2 / 23 - 00:40 )
(لقد أسيئ فهمي)
اخيرا كالها
كما تنازل وكالها قبله توفيق الحكيم وطه حسين وغيرهما
امام سطوة المتدين وتزمته واستبداده، والنتيجة استمرار البلادة المقدسة

تحياتي


2 - الشخص أم الفكرة
محمد البدري ( 2020 / 3 / 8 - 15:54 )
ايهما الذي انهزم، الشخص أم الفكرة؟
المقال مهموم بالشخص المسمي علي عبد الرازق بينما الفكرة لم تنهزم لان الخلافة الاسلامية ليست سوي سطوه قطاع طرق من عرب البداوة علي كل المناطق الحضارية ولانهم لا يملكون بقرآنهم الذي هدد به الازهر الشيخ علي ورفعه الدهماء والسوقة ضده باعتباره ملحدا ليست سوي فكرة مضللة اخرت الشرق الاوسط بكامله قرونا طويلة عن التقدم. الان لا يرفع نظام الخلافة الا داعش، فيالها من هزيمة كاذبة نسبت الي الشيخ المبدع الخلاق علي عبد الرازق.
تحياتي

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س