الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تبرير النسخ عند المفسرين المسلمين

سامي الذيب
(Sami Aldeeb)

2020 / 2 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قلنا في مقالات سابقة أن كل نظام قانوني، إن كان ديني أو غير ديني، يعرف مفهوم النسخ. وسوف نرى كيف ان هذا المفهوم قد أحدث تشنجًا لدى بعض المسيحيين الذين ينكرون حدوث نسخ في الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، لأن الله لا يمكن له ان يغير رأيه أو يناقض نفسه. ولكن برجوعنا إلى قرابة سبعين مفسرًا قديمًا وحديثًا نرى أنهم لا يرون أي غضاضة في النسخ، لا بل وجدوا له تبريرًا من داخل القرآن ذاته. هذا ما سنراه في هذا الفصل.

النسخ ومرادفاته في القرآن
-----------------
جاءت كلمة نسخ في العهد القديم باللغة العبرية بمعنى الإزالة في أربع آيات:
كما أَنَّ الرَّبَّ كانَ يُسَرَّ إِذا أَحَسَنَ إِلَيكم وكثَّرَكم، أَنَّه يُسَرَّ أَيضًا إِذا أَهلَكَكم وأَبادَكم، فتُقتَلَعونَ (וְנִסַּחְתֶּם֙) مِن على الأَرضِ الَّتي أَنتَ داخِل إِليها لِتَرِثَها (تثنية 28: 63).
أَمَّا الأَشْرارُ فيُستَأصَلونَ مِنَ الأَرْض والغادِرونَ يُقتَلعونَ (יִסְּח֥וּ) مِنها (الأمثال 2: 22).
الرَّبّ يُدَمّر (יִסַּ֥ח׀) بَيتَ المُتَكَبِّرين ويَنصِبُ مَعالِمَ الأَرمَلَة (الأمثال 15: 25).
لِذا فاللّهُ للأبِدِ يُدَمّركَ يَقْبِضُ علَيكَ ومِنَ الخَيمة يَقتَلِعُكَ (וְיִסָּחֲךָ֣) ومِن أَرضِ الأحْياءَ يَستأصِلُكَ (مزامير 52: 7).
جاءت كلمة نسخ أربع مرات في القرآن، مرتين في آيتين مكيتين بمعنى الإستنساخ:
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا (بمعنى: ما نسخ فيها، أي كتب) هُدًى وَرَحْمَة لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (م39-7: 154)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ (بمعنى: نأمر الحفظة بنسخه وكتابته) مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (م65-45: 29)
ومرتين في آيتين مدنيتين بمعنى أبطل، ورفع شيئًا وأثبت شيئًا آخر مكانه، وإزال شيئًا بشيء يتعقبه
واستعمل القرآن فعل بدَّل ومحى أنسى وأذهب كمرادف لفعل نسخ.

تفسير آيات النسخ ومرادفاته
-------------------
اعتمد المفسرون عبر العصور على الآيات السابقة لتبرير النسخ في القرآن، وقد كرس بعضهم لها أكثر من 20 صفحة. وسوف نعرض في هذا الفصل مجملًا لآرائهم، آية بآية

----
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (م8-87: 6-7)
يقول مقاتل بن سليمان أن الله جمع القرآن في قلب محمد بحيث لا ينسى منه إلا ما شاء الله نسخه ليأتي بأفضل منه.
ويقول الطبري: هذا إخبار من الله نبيه أنه يعلمه هذا القرآن، ويحفظه عليه، ونهي منه أن يعجل بقراءته، كما قال جلّ ثناؤه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بهِ إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ (75: 16-17). فكان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى. معنى الاستثناء: فلا تنسى، إلاَّ ما شاء الله أن تنساه، ولا تذكُرَه. ذلك هو ما نسخه الله من القرآن، فرفع حكمه وتلاوته.
ويقول السمرقندي: يقال إن جبريل عليه السلام كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله - ويبين له ما نسخ فذلك قوله إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ يعني: إلا ما شاء الله أن يرفعه وينسخه ويذهب من قلبك.

----
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَة مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (م50-17: 86-87)
يذكر السمرقندي: عن أبي هريرة أنه قال: سيؤتى على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا تصبح على الأرض آية من القرآن وينزع من قلوب الرجال فيصبحون ولا يدرون ما هو.
ويذكر الزمخشري عن ابن مسعود: إن هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء. فقال رجل كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب.

----
وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَة مَكَانَ آَيَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (م70-16: 101)
يقول مقاتل بن سليمان أن محمدًا اتهم بأنه مفتري لأنه يبدل الآيات من محض إرادته. ويرد الله عليهم بأنه هو، أي الله، الذي يبدل الآيات فينسخ آية فيها شدة ليأتي بألين منها.
البيضاوي: وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة مَّكَانَ ءايَة بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظاً أو حكماً. وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه.

----
مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (هـ87-2: 106)
يقول مقاتل بن سليمان أن محمدًا اتهم بأنه تقول القرآن، فرد الله عليهم بأنه، أي الله، قادر على نسخ آية ليأتي بأفضل منها وانفع، أو مثلها، أو أن ينسيها. وقد فسر فعل نُنْسِهَا بمعنى "نتركها كما هى، فلا ننسخها".
ويقول همام الصنعاني كان الله يُنسي نبيه ما شاء وينسخ ما شاء.
يقول القرطبي: معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء لما يترتّب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البَخْتَرِيّ قال: دخل عليّ المسجد فإذا رجل يخوّف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يُذكّر الناس فقال: ليس برجل يذكّر الناس! لكنه يقول أنا فلان ٱبن فلان فٱعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ٰ فقال: لا قال: فٱخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه. وفي رواية أُخرى: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا قال: هلكتَ وأهلكت

----
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (هـ96-13: 39)
يقول مقاتل بن سليمان أن عند الله أم الكتاب الذي يتضمن ما يشاء الله أن ينسخه أو لا ينسخه.
ويقول الزمخشري: والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات فلكل وقت حكم يكتب على العباد، أي يفرض عليهم على ما يقتضيه استصلاحهم يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَاء ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ

----
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَة لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَة قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (هـ103-22: 52-53).
يشير المفسرون إلى رواية مفادها أن الرسول كان حَريصاً على إيْمان قومهِ، وتَمنَّى في نفسهِ مِن الله أن يأتيه ما يقاربُ بينه وبين قومهِ، فجلسَ ذات مرَّة بهم في مجلسٍ كثيرٌ أهلهُ، وأحبَّ يومئذ أن يأتيه من اللهِ شيءٌ فقرأ عليهم سُورة النَّجْمِ، فلما بَلَغَ
أَفَرأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاة ٱلثَّالِثَة ٱلأُخْرَىٰ [النجم: 19-20]
ألقَى الشيطانُ على لسانهِ:
تلك الغرانيقُ العلى وأن شفاعتهن لترتجى
أو
تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن تُرْتَضى
فلما سَمعت قريشُ ذلك فرِحُوا وقالوا: قد ذكرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتنا بأحسنِ الذكر، ومضَى النبيُّ في قراءتهِ، فلما خَتَمَ السورة سَجَدَ في آخرِها وسجدَ معه المسلمون والمشركون. فَنَزَلَ جبريلُ على النبيِّ فقال لهُ: يا مُحَمَّدُ لقد تَلَوْتَ قومَكَ ما لَم آتِكَ بهِ عن الله عَزَّ وَجَلَّ، فاشتدَّ ذلك على النبيِّ وحَزِنَ حُزناً شديداً وخافَ من اللهِ خوفاً كثيراً فأنزلَ الله هاتين الآيتني تُطيِّبُ نفسَ مُحَمَّدٍ:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَة لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَة قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (هـ103-22: 52-53).
وتم استبدال الآيتين الشيطانيتين بما يلي
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ * أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المقال بالصوت والصورة
سامي الذيب ( 2020 / 2 / 25 - 23:04 )
المقال بالصوت والصورة https://youtu.be/4KGk8z_mwiI

اخر الافلام

.. بحجة الأعياد اليهودية.. الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي لمدة


.. المسلمون في بنغلاديش يصلون صلاة الاستسقاء طلبا للمطر




.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري


.. رحيل الأب الروحي لأسامة بن لادن وزعيم إخوان اليمن عبد المجيد




.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ