الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في السياسة البريطانية عشية الخروج(4/1)

منذر علي

2020 / 2 / 27
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


منذ أنْ تم استفتاء، Referendum، الشعب البريطاني في يونيو 2016، بشأن الخروج، Brexit، من الاتحاد الأوربي، ونجاح التصويت على الخروج بنسبة 51.9% ، وما أسفر عنه من تداعيات ، منها استقالة رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كامرون ، David Cameron ، وتولي السيدة تريزا ماي، Theresa May ، قيادة حزب الأغلبية و رئاسة الوزراء ، عصفت الانقسامات بحزب المحافظين الحاكم وأشتد الصراع بين المؤيدين والمعارضين للخروج. كما تضاعفت الضغوطات السياسية على حزب المحافظين المتهالك، من قبل حزب العمال تحت قيادة جيرمي كوربين، الذي كان قد خلَّف، إيد ماليباند، Ed Miliband، في قيادة الحزب في سبتمبر 2015.
ولقد مرت الحياة السياسية البريطانية، منذ ذلك الحين، بقدر كبير من الاضطراب، جَرَّاء الموقف من الاتحاد الأوربي، وسياسة التقشف التي تبنتها حكومة تحالف المحافظين والأحرار، رداً على الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالمجتمع الرأسمالي. وحينما برزت مؤشرات قوية على تنامي مكانة حزب العمال المعارض لحزب المحافظين الحاكم ، تحت زعامة القائد اليساري جيرمي كوربين، Jeremy Corbyn ، وخاصة عقب الانتخابات العامة في يونيو 2017 ، أصيبت القوى اليمنية البريطانية بالرعب ، وكان عليها أنْ تبحثَ عن شخصية قيادية جديدة لحزب المحافظين، تكون قادرة على توحيد الحزب اليميني ، و تنفيذ الخروج . والأهم من ذلك قادرة على إيقاف الصعود المتنامي للقوى اليسارية البريطانية، التي من شأن نجاحها في السيطرة على السلطة أنْ يحدث تغيرات راديكالية في التركيبة الطبقية للمجتمع البريطاني، وفي العلاقات الدولية.
***
أ‌) التنافس على قيادة حزب المحافظين

في أواخر شهر يونيو 2019، كتبتُ في صفحتي، تغريدة قصيرة ،باللغة الإنجليزية، حول السيد بوريس جونسون ، المرشح الجديد لقيادة حزب المحافظين في بريطانيا. كنتُ حينها أتفاعل، بشكلٍ تلقائي، مع أصدقائي في بريطانيا وبعض الدول الأوربية والعالم العربي، مستشعراً ، مثلهم ، خطر نجاح اليمين البريطاني وتأثيره السلبي، المتعدد الأوجه على العالم ، بما فيه عالمنا العربي، حيث قلتُ في تلك التغريدة متشائماً، ما نصه:
" يبدو أنَّ القوى اليمينية المتطرفة في حزب المحافظين البريطاني شرعت في رص صفوفها واستنهاض طاقاتها في مواجهة حزب العمال اليساري ذات الشعبية المتنامية. ولذلك نراها تدفع قُدمًا بحصانها الأبيض ، بوريس جونسون ، المتحذلق ، والمُزيَّن والمموه بالبراءة الماكرة ، تناغماً مع اليمين الأمريكي ، و استجابة لتوجيهات قائده القبيح والغبي والعنصري ، دونالد ترامب ." ثم أضفت متسائلاً: “ ترى هل ستفلح القوى المُعتدلة في حزب المحافظين في وقف السعار العنصري، و كبح التهور السياسي لليمين المتطرف؟ . وأجبتُ على تساؤلاتي بالقول: هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة القادمة".
لقد قلتُ الجملة الأخيرة ، وأنا شبه متيقن إنَّ قوى اليمين والطبقة الرأسمالية المهيمنة لن تسمحا لليسار بالصعود ، وأرادتا شخصية يمنية موهوبة ، وجذابة ،مثل بوريس جونسون، لمواجهة النجم اليساري الصاعد، جيرمي كوربين.
وجرت انتخابات في إطار حزب المحافظين ، وفي 23 يوليو 2019، كشفت النتائج عن فشل القوى المعتدلة في الحزب المحافظين ، وعن تعاضد القوى اليمينية المتطرفة في الحزب و المجتمع البريطاني ، وفاز السيد بوريس جونسون على أقرب منافس له في الحزب ،وهو ، جيرمي هنت ، Jeremy Hunt ، بنسبة 66% من الأصوات ، وبموجب تلك النتائج أصبح جونسون القائد المتوج لحزب المحافظين ، الذي يمثل الأغلبية البرلمانية، وأصبح بالنتيجة الرئيس الفعلي للحكومة البريطانية ، بدءاً من يوم الأربعاء ، 24 يوليو 2019، بعد أنْ قابل الملكة اليزبيث الثانية، و قبَّل يدها ، ( وليس ركبتيها!) ، ولكن ليس تقبيلاً بالمعنى الحرفي ، وإنما مجرد ملامسة شفتيه برفق ليدها المتغضنة والهشة ، وفقًا لتقاليد ومخلفات العصور الوسطى . وإثر ذلك نال التفويض البرتوكولي المألوف و أصبح رئيساً لوزراء بريطانيا. و من الجدير بالإشارة هنا أنَّ الملكة ليست لها سلطة فعلية: تنفيذية أو تشريعية أو قضائية، وإنما لها مجرد سلطة شعائرية ، Ceremonial، ديكورية، لا تعني شيئاً ، وهي سلطة مُستمدة من التقاليد التاريخية للمجتمع البريطاني.

وعقب تلك المقابلة خرج جونسون مُبتهجًا من القصر الملكي ، وامتطى سيارته ، جاكوار مُصفَّحة، Armored Jaguar ، وتوجه إلى مقر البرلمان ورئاسة الوزراء، وهناك خرج من سيارته ، وسار كالدب الأبيض ، والفرحة تقلقل خطواته ، و وقف أمام منصة صغيرة ، وألقى خطابًا للجماهير المحتشدة حول المقر ، لخص فيه أهدافه العامة ، المُعلنة في برنامجه الانتخابي ، مثل الخروج من الاتحاد الأوربي في 31 أكتوبر 2019 ، وتعزيز وحدة المملكة المتحدة ، وتعزيز مكانتها في العالم، والاهتمام بالصحة ، والإسكان والتعليم والبيئة والدفاع ، وغير ذلك من القضايا الاجتماعية والسياسية.
وبعد الخطاب الاحتفالي القصير ، ولَجَ جونسون مبنى رئاسة مجلس الوزراء " المعروف ب " 10 داوننغ ستريت" ، 10 Downing Street ، وعقد اجتماعاً مع فريقه السياسي والأمني والموظفين الحكوميين ،Civil servants، ( الحكام الفعليين والدائمين وغير المُنتخبين !) ، و تلقى إحاطات أمنية وعسكرية من قبل رئيس أركان الجيش ومستشار الأمن القومي ورؤساء أجهزة الاستخبارات. كما ناقش آخر المُستجدات المحلية والأوربية والدولية ، بما في ذلك قضية الناقلة المُحتجزة في الخليج من قبل إيران، آنذاك ، و رسم الأولويات السياسية في ذلك الظرف السياسي المضطرب ، وأقال الحكومة القائمة ، وبحث التغير الوزاري الوشيك ، ومن ثم وضع جدول العمل اليومي لنشاطه.
***
ب‌) التشكيلة الحكومية الجديدة:

وعشية ذلك اليوم التاريخي أعلن جونسون عن التشكيل الوزاري الجديد ، الذي ضم 23 وزارة ، احتوت على 30% من الإناث، و 70% من الذكور، و شملت عدداً من الأقليات العرقية: واحد من أصول باكستانية، وآخر من أصول سيرلانكية ، واثنين من أصول يهودية ، وثلاثة من أصول هندية.
لقد أنحدر جُل وزراء الحكومة من خلفيات طبقية ثرية ، أو أنهم كانوا أثرياء ، يعملون مدراء ومستشارين بارزين في المصارف والشركات الرأسمالية الكُبرى، أي أنهم وثيقي الصلة بالطبقة الرأسمالية . و ليس بين الوزراء أمياً أو شبه أمي ، فنصفهم على الأقل من خريجي المدارس الخاصة، Private Schools ، مثل كلية إيتن، Eton College، وغيرها ، المُخصصة لأبناء وبنات الطبقة البرجوازية. و جميع الوزراء من خريجي الجامعات البريطانية العريقة: 47% من خرجي أكسفورد وكمبردج ، والباقيين من خريجي جامعات أخرى راقية، مثل وارويك ، وبرمنجهام و أكتسترا و مانشستر ، وأدنبره ، ودرام وغيرها. وأغلب أعضاء الحكومة من الشباب، إذْ لا يتجاوز معدل أعمار الوزراء 47 عامًا. وعلى الصعيد التعليمي والخبرة العملية فأن جُل الوزراء متخصصون في مجالات ذات صلة وثيقة بالحكم ، كالسياسة والاقتصاد والقانون والإدارة والتاريخ والثقافة. وجميع الوزراء يمتلكون خبرات سياسية، وإدارية عميقة بالشؤون الأوربية والدولية. وجميع مع الخروج من الاتحاد الأوربي، و جميع الوزراء ذوو توجهات يمينية، معادية لليسار وللتطلعات الطبقة العاملة، وكثير منهم يحملون ميول صهيونية قوية، مثل وزير الخارجية، Dominic Raab، و وزيرة الداخلية، Priti Patel ، فضلًا عن رئيس الوزراء ، بوريس جونسون ، نفسه.
***
ج) من هو بوريس جونسون؟

رئيس الوزراء ، بوريس جونسون، شخصية متعددة الأبعاد ، فهو ذو خلفيات عرقية ودينية متنوعة ، له تجارب مهنية وسياسية ثرية. لقد ولد جونسون في مدينة نيويورك لأسرة إنجليزية ، وهو بذلك يحمل الجنسية البريطانية والأمريكية. و فضلًا عن أصوله الإنجليزية، ترجع جذوره العرقية البعيدة إلى أصول متعددة: تركية وإسلامية، وروسية و يهودية وألمانية وفرنسية و مسيحية. وعلى الرغم من أنه عُمِّد كمسيحي كاثوليكي مثل أمه عند الولادة ، إلاَّ أنّه تخلّى عن كاثوليكية والدته، كما تشير سيرته ، وأصبح في وقت لاحق من الإنجيلين، Anglicans، وانضم إلى كنيسة إنجلترا.
و في إشارة إلى جذوره المتنوعة ، يصف جونسون نفسه بأنه "رجل منصهر في بوتقة واحدة " يحتوي عرقياً ، نسبة إلى أجداده البعيدين، على مزيج عجيب من المسلمين واليهود والمسيحيين ".
ويصف الآخرون جونسون بأنه سريع البديهة ، مسلٍ ، جذاب ، ذات شعبية واسعة، ولكن هناك من يرى أنَّ لديه نزعة نخبوية ، Elitism ، متعالية ، و ميل إلى المحسوبية ، Cronyism، ولديه قدرة على تضليل ، dishonesty، الآخرين. كما أنَّ لديه نزوع إلى الكسل، Laziness ، و استخدام لغة ساخرة في التعامل مع المكونات الدينية والعرقية والثقافية في المجتمع البريطاني.
وبصرف النظر عن ما يوحي به مظهر بوريس جونسون المضحك ، فأنه رجل ذكي ، ومثقف ، واسع الإطلاع ، وصفحي متميز ، وعلى إلمام كبير بالشؤون العالمية ، و يتفرد بكونه ذلق اللسان ، سريع البديهة ، ويتمتع بقدرة استثنائية على التواصل والتخاطب مع الآخرين ، سواء عبر الكلمة المكتوبة أو المنطوقة. وعلى الرغم من هفواته الكثيرة ،هنا وهناك، إلاَّ أنه سياسي ماهر ، قادر على إضفاء طابع كوميدي على سقطاته ، وقادر على خداع الآخرين ، وإضفاء البراءة على تصرفاته ، و قادر على تجنب المواقف المحرجة ، ومغادرة المزالق اللزجة والخروج منها سالمًا دون الوقوع أرضًا. ومن هذه الزاوية فهو أكثر ذكاء ، بما لا يقاس ، من راعيه المتهور ، دونالد ترمب . إذْ إنَّ أيديولوجية الأول قائمة على رؤية فلسفية، مع مسحة كوميدية ، بينما عنصرية الثاني فجة و وقحة وكئيبة وخطرة ، ومُستندة على القوة العارية وعلى رؤية انطباعية ضيقة وغبية للعالم.
***
د) خلاصة وتساؤلات

إنَّ هذه اللوحة الشاملة ، المتصلة بشخصية بوريس جونسون اليمينية ، وخصائص الحكومية الجديدة التي يرأسها ، تكشف بوضوح الحرص على تبني سياسية يمينية، متناغمة مع السياسية الأمريكية العنصرية والعدوانية على الصعيد العالمي، وعلى النزوع القوي للنخبة السياسية البريطانية الحاكمة للخروج من الاتحاد الأوربي ، مع الإبقاء على نوع من الروابط التجارية المُربحة لبريطانيا. ولكن السيد بوريس جونسون لم يفلح ، عقب تشكيل حكومته ، في إقناع البرلمان البريطاني بمشروع خروجه من الاتحاد الأوربي . وكان عليه أنْ يعلنَ موعداً للانتخابات العامة في 12 ديسمبر 2019، لزيادة أغلبية حزب المحافظين في البرلمان. وقد تحقق له ذلك، وأحرز نجاحاً ساحقاً، و بالتالي حصل ، بشكل رسمي ، على تفويض البرلمان في 20 ديسمبر 2019 ، و تمكن ، بشكل فعلي، من إعلان الانسحاب الاتحاد الأوربي ، كما تجلى ذلك مساء أمس الجمعة 31 يناير 2020 .
في الأخير لابد من الإشارة إلى أنَّ إعلان الخروج قد أثار سرور البعض ، وحزن البعض، وقلق البعض ، وعدم اكتراث البعض . والسؤال المنطقي الذي ينبغي أن يُطرح الآن ، عقب الانتخابات والخروج من الإتحاد الأوربي ، هو: إلى أين تتجه حكومة المحافظين البريطانية ، برئاسة بوريس جونسون؟ وما هي التداعيات المحلية والدولية المترتبة على الانسحاب ، وعلى السياسية البريطانية الجديدة تجاه العالم؟ وكيف يُنظر إليها في العالمين العربي والإسلامي؟ هذه الأسئلة وغيرها، ستكون محور الحلقة القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث