الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفة فكرية مع السيرة الذاتية

عيسى بن ضيف الله حداد

2020 / 2 / 28
سيرة ذاتية


وقفة على العتبة
في مطلع حقبة التسعينات من القرن الماضي وأنا في غمرة رحيل الإعرابي من نجع إلى نجع حطت بي أقدامي في مدينة بيزانسون الفرنسية. عنّ لي آنئذ أن أستكمل مشواري في استكمال البحث الأكاديمي في مجال العلوم الإنسانية.. شاء لي قدري آنئذ أن ألتقي بالأستاذ " عمر "- من مصر. كان البرفوسور " عمر " مشرفاً على البحوث في حقل اللسانيات في كلية الآداب في جامعة بيزانسون، وقد أتجه في اهتماماته البحثية بصورة أساسية إلى لسانيات اللغة العربية والفارسية..
قبل أن نبدأ حوارنا في صلب المسألة، رغب الأستاذ " عمر " الإطلاع على سيرتي الذاتية.. ولمّا رأى أنني في يوم ما قد مارست الكتابة في دورية طلابية جامعية، بصفتي رئيس تحرير لها، طالبني بإحضارها للإطلاع عليها..
أبدى الأستاذ إعجابه بالدورية، واقترح عليّ أن تكون هي ذاتها مجال البحث الأكاديمي.. لسبب ما غيرت اتجاهي نحو الدراسات التاريخية.. بقيت تلك الواقعة قابعة في خاطري..
عندما بدأت رحلتي مع الكتابة قلت في نفسي: إن كان الأستاذ عمر رغب أن تكون كتاباتنا مجال بحث أكاديمي لجامعة فرنسية، فلم لا تكون هي ذاتها مع ما أحاطها من ممارسة وسيرة حقل كتابة لي..! وحتى وإن كنت لا أرغب الكتابة عنها كمؤرخ، لم لا اكتب كسارد وقائع ومعلن عن وثائق مصدرها دوريتنا هذه.. ألا يمكن أن تشكل لوحة صادقة لما كنا نفكر به، وكيف كنا نرى ما حولنا، وكيف كانت سيرتنا ومسيرتنا السياسية الطلابية الجامعية الموافقة لسنوات الستينات..!
من حين إلى حين أخذت الفكرة تضج في رأسي.. حتى أقبل يومي لسرد ذاكرتي..
R
في السيرة الذاتية - لا أكتب تاريخاً هنا.. إنما مجرد ذكريات شخصية تعكس وصفاً حياً - فوتوغرافياً " لحالات انفعال وتفاعل وممارسة في حقبة سياسية عابقة بالأحداث..
ما أرنو إليه هو أن يعكس مظهرها الشخصي عن مواقف ورؤى لجيل طلابي شاء له قدره أن يعاصر زمناً حمل في طياته ما حمل من أحداث، جاز لها أن تعبر بنا إلى الراهن بين ظهرانينا..
وأرى أن السِيّر الذاتية كيفما كانت، لا تعكس بحقيقتها وجوهرها حالة فردية قطعية، فنحن كأفراد في عقلنا وسلوكنا لم نهبط من السماء، إنما نحن قد تكونّا في
محيط وثقافة.
وحتى بما ما نأتي به كأفراد من قيم سلبية وإيجابية ومآثر ومثالب، لا يخرج البتة عن تطلعات أو طموحات أو عن رغبات أو مكبوتات، لها فعالياتها الضاغطة في ثنايا الأحاسيس السرية - الخفية والعلنية لمحيطنا.. والتي قيض لها في نهاية المطاف أن تعلن عن ذاتها عبر سلوك أو رؤية أو ظاهرة لدى حالة أو حالات عدة..
على هذا الأساس عندما أتصدى لسيرتي الذاتية، لا أنطلق فيها من تميزي عن أقراني في محيطي الجامعي في عقد الستينات، فأنا لا أخرج قطعاً عن ما كان لديهم من مميزات سلوكية وفكرية.. وحتى إن بدا لي بعض ما يمكن أن اعتباره مميزاً، فإن هذا التميز المتواضع والنسبي (أو المفترض) ما كان له أن يعبر عن ذاتيته لو لم يكن مرغوباً أو مطلوباً من قبل المحيط.. فلولا هؤلاء الأقران ما كان بوسعي التعبير عن ذاتي بما أظهرته من فعاليات إيجابية أو سلبية..
وما كنت قد انطلقت منه دوافعي للإعلان عنه من سرد لسيرة ذاتية ورؤية سياسية وأدبيات، إلا لإظهار ما توفر لدى ذلك اللفيف الجامعي من فكر وسلوك وقيم ومآثر ومثالب ورؤى - سواء أكان ذلك اللفيف، يمثل جيلاً أم مجرد نخبة..
يجدر بي أن أعلن هنا، إن ما سيروى من أحداث وأشخاص وما سيعلن عنه من أدبيات، كلها بقضها وقضيضها من بنات الواقع، لم تخرج عنه قيد أنملة.. وهي موثقة لا يأتيها الريب من بعيد أو من قريب..
وإني إن كنت لا أفصح عن أسماء بعض الأشخاص، إنما أنطلق من موقف أخلاقي، حتى لا أكون سبباً لهم في مكروه و لكي اربأ بذاتي عن مغبة النميمة أو مثالب الغيبة.. أما عن مَن اضطررت للتنويه باسم ما، فأن الأمر لا يخرج البتة عن تأكيد الواقعة، دون مس هذا النفر، بأي ضرر يذكر..

بعدما قلبت المسألة من جوانبها المختلفة، عزمت على تناولها عبر سرد سيرة ذاتية، يمكن أن تكون بحد ذاتها ممثلة لسيّر نفر كُثر من ذاك الجيل. وأنني لأخال، لو كان بمقدور دفتر ذكرياتي التسلل إلى مكتبات هؤلاء الزملاء، لقالوا" أجل كنا هنا، بلحمنا ودمنا "..
لعل سردي الآتي لذكرياتي، يحمل في ترهاتها ومثالبها ومآثرها، ومضات مما كان، في ذاك الزمان.

المنظار، قراءة من الداخل- يختلف المشهد باختلاف موقع الناظر والمنظار.. فالرؤي من علو في طائرة غير ما تكون عليه الرؤي من سيارة، وما سبق لا يتفق مع مشهد السائر على قدميه..
ولعل أكثر المناظر مقاربة للحقيقة تلك التي نمعن في رؤيتها من بين ظهرانيها.. بمقدار البعد عن المشهد يشتد خداع النظر.. كما في المكان يكون في الزمان.. لا يمكن رؤية الماضي على حقيقته من منظار الحاضر بحالته.. فللماضي شأنه الذي كان عليه، بعضه زال وبعضه أتى..
أجل، هو حاضرنا يولد في ماضينا.. لم يكن الماضي قط ولا يمكن أن يكون في حالة سكون ولا الحاضر أيضاً.. بمقدور الحاضر أن يكون مختلفاً عما عليه، لو أن سياق الصراع في الماضي قد قيض لعناصر أخرى التفوق على العناصر التي وضعت يدها على الزمام.. فاللحظات الحاسمة تقرر المجريات الآتية.. قطعاً لم يتقرر مصير بلدنا في حقل معترك جامعة دمشق.. فالجامعة ليست أكثر من مرآة عاكسة.. غير أن قدرتها على عكس الظاهرات أكثر من غيرها، لأن للجامعة رفاهة حسها، وبوسعها والحالة هذه أن تكون اللوحة الحساسة للتيارات وللصراعات السائدة في البلاد.. لعل محاولتي تحمل في طياتها السردية قبساً ما، من الماضي، للآتي..؟

ليس سراً أن نقر بدون وجل، أن التاريخ لم ينجز مهمته بعد.. وأمامه مشوار طويل ليقول كلمته الفصل دون دجل وبدون وجل..
ويجدر بنا الإقرار العلني هنا، بقبول تطوّر المواقف وفقاً لتغير الوقائع ومعطيات الواقع..
والسؤال، هل كان عالم الستينات كعالم يومنا.. ألم تكن المواقع والوقائع والمرجعيات هي غير ما عليه الآن.. أكان كل ما يقال خارج دائرة الصواب.. ؟
ثم ألم تتغير راديكالياً معالم العالم..! وهل عالم اليوم هو أفصل من عالم ذلك اليوم.. ! فلماذا إذن هذا الانهيار والانبهار والعسف والقصف المازوشي والسادي على الذات..
مهلاً يا سادة، ما أحوجنا لاسترداد وعينا وبأسنا والخروج من مصيبة جلد ذواتنا والسير حثيثاً في طريق تنقيتنا من أخطائنا، لا الارتداد المهين على كليّة تاريخنا وقيمنا.. كفى عملاً في خلط الحابل بالنابل والانتقال من معسكر إلى المعسكر المقابل..

لوحتنا الحساسة، سيرورة تشكّل ودينامية فعل- أرى فيما أدعوه بلوحتنا الحساسة، تلك الأداة التي تتولّى تشكيل الرؤى المعبرة كحالة انعكاس للوقائع والأحداث الدائرة بين ظهرانينا، وتنفعل بها ولها.
من المؤكد أن هذه الرؤى لا تظهر متماثلة بين كل الناس. قد تبدو بعض الرؤى متقاربة، بيد لا يمكن لها أن تكون متطابقة، وهي في جدل تقاربها وتفارقها إنما تشكل بكيفية ما يمكن أن ندعوه بالوعي الجمعي، الذي يشكل مرجعية شاملة للجميع، ففي ظله ومنه تنحدر تجليّات الوعي الفردي.
بصدد آلية تشكّل اللوحة الحساسة، يمكن تلمسها عبر عملية مركبة ومعقدة، يتداخل في تشكلّها عناصر عدة، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو فردي.. وبما بين الاجتماعي والفردي من جدل.
أما ما يعود للعامل الفردي في تشكّل معالم تلك اللوحة الحساسة، يمكن إجماله، بما مرّ لدى الفرد في خبرات وما أكتسب من ثقافة وعبر به من تجارب خلال مسار طفولته وصباه وفتوته.. ولا يتوقف المرء من تشكيل لوحته الحساسة إلا بانتهاء زمنه، وإن كانت عملية وضع حجر الأساس لتلك اللوحة الحساسة قد مرت من قبل، في الزمن المبكر..
ونرى أن اللوحة الحساسة وهي تتشكل تنفعل وتفعل، وتأتي بردود سريعة، عفوية وقد تكون إرادية.. وهي في كل حالات ردودها، تنضح من ذاتها.. وهي إذ تستمر في سير تشكلّها لا تتوقف قط عن دينامية فعلها.. بيد أن سيرورة التطوّر تتضاءل مع التقدم في العمر، كما أن منحى التطوّر ومساره لا يخرج عن مجرى التأسيس الأول..
على هذا الأساس تكون تلك اللوحة الحساسية في ماهيتها ومحتوى فعلها، فرديّة وجمعية معاً.. وقد تبدو حيناً في مظهرها الفردي كتعبير حي عن الحس الجمعي.. الأمر الذي يعني فيما يعني، بكون الفرد وهو ينطق بمكنون لوحته الحسية، يمكن أن يعبّر بذات الوقت عن الحس الجمعي، وهذا ما توفر في بعض الأحايين للفيف من الشعراء والكتاب والفنانين ولمغمورين أيضاً لم تتح الفرصة لهم للتعبير عن مكنوناتهم..
إن التلاقي الجدلي بين الحس الفردي والحس الجمعي، يمكن أن يتواصل بتعالي نمو الحس والحدس الفردي في صلة فعالة مع البعد الجمعي، الذي يصبح من شأنه مقاربة الحقيقة بصورة عفوية وبدون مراوحة فكرية معقدة (وفق نمط مقاربة أولية للحقيقة، دون تملكها الكلي– من حيث كون الحقيقة نسبية ومرحلية.. الخ )..
ومن خصائص اللوحة الحساسة تمتعها بالحيوية، فهي ليست على سكون أبداً بل هي متحركة متوثبة لها نبض حي. ويمكن لها الإعلان عن هذه النبضات في بعض الأحيان، بينما في أحيان أخرى تبقي هذه النبضات حبيسة في عمق الذات.
لا أقصد في هذه المقاربة، البحث المفصل في عوامل تشكّل اللوحة الحساسة وآلية عملها، إنما يتأتى الهدف من ضرورة التلويح بها لتسويغ الغوص في أقاصي ماضي سيرتي الذاتية، التي في مجراها قد تم تشكّل الأساس البدئي في لوحتي الحساسة..
تلك اللوحة التي تلقت بدورها مجريات الوقائع والأحداث، وقامت بتسجيل تلك المواقف والرؤى، ومجمل ما ترسب في الذاكرة.. الأمر الذي يسهم بالإفصاح في آخر المطاف عن ماهية أنا المستقبِل المتمثل بحامل اللوحة الحساسة، فضلاً عن أدراك المرسل المتمثل بالحدث والواقعة.
بهذا الصدد أجد أن السمة السردية التي أنا مقبل عليها، لا يمكن أن تكون فردية بالمطلق، ففرديتها في جانب منها، إنما قد أتت بمثابة مظهر عبّر في فرديته، عن سمة جمعية لجيل ذلك الزمن..
ولعل نبضات من تلك اللوحة الحساسة وما سجلت في ثراها من صدى، وما أطلقت من فعالية، هي بحد ذاتها التي عملت على تحريض الدافع الأساسي لدي، كي تروي ما اختزِن بها من ذاكرة..

كنا فتيةً نجري على فطرتنا دونما حساب أو ارتياب بما في الغاب من سراب. !!.

ما دفعني لأسجل هذه السيرة والمسيرة، إنما لوضع صورة حية لجيل توفر لديه العدد الوفير في سلوك هذا السبيل. فإن أفلحت في المسعى فشكراً، وإن أخفقت فعذرا. ويبقى لي في آخر المدى أنني قد حاولت واقتنعت بشجاعة المحاولة.. وكفى.. وكفاني فخراً...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة