الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجريدة النّازفةِ

فاضل متين

2020 / 3 / 1
الادب والفن


أقفلت الغيوم صفحة السماء، تاركةً أصابع الشمس محتارةً تبحث عبثاً عن ثغرةً تتلمس بها صفحة الأرض في تلك الصبيحة الربيعية، مما فسح المجال للرضاب تسلّق ظهر الجدران والنبات وجلد الواجهات البلّورية للمحلات وقوافل السيارات، مُغرقاً الجو بعبق باردٍ مُنعش، تزحف ذراته في الرئات زحف الحب إلى قلب العاشق.
لمْ يحدث لهُ أنْ ركبَ الباص الداخلي الّذي يمرّ على شارع الأربعين طيلة السنتين التي عمل فيهما في المجمّع الطبي كمساعدٍ صيدلي، غير أنّه هذه المرّة على غير عهدته وفي إنتعاشةٍ مزاجيةٍ فرضهُ الجو الشبه البارد الودود ذاك الصباح قرّر أن يستقل الباص، فضلاً عن أن الوقت كان ما يزال مبكّراً على العمل. أخذ يتنفس بعمقٍ عدّة مرات، حتى ملأ رئتيه بالأوكسجين المبلّل بعبق الندى وأسترسل يتأمل روعة الجو، ثم جمع طَرفيْ فلته وجلس على مقعد موقف الباصات، وأستلّ سيكارةً وباشر بتدخينها، وأخذ يطلق نفخاتٍ دخانيةً طويلة يراقبها بسرورٍ حتى تتبدّد. بعد وهلةٍ من التأمل والأنصار الروحي بالطبيعة، فاء إلى نفسه، وتذكّر إنّه كان في طريقه إلى العمل، وعندما أدار رأسه يتحرى قدوم الباص الذي يبدو أنّه تأخر عن القدوم، ألتقت عيناه على حزمة من الجرائد كانت موضوعةً جانبه، بدا الأمر مُدهشاً نوعاً ما، فليس من المألوف أنْ تجد جرائداً في هذه المدينة وفي هكذا أماكن. ربمّا قد ترى في إحدى الأكشاك في زوايا القلعة، أو تلتقى جنب مقاعد الجلوس في العيادات القديمة، وليس في هذا عيباً يسيء للواجهة الثقافية للبلد، فهذه الظاهرة مُستشرية في البلدان المتقدمة أيضاً، والسبب واضحٌ، إنه الإنترنيت، المسبّب الأول حسب إدعاءات أناس هذه المدينة.
كان من بين الجرائد عدة عناوين " الربيع/ آذار/المنتدى الثقافي/ أخبار العالم" لكنه بخاطرةٍ فطنة أتته للتو أختار جريدة آذار، أولاً لأنّهُ مولود شهر آذار، وثانياً لأنّ الزمن كان يزحف في هذا الشهر. قلّب على وجه السرعة عدّة صفحات، كانت جميع المواضيع تبدو غريبةً وخرافية، أو ولنقل لا تمتُّ للواقع بصلةٍ من قبيل
" طائر الرخّ يظهر من جديد ويخطف في السنة آلاف الأطفال"..
" الأساليب السرية لإبعاد الجن"..
" ما يولد في شهر آذار يموت في الشهر ذاته"..
رسمت المواضيع بسمةً على فمه، إذ أنّ لمثل هذه الأفكار تبدو خرافيةً ولا تدخل في يقينيات العقل الحديث، لكنّها مسلّيةٌ نوعا ما، وتكشف عن مخيالٍ عبقريٍّ لمبتكريها..
أستهواه العنوان" ما يولد في شهر آذار، يموت في الشهر ذاته " بدا مجذباً له أكثر من بقية العناوين، وأخذ يتنقل بين سطوره، متتبعاً بعينيه الأمثلة والأحداث الواردة فيه بتركيزٍ وأستخفافٍ معاً.
*أعظم الثورات الكردية أشتعلت في آذار ووأدت في الشهر ذاته.
*‏ملا مصطفى البارزاني ولد في آذار 1903. توفي في آذار من عام 1979
*‏ بيّنت الأبحاث والسجلات الأمنية إن أغلب شهداء حلبجة إن لم يكن كلهم، كانوا مواليد آذار وماتوا جميعهم في الشهر ذاته 1988
*يعتبر 21 آذار يوم ولادة الكرد، فهل......!
بدت الأمثلة معقولة كما ذكرت، لكن بالتأكيد هذا لا يدلّ على أنّها بديهياتٌ لا بدّ منها، فالصدّفة تفعل أحياناً أكثر من ذلك، وأستغرب من أنْ يوجد إلى الآن أشخاصٌ يصدقون هكذا ترهات، كيف لجريدةٍ معاصرةٍ تنشر مقالاتٍ كانت ستؤتي أوكلها لو نشرت في القرون السالفة، أمّا الآن تعتبر مضحكة ومسلّية بل مستهلكة للعقلانية البشرية.. ! ، ومن باب الفضول أحبّ أن يستطلع عن أسم كاتب المقال .
/سرّ الوجود /
ما هذا الأسم..! أإلى الآن ثمة من يخاف أن يُذكر أسمه؟ لا بدّ أنه يخجل من أن يعرفه الناس ويسخروا من إيمانه بالأوهام الغيبية..
قلّب الصفحات الأخرى مستبحثاً عن المحرّرين والناشرين فيها. عجيب..! ليس هناك أسم كاتبٍ حقيقيٍّ، كلها أسماء غريبة ومزيفة.. / أمير الجن / نديم الأموات / العفراء/..
أكثر ما أدهشه هو أسم المحرّر الذي كان أكثر غرابةً على غرار بقية الأسماء /سليل أزدهاك /..

تساءل مستغرباً ، ما الذي أجبر هؤلاء أن يختبأوا خلف أسماء غريبةً ومضحكة.! لربّما هي سياسة خاصة يتبعها أصحابها، وعلى أسماء الناشرين أن تتماهى مع المواضيع التي ينشرونها.. لا غرو، إنها سياسة محنّكة لجذب الفضوليين، والناس فضوليون بالفطرة، قالها في سرّه والعجب و الفضول يدعكان ذهنه.!
عادت فكرة المقال الذي قرأه للتو تحوم في رأسه، وأخذت تعبث بخلايا دماغه، تمدّ أمواج عقله ثم تسحبها..
لا لا ليس معقولاً أن أموت في هذا الشهر ببساطة فقط لإنني ولدت فيه. ثم إنّه مجرّد كلامٍ فارغٍ قالهُ شخصٌ يعيشُ في فراغٍ عقلي، ليس له شغلٌ غير جمع وتقسيم تواريخٍ وأحداثٍ وربطها ببعضها، ثم وِفّق على محمل الصدفة جمع تلك الأحداث..
كان قد سمع أكثر من مرّة على مراحلٍ عمرية قصة مأثورة يتداولها الناس، أنّ الّذي تقترب مَنيّته يشعر بها قبل أوانها، ونادراً ما يُخطئ الشعور صاحبه، وإن أخطأ، فالسبب أنّه كان يدفعُ بهذا الشعور إلى أعماق نفسه في لحظة توترٍ وضيقٍ، فيحسّ إنَّ شرارة الموت وإرهاصاته تتبدّى أمام عينيه..
لا أنا اتوهم، يبدو إنّ هيبة الموضوع أثار فيّ هذا الإحساس ، ثم لماذا لم ينتابني هذا الشعور قبل أن أقرأ المقال !؟ قال ذلك في دخيلته وهو يسير بتؤدة غير شاعرٍ بحركة قدميه وهما تقودانه إلى منتصف الطريق..
لم يفق إلى صوابه مع تصاعد صوت الباص المتجه بسرعة الوميض، يصفّر ويزمّر توالياً. بدأت السماء تكفهرُ وتتعكّر. رفع جبينه بهدوءٍ بأتجاه الباص، أدرك أنّه ما من مجالٍ للهرب، أعاد النظر في الجريدة. تحسّس يداه اللتان غدتا رطبتين. كانت كفّاه مطليتان بالدم، رفع رأسه من جديد ورمش بهدوءٍ وأستسلام.. طارت الجريدة من يديه، أرتفع معها، قبل أن يهبط وتصطدم قفا رأسه بحافة الرصيف.. راقبت عيناه هبوط الجريدة وهي تستقرّ على الموضع ذاته الذي قرأها. زحفت الدماء في عينيه..

******
كان قد سمع إنّ حادثاً مُروعاً حصل قُرب هذا المكان، وقد قام الأمن والأسعاف بالإجراءات اللازمة، وتم تنظيف المكان ولم تبق أيّة آثار ، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذ الرجل، وهذا مختصر ما يعرفه، فالحادث جديدٌ لم تمرّ عليه عدّة ساعات ولم يلبس بعد الكثير من الأشكال والتخمينات الطارئة من قبل الفضوليين.. كان لوحده ينتظر الباص، لم ينتبه إلى ندرة الناس هذا اليوم عند الموقف، فغالباً ما تجد عدداً لابأس بهم ينتظرون مرور الحافلة. تربّع على المقعد مطلقاً العنان ليديه وصوته، يمطهما ويشدهما، وما أنْ لبث يلفّ جذعه ليفرقع عموده الفقري حتى أنتبه للجرائد التي على المقعد. أستلّ من بينها جريدةً، وقادته الصدفة إلى العنوان " ما يولد في شهر آذار، يموت في الشهر ذاته"..
بعد أن أنهى قراءة المقال حتى أخذته الغشاوة.
حرّك عينيه وفرّكهما. شعر بأنه رأى شيئاً أحمر على الطريق، ففرّكهما من جديد ليزيح الغلالة عنهما.
واضحٌ إن الحادث حصل هنا، ولم ينظفوا الدماء كلها. قالها لنفسه، وهمّ سائراً باتجاه بقعة الدم في الطريق ، لمسها بسبابته، كان الدم ما زال يحتفظ برطوبته قليلاً، ثم تقرّى بعينه سبيل الدماء. كان خيطاً معرّجاً ممتدّاً من الرصيف حتى المنتصف..
صوتٌ مزمجرٌ تصاعد من قربه، وقف على قدميه، عادت السماء تكفهرُّ وتتعكّر، لم ينتبه للدماء وهي تتقطّر من أصابعه. تابع بهدوءٍ أقتراب الحافلة نحوه.....
*****
"خبرٌ عاجل : وفاة شخصان اليوم بحادثين مؤلمين في نفس المكان قرب مستشفى ريزگاري، ويجدر الإشارة إنٍ الواقعتين لم يكن بينهما سوى بضعُ ساعات.."
رافق الخبر فيديو عن مكان الحادث، وفي لجّةٍ من الضوضاء والضجيج، وجّهت الكاميرا عدستها صوب الرصيف المُدمى.. لكن مهلاً ثمة أعلى الرصيف، فوق المقعد جريدةٌ تنزف....!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة