الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية أخرى للحرب الأهلية الأمريكية

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 3 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في الحرب الأهلية الأمريكية خلال القرن 19 التي حدثت ما بين عامي 1861 – 1865 م ،كانت الولايات المتحدة فيها مقسومة لجبهتين شمال وجنوب، الشمال كان مركزا للصناعة والتجارة، بينما الجنوب مركزا للزراعة وما يتعلق به من تربية حيوان..إلخ، ولأن العمالة الزراعية كانت أرخص فأثرياء الجنوب من البيض كان يهمهم (بقاء العبودية) لتبقى ثرواتهم أو تزيد، بينما الشمال كان يهمه إلغاء العبودية لرفع عدد المستهلكين لبضائعهم في الجنوب..

بتوضيح أكثر: الجنوب كان فقيرا ويحكمه طبقة رأسمالية لا تستهلك منتجات الشمال بما يكفي ويستعيضون عنها بمنتجات مستوردة أرخص من بريطانيا وأوروبا (قلاع الصناعة وقتها) فلو تم تحرير العبيد وزاد دخلهم الشهري والسنوي سيصبح معهم أموال يشتروا بضائع الشمال، ومع فوز الرئيس "إبراهام لينكولن" برئاسة الدولة عام 1861 تم إعلان سياساته الشمالية اللي من بينها إلغاء العبودية، فانتفض أثرياء الجنوب وجنّدوا العبيد اللي في مزارعهم – وكانوا بالملايين – في جيوش انفصالية حاربت الرئيس لينكولن وأعلنت دولة جنوبية مستقلة تحكم تحت إسم الاتحاد الأمريكي بنظام الكونفيدرالية..وبالتالي انهيار النظام الفيدرالي الأمريكي..

ولتوضيح الفارق بين الفيدرالية والكونفيدرالية..أن الأولى تعني اتحاد بنظام السيادة المتبادلة، يعني من حق حكومة الولاية التصرف في ولايتها كما تريد لكن هذه الولاية في الأخير جزء من اتحاد أكبر له السيادة أيضا على الولاية وتكون السلطة بالتنسيق بينهم والجهة المشتركة التي تتولى هذا التنسيق هي ممثلين الولاية في البرلمان ، وهذا النظام مطبق في الإمارات والعراق عربيا، أما الكونفيدرالية فهو نظام يجمع بين دول مستقلة في اتحاد لا تكون له السيادة على تلك الدول، أشبه بتجمع شكلي على المصالح بين عدة دول تجمعها روابط الدين والعرق واللغة والمصلحة المادية أحيانا..

وبالتالي نفهم إن ما قام به أثرياء الجنوب الأمريكي هو تفكيك للولايات المتحدة أصلا وتشجيع باقي الولايات على الانفصال

المهم : قام لينكولن بدعوة الجنوبيين لإلقاء السلاح واحترام نتائج الانتخابات، بالتوازي مع سياساته بفرض جمارك على بضائع أوروبا لرفع سعرها محليا لكي يشتري الجنوبيين بضائع الشمال، وهنا شعر أثرياء الجنوب بالخطر أكثر..فالرئيس لا يهدف فقط لتحرير العبيد ولكن لجعلهم هما أنفسهم عبيد عند الشماليين عن طريق الارتباط مع بضائعهم علاوة على النتيجة الحتمية لذلك وهي خسارة أموالهم برفع مرتبات العبيد ليكونوا عمال أو هجرة العبيد للشمال كأحرار ليعملوا في المصانع والتجارة، ولأن قضية العبودية لها علاقة بالدين لأن رجال الدين كانوا يقنعون الأثرياء بصحة الاسترقاق دينيا وخطف الناس لاستعبادهم انقسم الشعب الأمريكي دينيا أيضا، في الشمال ثائرين على العبودية لكونها ظلم وعمل شرير من أبناء الله تجاه بعضهم، بينما الجنوب يقبل العبودية من جهة أن الإنجيل لم يدين الاستعباد ولم يلغيه...نفس القصة حدثت عند المسلمين لما أراد الحكام إلغاء الرقيق انتفض بعض رجال الدين وقالوا (هذا حرام)..!!

كانت ولاية "تكساس" ولاية مكسيكية مطلع القرن وقبل الحرب بسنوات كانت جمهورية لم تعترف بها المكسيك، وقد تم ضمها للولايات المتحدة بنظام الاقتراع المحلي على شاكلة ضم القرم لروسيا من أوكرانيا، ولأن المكسيك وقتها كانت ضعيفة عسكريا لم تنجح في استعادتها كما أن أوكرانيا فشلت في استعادة القرم من روسيا لضعفها العسكري، ولك أن تتخيل أن ولاية تكساس هذه مساحتها قد مساحة سوريا والعراق مجتمعة، وأرضها خضراء كلها غابات ولها سواحل وموانئ كثيرة تعني أنها أصبحت (كنز) لأثرياء الجنوب اللي ضاعفوا من ثرواتهم أكثر، وبالتالي كان إلغاء العبودية بالنسبة لوجهاء الجنوب يعني (موت) وضياع حلمهم بالاستفادة من تكساس ، مع العلم إن دخول تكساس ضمن الولايات المتحدة كان مقدمة لحرب بين أمريكا والمكسيك انتهت بضم 5 ولايات مكسيكية لحكومة واشنطن منهم ولاية كاليفورنيا..وهذه قصة كبيرة لا شأن لنا بها حاليا..لكن سنختصر القول بأن أثرياء الجنوب الأمريكي كان يمهم تكساس أكثر لبيئتها الزراعية والبحرية والتجارية، مما يسهل لهم التواصل مع أوروبا شرقا لزوم التجارة وتعويض خسارتهم من رفع الجمارك على بضائع أوروبا من حكومة لينكولن.

وبالتالي نفهم أن قضية تحرير العبودية في أمريكا كان هدفها اقتصاديا أكثر منه ديني وإنساني، وإذا كان العامل الديني والإنساني متداخل فيها لاحقا لكنه لم يكن هو السبب الرئيسي في قيام الحرب

ولك أن تتخيل لولا هذا الدافع البراجماتي الاقتصادي كان حاضرا لأصبح أوباما ومايكل جاكسون وأوبرا وينفي هم (عبيد) إلى الآن، وهذا طرح قديما في فلسفة البراجماتية إن النفعية لا تعني الشر في ذاتها بل تحقيق لمبادئ الخير واختيار الأصلح وفقا للمبدأ العام الذي يحكمها أن (العدل يعني المنفعة العامة) ومن هنا كان تأسيس دستور وثقافة الولايات المتحدة الذين ساعدوها على تسيد العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا..بل وقضائيا باختراع ورعاية نظام (هيئة المحلفين) القضائي الذي يكفل للمواطنين التحقيق كقضاه ممثلين للجمهور كي لا يتسلط قاضي المنصة في الحكم، ودي قصة كبيرة دخلت عشرات الدول لاحقا الفضل فيها للولايات المتحدة كإجراء ضمن سياسات (إصلاح القضاء)

نعود مرة أخرى للحرب: علاوة على دافع إلغاء العبودية والاقتصاد المسببين للحرب كان هناك دوافع أخرى متعلقة بثروات وأدوار الولايات المكسيكية المنضمة حديثا للاتحاد الفيدرالي الأمريكي، وهنا حصلت خناقة تانية بين الجنوب والشمال إضافة لقرارات حكومة لينكولن بإلغاء العبودية في تلك الولايات، لأن وجهة نظر لنيكولن في أنه " لو لم نقدر على إلغاء العبودية في الجنوب فلا نمددها في الولايات المنضمة حديثا للدولة ومنها تكساس وكاليفورنيا بالطبع" وعليه تسبب طمع أثرياء الجنوب في تعقيد المشكلة وقرروا المواجهة عسكريا مع الشمال..

خلافا للشائع ..هذه قصة الحرب الحقيقية، لأن الشائع أن لينكولن هو الذي بدأ الحرب لكي يلغي العبودية لكونها ظلم وضد حقوق الإنسان..و و و و..وهذا غير صحيح في رأيي، لكون فكرة حقوق الإنسان لم تظهر وقتها ولينكولن رغم رفعه شعارات إنسانية لكن هدفه من الحرب كان أكبر من إنهاء ظلم العبيد ، ولمحة بسيطة في العقلية الأمريكية إن الشماليين لن يضحوا بأرواحهم من أجل تحرير غيرهم..هذا غير معروف في ثقافة الرجل الأبيض..الحروب عند الأمريكيين وقتها كانت لمصالح مادية بحتة هي اللي أثرت على فلاسفة القرن 19 في أمريكا وحفزت خيالهم لتصور الفلسفة البراجماتية، أي أن البراجماتية مكانتش اختراع فلسفي لوليم جيمس وجون ديوي..هذه كانت ثقافة غربية تمارس على أرض الواقع منذ عصر الاستعمار وورثتها أمريكا بتوجهها الإمبريالي المعاصر..

أدت الحرب لوقوع (مليون أمريكي ضحية) وتدمير معظم مدن الجنوب، وحقيقة رغم التكلفة البشرية والمادية الهائلة للحرب إلا أنها نقلت الولايات المتحدة جذريا لتصبح أحد القوى الصاعدة دوليا..فمصانع السلاح بدأت تشتغل وانتصار الشماليين أدى لتطوير الصناعة والتجارة أكثر مع التوسع الزراعي في الجنوب والشرق ، ولك أن تعلم بأن نصف مساحة الولايات المتحدة غير صالحة للزراعة وبالتالي كان يتطلب ذلك مشاريع استغلال لهذه الأراضي لو لم تكن للزراعة فاللصناعة والترفيه وخلافه..

أدت الحرب أيضا لإلغاء العبودية في أمريكا وتحول العبيد لأول مرة إلى أحرار يعملون بأجور ثابتة ويملكون منازل ولديهم الفرصة لتكوين ثروات ومنافسة البيض اقتصاديا، وبرغم إن الدافع الاقتصادي كان هو المحرك الأصلي للحرب لكن لينكولن وقتها لم يكن لديه خيار في قبول الحرب لمنع انفصال الجنوبيين، شئ أشبه بالفتنة الكبرى بين معاوية وعلي..لكن هنا انتصار لينكولن كان (أعظم كنز) للبشرية..فحتى لو لم يكن الدافع وراء الحرب إنساني لكن النتيجة كانت إنسانية بحتة بالشروع في تحرير العبيد على مستوى العالم وتكريس حكم القانون والحفاظ على آليات الديمقراطية وتعزيز الحريات الشخصية والعامة..

الحرب الأهلية الأمريكية كانت مصدرا رئيسيا لإلهام مفكري القرن 20 ليتوصلوا إلى مبادئ المساواه وحقوق الإنسان والمواطنة، وربما لو انتصر الجنوبيين على لينكولن لكان العبيد يباعون ويشترون حتى الآن ويخرج شيخ الأزهر والسلفيين بفتوى حاسمة: أن من يطالب بحرية العبيد هو كافر ملعون لن يدخل الجنة ولن يشم ريحها، أما أن المبادرة جاءت من الكفار ولم يكن لهم دخل في هذا الإنجاز وفرضت عليهم الحداثة القول بصحة إلغاء العبودية فبالتالي لا دور مطلقا لمؤسسات الدين الإسلامية سوى في تكريس التخلف والجهل والظلم، وسينتظرون عشرات الأعوام الأخرى ليبدأ الآخرين بالإصلاح ليكفروهم في البداية ثم يقبلوا بإصلاحهم مرغمين..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن