الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أقسام النظر لكتب التراث

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 3 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في مقالات سابقة فصلنا أهمية فهم الحداثة لشيوخ المسلمين وقلنا أنها المعيار الوحيد لقبول العلماء حاليا، فبدونها لن يصبح الفقيه فقيها أو العالِم عالِما..وكذلك لن يكون السياسي سياسيا أو لديه خبرة بأصول العمل الدبلوماسي الحديث المختلف في غالب أحواله عن السياسة القديمة ما قبل عصر التنوير.

لقد فرضت الحداثة على السياسيين أن يقبلوا الشعوب والزعماء دون النظر لعقيدتهم وجنسهم ولغتهم، وهذا لم يكن متاح قديما، وفرضت أيضا على الشيوخ أن ينفتحوا على مجتمعات وشعوب متقدمة ويعقدوا المقارنات التي كانت تأتي غالبا لصالح غيرهم مما أوجد فجوة بين الصادقين في رؤية التقدم والبحث في إمكانية تجربته عند المسلمين وبين الكاذبين الذين تنكروا لهذا التقدم وأصروا على مهم عليه من بضاعة يعلمون جيدا أنها فاسدة، ومن مظاهر ذلك الكذب ترويج العلاجات بما يسمى "الطب النبوي" على أنه سنة مؤكدة وإعجاز علمي، لكن عند الاختبار تجد الشيخ المريض منهم لا يُعالَج بهذا الطب بل يذهب لأرقى مستشفيات أوروبا مما يعني أن قناعته النفسية بتلف بضاعته أفقدته الثقة في صلاحيتها.

من هذا المدخل الحداثي أصنف زوايا النظر لكتب التراث الإسلامية إلى أربعة نظريات أّذكرها متبوعة بالشرح وهي (نظرية الشيخ التقليدي – نظرية الباحث المفكر – نظرية السياسي الصلب – نظرية السياسي المستهتر) وحجية الاحتكام لهذا المدخل أن الحداثة فرضت نفسها حتى على التكفيريين والجهلة بحيث لم يعد في إمكانهم مخالفتها أو استعادة أجواء ما قبل ظهورها، مما يعني أن التقسيم سيكون منصبا حول موقف النافذين المسلمين من الحضارة المعاصرة بالمجمل.

أولا: نظرية الشيخ التقليدي: وهي التي يتبناها شيوخ الفقه الرسميين في الأزهر والسلفية والجامعات الإسلامية وتُشاع على المنابر ويتأثر بها العوام حتى أصبحت معيارا للتدين والفضيلة في ثقافة المسلمين المعاصرة، مما يعني أن تلك النظرية هي المهيمنة الآن كمّا وكيفا على شعوب المسلمين، ومنها خرجت أيدلوجيات التطرف والجهاد العالمي بأحلام وأماني لإنشاء إمبراطوريات دينية شبيهة بالتي كان عليها العالم قبل عصر الحداثة، بل لا تخلو هذه النظرية من التفاضل القبائلي والسلالي في هذه الإمبراطورية بحيث صنعت فكرة رائجة وقناعة راسخة أن زعيم هذه الأمة يجب أن يكون عربيا ومن قبيلة قريش تحديدا.

وقد طبقت داعش هذه النظرية حرفيا في مشروعها الديني مؤخرا، ولأن هناك فجوة بين تفكير المشايخ والمؤسسات الدينية الرسمية إضافة للعوام بالنسبة للحداثة نظروا لداعش على أنها جماعة لا تمثل الدين والسبب رسوخ قيم الحداثة في أنفسهم برفض مشاهد القُبح والجريمة والغباء التي رأوها، بينما في الحقيقة أن هذه المشاهد طبقها السلف ومكمن رفضها يعود لتطور الإنسان المعاصر عن تفكير ونوازع القدماء واكتسابه قيم أخلاقية وإنسانية وقانونية لم تكن موجودة في القِدَم، فلم يجد الشيوخ حجة لنفي هذا القُبح السلفي سوى إشاعة أن جماعة داعش مؤامرة وأنها خارجية..ووووو..وكل هذا غير صحيح، بل داعش هي بنت تلك النظرية التقليدية في الفقه والعقيدة المنتشرة في كتب التراث الإسلامية، وهي ليست خارجية بالطبع بل انعكاس للسلفية المعاصرة في المذهب الحنبلي كما بيّنا في دراسة قديمة منشورة على النت بعنوان "داعش ليست خوارج بل انعكاس للسلفية المعاصرة" وفيها إثبات بالأدلة أن فرقة الخوارج لم يعد لها وجود الآن وأن داعش هي تطبيق حرفي لمذهب الجهاد العالمي المنتمي للمذهب الحنبلي السني.

ثانيا: نظرية الباحث المفكر: وهي التي يتبناها قطاع عريض من العلمانيين والناشطين في نظرية المعرفة ممن يطلق عليهم "بالمستنيرين" وهي نظرية نقدية بحتة للأولى وأنصارها من حيث الكم قليل ولكن من حيث الكيف لديهم كوادر وعلماء بارعين في الفقه أرادوا إحياء العقل من جديد ليكون هو المعيار الذي عن طريقه تُقبَل وتُرفَض النصوص، ولعقلانية هذه النظرية أصبحت موضع اتهام من أصحاب النظرية الأولى لاشتراكها مع فرق إسلامية بائدة في بعض أصولها كالمعتزلة والفلاسفة وجماعات الملحدين والربوبيين القدماء الذين انتسبوا للحضارة الإسلامية، ومبعث ذلك الاتهام هو تفكير أصحاب النظرية الأولى – الشيوخ التقليديين – بنفس أسلوب فقهاء البلاط الأموي والعباسي والعثماني الذين أفتوا بخطورة تحكيم العقل في الدين وقدّموا النقل والنصوص على ما سواهم.

ولأن الباحث المفكر هنا غير متقيد فقط بعقلانية صرفة بل لمنتج حداثي يفرض نفسه سواء من اكتشافات علمية أو تجارب عملية أصبح يطالب أيضا باحترام العلم وقبوله على النص حين التعارض، وهذه المنهجية تهدف بشكل أسياسي لقبول الحداثة والتفاعل معها واعتبار النص الديني مقدسا من زاوية العبادة والسلوك والأخلاق لا من زاوية العلم والسياسة والمجتمع، لذلك نشأت فكرة فصل الدين عن الدولة من رحم تلك النظرية وإن كانت أصولها تنتمي للفكر الغربي وتجاربه مع فصل الدولة عن الكنيسة لكن طبيعتها مورست في تاريخ المسلمين كثيرا بمن فيه عصر السلف الأول الذي تم اعتبار فيه حقبة الصحابي "أبي بكر الصديق" في الخلافة تحقق ذلك الفصل المنشود، بأدلة منها غياب سلطة كهنوتية لأبي بكر على الناس وأن الانشقاق الحاصل بعد موت الرسول أسهم في توازن قوى سياسي وفكري بين المسلمين منع نشوء ذلك الكهنوت، ولكن فور اختلال هذا الميزان السياسي والعسكري لصالح الأمويين لاحقا لم يترددوا في إنشاء سلطة كهنوتية اعتمد فيها الخليفة حارسا للدين ولمذهب السنة ضد الخوارج والشيعة..ومن هذا الزمن نشأت المذاهب الإسلامية تحديدا بخلفية سياسية.

نظرية الباحث المفكر تطالب بالتجديد ليس فقط للخطاب والفقه الديني الإسلامي بل تطالب أيضا بإعادة النظر في علوم العقائد ومنها "علم الكلام" فهذا العلم هو المهيمن والمعيار الذي صاغ به الفقهاء عقائدهم الدينية وموقفهم من الآخر في السياسة والمجتمع، وبعد تطور الإنسان الحداثي كما قلنا أصبح لزاما أن يراجع المسلمين هذا العلم وفقا لثوابت الحداثة وقوانينها الحاسمة بحقوق الإنسان والأقليات والمرأة ومنزلة العلم والاكتشافات الحديثة إضافة للنظر إلى اجتهادات عقلية نظرية لعلم الكلام نفسه رأته مجرد إحياءة للعقل التبريري ما قبل ديكارت وكانط، فلم يدرك بعد فقهاء المسلمين – حسب نظرية الباحث المفكر – تأثير ديكارت وكانط على العقل البشري، فالأول أثبت خرافية العقائد المبنية فقط على النصوص وأن العقيدة تُبنَى على معيار واحد فقط هو العقل،ومن ذلك خرج الأديب طه حسين بأفكاره المشهورة، أما كانط فأضاف لما فعله ديكارت إثبات محدودية العقل البشري عن الإحاطة بالميتافيزيقا وأن اهتمام الإنسان يجب أن يكون منصب لفهم المحسوس وقوانينه عِوَضا عن البحث في مجهول لا يُدرك ولا إمكانية لإدراكه.

ثالثا: نظرية السياسي الصلب: وهذه يمارسها الحكام والسياسيين الرافضين لأدوار الكهنة ورجال الدين في السياسة والمجتمع، أو لو سمحوا فيكون بقدر بسيط غير مؤثر، وقد طبقت تلك النظرية في بعض محطات التاريخ العربية الإسلامية لما رأينا بورقيبة وأتاتورك فعلوها كليا وجزئيا الرئيس عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود في الستينات، وجزئيا بشكل مؤقت فعلها الملك عبدالعزيز نفسه لما أصدر قراره المهم بالانفصال عن جماعة "إخوان من أطاع الله" مطلع الثلاثينات وبدء التفاعل مع الحداثة رسميا بالتعامل مع زعماء العالم دون النظر لعقائدهم والكف عن ما تبناه سابقا من جهاد وغزو واستباحة للقبائل تحت عنوان "نشر الإسلام" وهذا الموقف من الملك عبدالعزيز هو الأبرز في مسيرة المملكة السعودية اليوم حيث لولاه ما كانت للدولة الثالثة أن تقوم.

وهذا يدفعنا لسؤال مهم: هل دوافع السياسي الصلب أخلاقية أم فكرية أم نفعية؟..وفي الحقيقة أرى أن كل هذه الدوافع تتحقق أحيانا في مثال واحد عندما ثار عبدالناصر على نفوذ الإخوان وحكم الرئيس محمد نجيب مطلع الخمسينات، فبدأ يتحول لشكل تقدمي في الرئاسة لم يكن موجودا في السابق إذ ثبت أنه كان يحترم ويتعامل مع جماعة الإخوان ورموزها بشكل فوق العادي، بل كان يرفع شعارات إسلامية متطابقة مع التي ترفعها الجماعات اليوم، لكنه مع الانفصال عن الإخوان شرع في تبني اتجاهه الجديد بمكافحة الفكر الديني المتطرف واعتقال أدواته وحصار أساليبه فأدى ذلك لفترة تنوير مؤقتة لم تكن بالشكل المميز الذي فرضه بورقيبة في تونس، حيث كان التعذيب في السجون والقمع المبالغ فيه حجة للإسلاميين لبناء نفسهم من جديد والخروج للمجتمع بأفكار أكثر تطرفا لا زلنا نعاني منها اليوم.

رد الفعل الناصري من الانفصال عن الإخوان يمكن فهمه كنفعية مؤقتة وتصرفه خلال تلك الحقبة يمكن فهمه كثورة فكرية أخلاقية على تشدد المنتسبين للدين، ووقتها مع بدء طلائع ظهور الجماعات وتوظيف الدين في السياسة لم يكن الشائع حينها أن رجل الدين ممثلا للشر أو يفعل الشر، بل كان رمزا للخير والصلاح والحكمة..وأحيانا الخرافة، وقد رأينا ذلك في أفلام الخمسينات والستينات التي عكست ثقافة المصريين وقتها من احتلال رجل الدين لمكانة محترمة ومثقفة لا تتصادم مع العلم كالتي ظهر عليها الفنان "عبدالمنعم ابراهيم" مع "نجلاء فتحي" في فيلم (المراية) وأدوار رجل الدين الحكيمة التي مثلها فنانين عظام كشفيق نور الدين وعباس فارس..وغيرهم، فبالتالي عندما يرفع الإسلاميين نموذجا ضد هذا الخيال الشعبي سيكون صادما ومرفوضا في ذات الوقت، وقد استثمره عبدالناصر بشكل جيد عن طريق تصوير الإخوان بجماعة تتستر بالدين وتتاجر به لمصالح شخصية.

رابعا وأخيرا: نظرية السياسي المستهتر: وهذه التي طبقها بعض الحكام العرب بالخصوص في مصر وتونس وليبيا والسعودية وأغلب بلاد المسلمين تقريبا، وجوهرها عدم إدراك الحكام لمخاطر رجال الدين ونصوصهم بالنسبة للحداثة والحضارة، فيشرعون في تبني اتجاهات منها تمكين رجال الدين أو تشريع قوانين لصالحهم، وأبرز نموذج لهذا السياسي المستهتر هو الرئيس المصري "أنور السادات" الذي وضع موادا قانونية ودستورية غير مسبوقة هدفت لتحكيم الشريعة الإسلامية أو التقرب للجماعات لأغراض سياسية، وتلك النظرية لا تستهتر فقط برجال الدين ونصوصهم بل بحقوق الإنسان والأقليات والمرأة والآخرين بشكل عام، لذا فنحن نجد الدول التي تفعل ذلك ويحكمها سياسي مستهتر تضيع فيها الحقوق الإنسانية بشكل فاضح وتصبح خطرا على غيرها.

يوجد مثال آخر للسياسي المستهتر في الملوك "خالد وفهد وعبدالله" في المملكة السعودية، ففي زمنهم تسيدت الجماعات الدينية وحصلت دور الإفتاء ورجال الدين على نفوذ شعبي وسياسي غير مسبوق نظرا لما سلكوه وقتها من سياسات تشبه التي كان عليها السادات بتوظيف جماعات دينية لأغراض سياسية كما حدث في أفغانستان ، أو دعم وحماية الشيوخ بما يؤدي لتغول نفوذهم في المجتمع، وقد رأينا أنه وخلال عهد هؤلاء الثلاثة كيف أن الفقهاء "ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين" كانت لهم سلطات فقهية وسياسية عبر الإفتاء وتكفير الآخرين عابرة للحدود، ولم يتوقف خطر الثلاثة على المملكة بل تعداه للخارج بإقناع الشعب الخليجي وشريحة كبيرة من المسلمين بكفر بعض رؤساء العرب كالقذافي وعبدالناصر وصدام حسين وبورقيبة وغيرهم، ولولا (الاستهتار) الذي وقع فيه الملوك ما تجرأ هؤلاء على الفتوى بهذا الشكل.

مما يطرح سؤالا في المقابل: هل من الممكن أن يتحول السياسي الصلب إلى مستهتر والعكس؟..أو أن يجمع مسئولا ما نفس النظريتين في آن واحد؟

والجواب: بالطبع نعم..والمثال الأول على تحول السياسي المستهتر إلى صلب حدث في نموذج عبدالناصر حين كان يرفع شعارات الإسلاميين في البداية، ومع ختامه لحياته صلبا تجاه رجل الدين نال سمعة طيبة بين التقدميين وأصحاب النظرية الثانية "الباحث المفكر" أما أشهر نموذج للتحول من المستهتر إلى الصلب هو الأمير السعودي "محمد بن سلمان" حين بدأ حياته السياسية مستهترا يعتمد فيها على رجال الدين في دعم حروبه ضد الشيعة وأحزابهم كما حدث في اليمن حيث كان على وشك تكرار ذلك في لبنان وهدد به في سوريا والعراق بضرب حزب الله والحشد الشعبي فيما اصطلح عليه وقتها في الإعلام السعودي "عاصفة حزم العراق" عاصفة حزم لبنان" تفاؤلا بحربهم في اليمن التي كانوا يعتقدون فيها بقرب الخلاص من جماعة الحوثي.

رأينا بن سلمان في بداياته مستهترا وهو يعتمد على إخوان اليمن "حزب الإصلاح" في الحكم ولحشد اليمنيين للحرب ضد شيعة الشمال الزيود بدعوى الحوثي، ورأيناه يقتل شيعة الشرق في الأحساء بدعوى فتنة القطيف، ورأينا تصريحه الشهير والطائفي ضد إيران حين قال "كيف أحاور من يعتقد بالمهدي المنتظر " ورأينا كيف كان يعتمد على شيوخ الوهابية في حشد جنود المملكة على الحدود بشكل طائفي كالشيخ العريفي وبعض شيوخ الحنابلة في القصيم ونجد، بل رأينا كيف كان يحشد جنود السودان واليمن مذهبيا في تسجيلات مصورة على يوتيوب.

مع ذلك تحوّل بن سلمان بشكل كبير مع قدوم الرئيس الأمريكي ترامب حين أقنعه بخطر ما هو عليه من الاستهتار وتبني مشروعات دينية للحرب سياسيا، فكان من ثمرة هذا التحول البدء في إصلاحات سياسية واجتماعية تمنع تغول رجال الدين، فبدء مشروعه الإصلاحي بتحديد سلطات جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأيناه يعيد بعض حقوق المرأة في السفر بغير محرم وقيادة السيارة وحقها في الانتخاب..إلخ، ورأيناه يمنع التعرض للشيعة مذهبيا وينفتح على شيعة العراق جزئيا باستقبال مقتدى الصدر وبعض المراجع، ورأينا اتجاها عاما في صحافة المملكة تفصل بين شيعة العراق العرب وبين شيعة إيران الفرس باستدعاء لمفردات الحرب مع إيران في الثمانينات، فبرغم أن الرجل يقدم أفكار حداثية نوعا ما ويتحول تدريجيا أو بشكل بسيط إلى السياسي الصلب لكنه ما زال يعاني من عقدة إيران ويرفض كل الوساطات معها ويصدر خطابا عدائيا شبيه بالذي كان عليه الخطاب العثماني في القرنين 18 و 19 تجاه روسيا القيصرية، وقد كتبت في ذلك مقالا يقارب فيه مواقف بن سلمان مع مواقف سلاطين العثمانيين بعنوان "الإصلاح السعودي والمصير العثماني"

أما أبرز نموذج على جمع المسئول بين النظريتين "الصلب والمستهتر" هو الرئيس المصري الراحل "حسني مبارك" حين (تصلّب) جدا في موقفه برفض الحكم الإسلامي أو إنشاء أحزاب إسلامية، وقد عيّن الوزير صفوت الشريف لهذا الغرض كرئيس للجنة الأحزاب في البرلمان، مع ذلك كان (مستهترا) في موقفه من الشيوخ حين سمح لهم بالعمل والدعوة بل دعم مشاريعهم الدينية وحمايتهم بقوانين كالحسبة سنة 96 والذي حكم به على المفكر "نصر أبو زيد" بالردة وتطليقه من زوجته، بل دعم قنوات فضائية سلفية تنشر الفكر الوهابي على الناس وأسبغ عليهم كافة وسائل الحماية والتعاون من أمن الدولة، بحيث أصبح وقتها أن فلانا من الشيوخ هو عميل أمن دولة كان شائعا، ولم يكن وقتها متاحا لشكاية أي كاهن لخرقه القانون أو تكفيره للأقليات ..مما جعل آخر 10 سنوات في حكم مبارك هي جحيم إعلامي كانت فيه الوهابية ودعاوى الجهاد والكفر تخرج من على منابر الدولة.

ما فعله مبارك بالجمع بين النظريتين هو استكمال لما فعله السادات لكن بشكل أوسع، فالسادات كان مستهترا في غالب أحواله وصلبا في آخر حياته حين هددت الجماعات الرافضة للحداثة مُلكه بحجة الخيانة، أما مبارك فجمع بين التصلب والاستهتار بشكل متساوي تقريبا، لاسيما أن فترة حكمه ال 30 عاما شهدت أبرز أحداث القمع ضد الإسلاميين في ذات الوقت شهدت أبرز أحداث الصعود الإسلامي الوهابي بأريحية..وهذا التناقض مبعثه ربما جهل الرجل وإدارته بالحداثة، فقد كان يرفع شعار التقدمية دائما ومع ذلك لم يفطن لأساليبها وتطبيقها بشكل جيد، والسبب في رأيي أن حكومته القمعية التي جاءت استكمالا لأساليب دولة يوليو 52 لم تترك فسحة كافية للمفكرين والمبدعين أن يعملوا في دولته، فانقسموا منهم من هاجر ليعمل في الخارج ومنهم من سكت وصمت للنهاية حتى وافاه الأجل.

أحيط القراء علما أنه يستحيل وجود نظرية رابعة في سياسي متدين تقليدي يتبنى مذهب الشيوخ كليا، هذا سيضطر في الأخير لحرب العالم كما فعلت داعش، فأبي بكر البغدادي هو النموذج الأوضح والأشهر على هذا النوع الغير قابل للبقاء..فالبغدادي لن يكون صلبا ولا حتى مستهترا لأنه لا يؤمن بالحداثة ولا قدرات لديه أن يعترف بها سواء بطبيعة دولته القائمة على أساس ديني وتراثي صِرف أو من حيث تكوينه العقلي والنفسي كشيخ جامع وأمير لجماعات الجهاد، لذلك استبعدت وجود هذا النموذج كونه شاذا محكوم عليه مسبقا بالفناء، كذلك أحيط علم القراء الدول العربية والإسلامية الآن هي مزيج مختلط بين الأربعة وبنسب مختلفة يطول فيها الشرح والتمثيل، وأكتفي بالقول أن غالبية دول المسلمين حاليا تحكم النظرية الأولى مع الثالثة والرابعة بنسب متفاوتة، أي أن الحضور الطاغي ما زال لصالح الشيوخ التقليديين وفكرتهم التراثية عن الدين، مع ذلك فبعض السياسيين الذين يتبنون المنهج الصلب يأخذون قرارات مخالفة للخط العام وفقا لرؤية النموذج الثاني للباحثين المفكرين.

ولولا ظهور داعش ما كان ليتحول السياسي المستهتر لصلب، أو أن يتحول الشيخ من تقليدي لمفكر، فعلى ما يبدو أن هناك عالما افتراضيا يعيش فيه كل نموذج معزول عن الواقع، لكن حين يهدد عالمه الافتراضي ينتفض فورا بشعارات الواقعية والفكر، وهذا ما يحدث الآن بالحرف، فمجمل ما يحدث في مصر هو الجمع بين كل هذه النظريات بنسب مختلفة وإن كانت الغلبة لأصحاب النظرية الأولى مع الثالثة والرابعة بنسب، مما يعني أن مصر لم تتحول بعد للنظرية الصلبة أو تمكين الباحثين المفكرين، وأن العالم الافتراضي الذي يعيشه المسئولين والشيوخ يساهم في تمرير قناعات مزيفة ستشكل خطرا على مستقبل مصر إذا لم يتخلوا عن هذا الافتراض وينظروا لواقعهم بعين التجربة وتدبر ما حصده السابقون من فشل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يستحيل وجود نظرية رابعة
هاني شاكر ( 2020 / 3 / 3 - 04:08 )

يستحيل وجود نظرية رابعة
__________

سئم العالم من عبثية التعامل مع الدول الإسلامية ... و تحليل افكار و سياسات الحكام التى تفضلت بشرحها فى المقال ...

كمثال على ما اقول ... فشلت امريكا تماما فى فهم عبد الناصر او السادات او مبارك او اى عفريت ازرق يحكم دولة اسلامية

فلجأت إلى(( نظرية رابعة )) ... مفادها :

التدمير الكامل إن كان ذلك متاحا ... مثال : داعش و خليفتها

و إن لم يكن متاح ( الطالبان مثلا ، فهم يحظون بثبات المبدأ و غزارة الحاضنة الشعبية ) .. فالحل هو فى حوصلة هذه النظم فى محيط جغرافى محدود

و النظرية الرابعة ... فى طريقها إلى الفشل السريع ... عام او عامين بالكتير حتى تظهر داعش من جديد ... و تستولى طالبان على افغانستان بالكامل ... و يهدد كليهما الغرب و مصالحه فى كل مكان فى العالم


ثمن كبير و عظيم ستدفعه شعوبنا من حريتها و امنها و رفاهيتها ... بينما ( تتنطط ) حكامها و ملوكها على الحبال الأربعة كالقرود و النسانيس

...

اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد