الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حالة حب مصرية

محمد أبو قمر

2020 / 3 / 4
الادب والفن


في طفولتهما إلتقيا صدفة ، كان عائدا من المدرسه في طريقه إلي البيت ، فيما كانت هي مشغولة بدس كيس الفيشار التي تعودت أن تشتريه كل يوم لتتسلي به وهي تكتب واجباتها المدرسية في البيت ، فجأة تعثر هو في حفرة وانبطح علي وجهه بين قدميها ، انزعجت هي ووقعت الحقيبة من يدها وانفرط كيس الفيشار وتناثرت محتوياته ، غير أن اهتمامها كله انصب علي مساعدته لكي ينهض ، قالت له : الحفرة الوحشة دي هي إللي وقعتك ، ثم راحت تنفض التراب عن ملابسه وهي تقول له : إنت مشفتش الحفرة علشان كنت بتجري ، وحين أحست أنه يرفع قدمه بصعوبة انحنت في محاولة منها لتري إن كانت ساقه قد جُرحت وهي تقول له : أنا خايفه تكون رجلك التوت ، لكنه تحرك بخفة لكي يطمئنها وراح يلملم لها محتويات حقيبتها وهو يقول : أنا هاشتريلك كيس فيشار تاني بدل الكيس إللي اتبعتر ده ، ضحكت هي والتقطت حقيبتها من بين يديه وقالت له : أنا زهقت من الفيشار ، ثم أشارت له مودعة وانصرف كل منهما في طريقه .
في اليوم التالي ، في الميعاد ذاته ، كانت هي خارجة من الدكان الذي تعودت شراء الفيشار منه ، فجأة لمحته وهو يقترب من الحفرة ذاتها ويهم بالقفز من فوقها ، لكنه انتبه هو علي صوتها وهي تقول له : إوعي تنط ، ثم اشارت له بإصبعها الصغير وقالت له : لف علي مهلك من الناحية دي علشان متقعش تاني ، اقترب منها وسألها : مش قلتي امبارح إنك زهقتي من الفيشار ، دست يدها بسرعة في حقيبتها وأخرجت إصبع عسلية كبير وقسمته وناولته النصف الأكبر وهي تقول له : اشتريت النهارده عسلية محشية طعمها يجنن ، لكن كل منهما قرّب نصيبه من العسلية إلي فمه دون أن يقضم إذ راحت هي تتفحصه بعينيها الواسعتين وقد ارتسمت علي وجهها ابتسامة جعلت وجهها مثل وردة ، بينما هو كان مأخوذا كأنه يري صورته علي صفحة عينيها الواسعتين ، قالت له : إنت لابس النهارده قميص حلو أوي ، ثم مدت يدها وبكفها الصغير راحت تتحسس شعر رأسه وقالت : شعرك أنعم من شعري ، وبعد أن حركت شعره يمينا ويسارا وضعت حقيبتها علي الأرض بين قدميها ثم مدت يديها الاثنتين وأخذت تصفف شعره بأصابعها وهي تقول له ، ماتخليش الحلاق يقص شعرك من قدام ولما تسرحه ابقي افرقه من الجهة اليمين ، قال لها : إنتي أطول مني يدوب قد عقلة الصابع ، وعينيكي واسعه خالص وملونه ، تناولت هي حقيبتها وأخرجت كراسة الرسم وفتحتها وهي تقول له : شوف أنا رسمت النهاردة وردة ...شوف لونها لون الوردة إللي في قميصك ، فيما أخرج هو كراسة الحساب وهو يقول : أنا أخدت النهاردة عشرة علي عشرة والأستاذ رسم لي نجمة شوفي كبيرة أد إيه!! ، وضع كل منهما كراسته في الحقيبة وراحا يقضمان العسلية وانصرفا كل منهما في طريقه.
في اليوم الثالث وصل هو عند الحفرة وعندما هم بالقفز من فوقها تذكر أنها طلبت منه أن يلف من حولها ولا يقفز ، تلفت حوله فلم يجدها ، سأل صاحب محل العسلية إن كانت قد اشترت العسلية اليوم أم لا ، ولما وصفها للبائع سأله الرجل عن اسمها أبلغه أنه لا يعرفه ، وقال له : أصل هي زهقت من الفيشار واشترت منك امبارح عسلية وقسمتها وادتني أنا النص الأكبر ، فامتقع وجه الرجل وصرفه بحدة وهو يقول له : يعني عايزها علشان تاكل منها العسلية يامعفن يا ابن الكلب .
خرج من محل العسلية مكسورا ، بكي لأن الرجل اتهمه بأنه يريد أن يلتهم العسلية ، وبينما هو يبكي بحرقة فوجيء بلمسة يدها علي كتفه ولما استدار ورأت وجهه وقد صار أشبه بالرغيف المحروق شهقت هي وراحت تعنفه : إنت وقعت في الحفرة تاني!!...أنا مش قلتلك تلف حواليها وتمشي علي مهلك ، أهو وشك ورم من الوقعة خالص ، وفيما هي تمسح دموعه بمنديل ورقي أخرج هو قطعة شيكولاته من جيبه وقسمها وناولها القسم الأكبر منها وهو يقول لها : أنا ماوقعتش إنتي إللي اتأخرتي.
اعتادا علي الالتقاء كل يوم في ذات الميعاد عند الحفرة ، كانا يتقاسمان العسلية والشيكولاته ويعرض كل منهما علي الآخر الدرجات والنجوم التي منحها المعلمين لهما.
كانا يتبادلان الهدايا البسيطة التي يربحانها في أكياس الشيبسي ، وفي نهاية كل سنة دراسية كانا يتبادلان الكراسات التي حصل فيها كل منهما علي عدد كبير من النجوم ودرجات العشرة من عشرة .
لم يكونا في مدرسة واحدة ، وحين كبرا لم يلتحقا بكلية واحدة ، ومع ذلك لم يمر يوم واحد دون أن يلتقيا ، في كل مرة كانت تبدي ملاحظات علي تصفيفه لشعره ..قلتلك ميت مرة تسرحه كده وتفرقه من هنا وتجيب الشوية إللي قدام هنا كده ، بيديها كانت في كل مرة تعيد تصفيف شعره وتعدّل من وضع ياقة القميص ، وكان يقول لها : كل ما أنا أطول شوية تطولي انتي شويتين وعينيكي بتوسع وتلمع أكتر من الأول ، في أحد اللقاءات وأثناء ممارستها لهواية إعادة تصفيف شعره قالت له : طول عمرك مهمل .. بقيت مهندس أد الدنيا لكن لسه محتفظ بعفانتك وهمجيتك وبتمشي زي ما تكون ملكش عينين ، ثم زعقت فيه قائلة : أنا خايفة وانت ماشي زي الأعمي كده تصدم في أي عربية وتموت ، كانت ماتزال مشغولة بإعادة تصفيف شعره ولم تلحظ أنه يبكي وهو يقول : من يوم ما طلعتيني من الحفرة بيتيهألي دايما وانا ماشي إنك ماشية قدامي أو جاية مقابلاني ، وبالليل مبروحش في النوم إلا لما انتي بتغطيني ، ولما ببص في المراية علشان أسرح شعري بلاقيكي واقفة قدامي وساعتها بنسي إني كنت عايز أوضب شعري وأقف بس اتفرج علي بسمتك إللي بتبقي مالية مرايتي بالنور ، ببقي عايز أقولك إني بحبك وبلاقي إن كلمة حب اصغر بكتير من إللي بحسه في روحي وانا بفكر فيكي. كانت هي قد انتهت من تصفيف شعره ، ويبدو أنها أغمضت عينيها وهي تنصت له وهو يقول : إنتي صنعتي حياتي..طلعتيني من الحفرة علشان أمشي في السكة إللي انتي اخترتيها وأبقي مهندس شاطر وأكبر جواكي زي ما كبرتي انتي وقلبك من يومها هو إللي بينبض جوايا. هو وهي كانا كالمسحورين إذ طوال السنوات التي كانا يلتقيان خلالها يوميا بلا أي انقطاع لم تمر بهما لحظة كهذه ، قالت وهي مغمضة عينيها ماتزال : لما سألوني صاحباتي إن كنت بحبك ولا بس اتعودت عليك قلتلهم إني بخاف عليك...من يوم ماانت وقعت في الحفرة وانا خايفه عليك...كنت بذاكر طول الأيام دي مش علشان انجح لكن بس علشان اعرف ازاي احميك . كانا يتبادلان الكلام وهما مغمضي العينين كأنهما يقرآن ما هو مكتوب في روحيهما ، حدثته عن عشقها لسذاجته واندفاعه وتصرفاته الفجائية ، قالت له : انت بتطير وانت بتمشي عمرك ما حطيت رجلك ع الأرض ، لم يكن هو قد انتبه وهو يحدثها عن خصرها الملفوف ونهديها المستديرين كحبتي برتقال ناضجتين وشفتيها الملتهبتين مثل جمر النار لم يكن ينتبه أنها قد فردت ذراعيها وبدت كما لو كانت طائر يهم بالانطلاق عاليا لكنها دارت حول نفسها دورتين ثم ارتمت علي صدره حيث همس في أذنها وهو يعتصرها بقوة : إنتي كنتي اتأخرتي ليه في تالت يوم من وقوعي في الحفرة ، بينما همست هي في أذنه : إنت كنت بتبكي يومها ليه لحد ما وشك ورم؟ ، لم تكن هناك فرصة لكي يجيب كل منهما علي سؤال الآخر إذ لم يستطع أي منهما أن يخلص شفتيه من بين شفتي الآخر ، وحين بدأت الأرض تتحرك تحت أقدامهما استفاقا وانصرف كل منهما في طريقه .
في اليوم الأخير وقفت تنتظره كعادتهاعلي باب الكنيسة حيث كانت تطلب منه في كل لقاء خصوصا في أيام الآحاد أن يطلب من الله وهو يصلي أن يوافق ويبارك ارتباطهما ، كانت في ذلك اليوم قلقة ، تروح وتجيء أمام باب الكنيسة ويديها مشبكتان خلف ظهرها ووجهها مرفوع نحو السماء ، فجأة سألها أحد القساوسة أثناء دخوله إلي الكنيسة عما إذا كانت تريد شيئا ، قالت إنها تنتظر صديقها حتي يفرغ من الصلاة ، ولما سألها لماذا لم تدخل لتصلي معه انطلقت تحكي له كيف التقيا في طفولتهما عند الحفرة ، وأنهما نضجا وكبرا وهما يتقاسمان كل شيء حتي الأحلام ، شرحت للقس كيف تشعر بأن دمه هو الذي يجري في عروقها ، ثم انخرطت في البكاء وهي تقول له إنها تحبه وأن لا شيء في هذا العالم يمكن أن يفرق بينها وبينه ، ومن بين دموعها قالت له : لعلمك أنا صليت العصر النهاردة في الجامع وطلبت من ربنا إنه مايفرقش بيني وبينه ، حينئذ اصفر وجه القس ، وأراد أن يقول لها شيئا ، لكنها وضعت يدها علي فمه وهي تقول له : ادخل بص في عينيه هتلاقي صورتي مطبوعة جواهم ، انتابت القس رعشة جعلته ينصرف من أمامها داخلا إلي الكنيسة وفي نيته أن ينصح حبيبها بإنهاء علاقته بهذه الفتاة حتي لا يجلب علي نفسه وعلي عائلته وعلي الفتاة نفسها المصائب ، وحين صار القس في مواجهة الشاب وقبل أن يقول له كلمة واحدة فجأة دوي انفجار هائل تناثرت علي إثره أشلاء الولد والقس وجميع من كانوا داخل الكنيسة ومن كانوا عند الباب بمن فيهم هي ، وأثناء تشييع جنازتها كان أهلها يتساءلون فيما بينهم لماذا كانت ابنتهم المسلمة عند الكنيسة لكي تموت هذه الميتة الشنيعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا