الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضواء على الديانة اليهودية

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 3 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الشق الذي قد يخدع البعض حين حديثه في الأديان أن يناقش أي معتقد بمنظوره الديني أو الثقافي عامة، هنا يكون ذلك المنظور ليس مجرد نظارة يرى بها الأشياء بل طريق تم تعبيده سلفا بكل دعايا ومؤثرات تجعل من هذا المنظور رؤية أحادية غير علمية وكثيرة الأخطاء، وتلك هي المشكلة الكبرى التي تواجه الباحثين في الأديان والمعتقدات.

من ذلك مثلا تجد المسلم يناقش اليهودية على أنها معتقد يؤمن بجنة ونار في عالم ما ورائي علوي بعد الحساب، وهذا إغفال لظاهر النص التوراتي الذي يقر العذاب الدنيوي فقط وأن مآل الخطيئة يكون بالقتل واللعن في الذرية والأمراض كالجذام وغيرها، وقد أغفل سلف المسلمين عن هذه الحقيقة ولم يناقشوها في سياق تناول أهل الكتاب عامة ، واكتفوا برؤية الكتابيين بمنظور فقهي وسياسي ضمن أحكام الجهاد فقط دون أي نشاط منهم في ما نعرفه الآن بعلم مقارنة الأديان.

ولعل هذا الجهل الإسلامي باليهودية منبعه تطور النص اليهودي وإدخال تعديلات عليه حسب الأحداث، فالشعب الإسرائيلي منذ ظهوره على مسرح التاريخ وهو محور أحداث تاريخية مفصلية سنناقشها في تلك السطور، وبرأيي أن تلك الأحداث أبرزها اثنين، الأول: السبي البابلي عام 586 ق.م على يد الملك البابلي نبوخذ نصر، والثاني: غزو الملك الروماني تيتوس لأورشليم سنة 70 م، وكلا الحدثين يجمعهما تدمير هيكل سليمان المقدس، ويشهد على ذلك النص الديني اليهودي بمتغيرات ومعتقدات مبنية على هذين الحدثين منها ظهور مصطلح "الهيكل الثالث" الذي بناءً عليه دعت بعض طوائف اليهودية المعاصرة لإنشاء دولة تقيم ذلك الهيكل فكانت إسرائيل.

وبعيدا عن قصة هذه الدولة المعاصرة التي عاصمتها "تل أبيب" واعترفت بها الأمم المتحدة فشأنها سياسي بحت ، أقول بأن الإشارة إليها هنا في معرض نشأة اليهودية فقط لأهمية دولة المسيح المخلص في المعتقد اليهودي والذي بشرت به بعض كتب التناخ/ العهد القديم كحاكم يهودي آخر الزمان يخلص شعب إسرائيل من الظلم، وبالتالي فدراسة اليهودية لا يجب أن تغفل الجانب العاطفي المميز لصدمات السياسة، لاسيما أن تصور أي معتقد في سياقه الاجتماعي والسياسي يعطينا لمحة عن طبيعة تشكل الفكر المبني على تلك السياقات لتأثيرها في الذهن والنفس البشرية، ولأن أقدس تلك المعتقدات تصور اليهودي عن العدالة والثواب والعقاب أصبحنا في حاجة إلى فهم ذلك التصور لارتباطه ذهنيا بأحداث السياسة ودمار الهيكل والسبي والظلم الذي جرى لشعوب إسرائيل الأولى حسب العهد القديم.

مما يفتح الباب للعلم بهوية وحقيقة موقف اليهودية من الآخرة كمكان يستوعب مفاهيم العدالة والثواب والعقاب المقابلين جميعا للظلم، وهل لو وجد الحساب الأخروي تاريخيا سيكون متعلق فقط بفترة ما بعد السبي البابلي في القرن 6 ق.م وشعور العبيد اليهود وقتها بالحاجة إلى حساب ما ورائي يعاقب نبوخذ نصر وتيتوس وجنودهما وكل من دمّر الهيكل؟ أم كانوا ينتظرون إصابة أعدائهم بالجذام والجدري والقمل كما جرت عليه العادة بتصوير نبوخذ نصر بصورة مسخ مريض في الرسومات اليهودية القديمة؟ أم جمعوا بين كل ذلك في معتقد تطور عن اليهودية الأولى مما يدفعنا لمناقشة حقيقة تصور العبرانيين لدينهم مع الزمن ورصد كيفية تطوره.

وفي هذا السياق نطرح السؤال الحاسم : هل توجد آخرة في الديانة اليهودية تحقق مبدأ الثواب والعقاب الملازمين للعدل؟ قلت: يوجد نص يهودي فلسفي شهير إسمه "ديريش هاشم" Derech Hashem كتبه الحاخام الإيطالي "موشيه لازاتو" في القرن 18م ومختصر هذا النص أنه تعاليم سلوكية وعقلية في الدين اليهودي، يقال أنها تطور لما فعله اليهود في المدراش وكتابات بن ميمون..لكن لازاتو حاول الجمع فيه بين الثلاثي (الدين والعقل والأخلاق) ولأن دافع ممارسة الأخلاق يتحقق ب (الوعد والحساب) قال لازاتو بأن الأجساد ستبعث في عالم مفارق لم يحدده ولم يسميه، مع العلم أن بعض اليهود المتشددين ثاروا على أفكار لازاتو بعد ذلك لاعتقادهم إن الحساب ليس في عالم مفارق ولكنه يحدث في الدنيا وبعد الموت في القبر.

وبرأيي أن لازاتو كان تعبيرا للفكر اليهودي في زمنه المشغول بتحرير قضايا فلسفية كالروح، وبالتالي ما كتبه كان امتداد لما أحدثه اليهود الأوكران المسمين ب "الحسيديم" الذين آمنوا بوجود نوعين من الروح، الأولى حيوانية والثانية إلهية، تقوم الأولى بفعل الشر والثانية بفعل الخير، شئ أشبه بقصة آهورامازدا وأهريمان في الزرادشتية، صراع بين الخير والشر في نفس الإنسان طبيعي يتطور بنصوص لازاتو التي أكد فيها على وجود بعث غيبي في عالم مفارق يحقق العدالة ويجعل للأخلاق معنى.

أما أن اليهود بشكل عام يؤمنون بآخرة؟..فالجواب : نعم..ولكن هي على قسمين أرضي دنيوي، وأرضي في عالم مفارق، القسم الأول فيه يسموه بالدينونة أي حكم المسيح آخر العهد الذي بشر به سفر أشعياء، وفيها خلاف كبير بين المسيحيين واليهود..بمعنى أن المسيحي يؤمن أن انتقام الرب في الدينونة سيكون من اليهود الرافضين للسيد المسيح، بينما اليهودي يؤمن بأن الدينونة لعقاب خصوم إسرائيل أو الأغيار، ومفارقة لطيفة أن الدكتور الخشت رئيس جامعة القاهرة الذي ناظر شيخ الأزهر منذ عدة أيام له كتاب عن "تطور الأديان" ذكر فيه تلك النصوص الدالة على اعتقاد اليهود بالآخرة.

أما القسم الثاني فتوجد إشارة تاريخية لاعتقاد اليهود في البعث الأرضي أولا: في ما سمي بالملائكة المدمرين Destroying angel وكيف أن دورهم معاقبة الإنسان في حياته وبعد الموت، وأشهر هؤلاء الملائكة هو الملاك "دوما" وبرغم أن هذه المعتقدات غير مدونة في التناخ بشكل رسمي لكنها أخذت بعدا شعبيا في الأدب التوراتي وشروحه في المدراش..والمدقق في تاريخ وسيكولوجيا اليهود يرى أنه ومن كثرة تعرضهم للاضطهاد والقمع والطرد تعلقوا بزعمائهم الدينيين الذين كانوا يفسرون هذا المصير من زاوية دينية ميتافيزيقية، فأصبحت كتابات هذه الزعماء تضاهي في قوتها ورمزيتها قدسية النص الديني، ومن تلك المرجعية جاءت قدسية التلمود والمدراش إضافة لسائر كتب العهد القديم دون الأسفار الخمسة.

ثانيا: وجدت إشارة معتقد اليهود بعذاب القبر عن طريق مؤرخي المسلمين الأوائل الذين نسبوا هذا المعتقد ليهود المدينة، وهذا صحيح بالمجمل..فاليهود الأوائل آمنوا بأن أرواحهم تذهب بعد الموت في حساب أخروي في القبر هو شكل من أشكال محكمة الموتى في الدين المصري القديم، مما يعني أن مصدر عذاب القبر الإسلامي هو تفسير يهودي لنصوص التناخ في المدراش والأدب الشعبي التوراتي تأثرا بعقائد المصريين القدماء بعد الموت، وفي دراستي عن ديانة مصر القديمة أشرت لذلك..وفي دراسات أقدم منذ 6 سنوات نشرت دراسة مفصلة عن مصدر هذه العقيدة لدى اليهود..وكيف أن الروايات التاريخية الإسلامية اتفقت تقريبا على أن الرسول أخذها من يهود المدينة (حسب قولهم)

والمدراش هو مجموعة كتب يهودية للأحبار ضمن عدة صنوف علمية منها القصص الشعبي والحِكَم العملية والمواعظ الاجتماعية والسياسية، لكن محورها يدور حول تفسير الحاخامات للشريعة اليهودية في الأسفار الخمسة، ولأنها جهد خاص للأحبار فقد اتصفت بكل ما يوصفون بها من انحيازات سياسية وفكرية وقدرات ذهنية منها الأخذ بالظاهر والباطن..فصارت تفاسير اليهود في المدراش تأخذ النزعة الباطنية في تفسير النصوص مما يعني إضافة جهد شخصي أو وضع أحكام خاصة مكتسبة لاحقا صفة التقديس لتصبح نصوص مقدسة بحيالها.

والمدراش عموما لم يختص بتفسير الكتب الخمسة الأولى في التوراه بل طالت تفاسير بقية كتب التناخ كالنبوئيم والكتوبيم، وبالتالي هي لا نظير لها عند المسلمين إذ أنه يكون بتلك الصورة يساوي بين كل نصوص التناخ من حيث القيمة، في حين نجد المسلمين يصنفون في القرآن على نوعين (تفسير وعلوم) بينما الحديث (شروح) هنا المدراش يجمع بين كل هذه الأنواع ويضع كل أسفار التناخ في مرتبة واحدة لتخرج بشروحات هي المهيمنة على الفكر اليهودي بعد التلمود، وعليه أيضا نستنتج أن المدراش مختلف في جوهره عن التلمود لاسيما الأخير غير متقيد بنصوص التناخ بل هو كتب مستقلة وحكايات مضافة للتناخ، بينما المدراش مرتبط بالتناخ حرفيا.

أما سفر أشعياء فهو أيضا حاضر للتبشير بقيامة بعد الموت، والدارس لهذا السفر يجده عبارة عن تنبؤات أكثر منه تعاليم..بمعنى أن الآخرة في الفكر اليهودي هي تنبؤات متسقة مع فكرهم الأسطوري عن الزمن والمستقبل..وفي موسوعة الصهيونية للمسيري ذكر أن اليهود هم أكثر طوائف العالم تعلقا بأحداث المستقبل وتفسيرها على نحو خرافي مشحون بالأمل..وفي تقديري أن هذا صحيح لكن ينافسهم في المركز الأول طوائف السلفية الإسلامية المعاصرة ومن ضمن هؤلاء داعش والقاعدة الذين انشغلوا بالزمن والمستقبل وفقا لنصوص تنبؤية قديمة عن أحداث نهاية العالم والمهدي المنتظر وملاحم آخر الزمان..

وأضيف أن ذكر دولة إسرائيل في هذا السياق للملاحم المنتظرة، لا ينفك عن ظهور الحاخام الألماني "سامسون رافائيل هيرش" في القرن 19 كمجدد للفكر الديني اليهودي بمشروعه المعروف ب "الأرثوذكسية اليهودية" وهو مشروع عبر فيه أنصار هيرش عن حاجتهم للتقيد بأوامر العهد القديم من ناحية والتعايش مع الحداثة والعلمانية من ناحية أخرى، وبرأيي أن هذا الاتجاه لهيرش أثر كثيرا على مفكري العلمانية اليهود في الجمع بين صدقية النص الديني والتعايش مع الحداثة..لاسيما وأننا سنناقش كيف أن هذا التعايش استفاد من رؤية الحاخام " موسى ابن ميمون" للإيمان اليهودي في الجمع بين الفلسفة والدين.

إضافة إلى أن مشروع هيرش أدى لإحياء اللغة العبرية الحديثة Modern Hebrew كلغة مقدسة تتفق مع العلم حتى صارت هذه اللغة أحد معالم إسرائيل الحديثة برغم ظهورها المتأخر كلغة رئيسية لحوالي 6 مليون من شعوب الشرق الأوسط، فقد كان اليهود سابقا إما مضطهدين سياسيا وغير مسموح لهم بإقامة أي إنجاز ثقافي جماعي في ظل إنجازهم الفردي، أو منخرطين في ثقافات أخرى ويظهرون كجنسيات محلية لا هوية جامعة لهم، وقد حدث التحول بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو عام 1815م حين سمح الأوربيون بقدر كبير من حرية الشعائر الدينية للأقليات، وقد اخترت هذا الزمن تحديدا لكون حروب نابليون تأثرت بثقافات وصدمات وكوارث القرون الوسطى الدينية التي عطلت نجاح الثورة الفرنسية فترة من الزمن..والشرح في ذلك يطول.

لكن مشروع هيرش برغم إحيائه للغة العبرية وتأثيره على علماء ومفكري إسرائيل الحداثيين لكن لا نستطيع القول أنه كان مؤثرا في صعود وتأسيس دولة إسرائيل، فالرجل – حسب كتابات فيلدهايم – كان معارضا لكيان إسرائيلي قبل دولة المسيح آخر الزمان..وهو الاتجاه الذي أسس حركات يهودية معارضة لإسرائيل لاحقا كجماعة " ناطولي كاردا" الموصوفة بالتشدد ، إنما فضل تأسيس دولة إسرائيل فكريا يعود للحاخام الألماني "هيرش كاليشر" ت 1874 م والذي رد عليه رافائيل هيرش حسب فيلدهايم معارضا، وبالتالي نحن أمام خطين يحكمان دولة ومجتمع إسرائيل فكريا، الأول : أصولي تابع لكاليشر يرى ضرورة جمع يهود الشتات والمشردين حسب قوله في دولة واحدة، والثاني: أصولي حداثي لرفائيل هيرش يرى ضرورة تقيد اليهود بتعاليم التوراه ومعايشتهم للحداثة والعلمانية من ناحية أخرى.

وهذا يفسر كيف أن إسرائيل بهذين الاتجاهين كوّنت أحزاب وتيارات عظمى حكمت إسرائيل لاحقا نجحت في إنجاز دولتها سياسيا وعلميا وعسكريا، فهم مؤمنين بالحداثة والعلمانية في الجوهر..في ذات الوقت مؤمنين بضرورة سماع واحترام تعاليم التوراه والوصايا وتنفيذها حسب الثقافة اليهودية العامة بتقديم التلمود على سائر كتب التناخ، وهذا ما حمل المسلمين والعرب على وصف مجتمع إسرائيل بالمجتمع التلمودي ويظنون أن ذلك يوافق تصورهم عن الدولة الدينية التلمودية..بينما يغفلون الشق الحداثي المرافق لهذا التصوّر التلمودي مما يعني أننا أمام حالة ازدواجية جمع فيه شعبا بين متناقضين مثلما جمع الإيرانيين متناقضين أولأ: عن طريق إيمانهم بدولة الإمامة الشيعية وولاية الفقيه من ناحية، ثانيا: عن طريق إيمانهم بالحداثة والاستعانة بأدوات الفلسفة الإيرانية لفهمها في مرجعيات قم حتى بات فهم الحداثة للإيراني البسيط متاحا في التعليم الديني.

وهو أمر يفقده العرب وخصوصا المسلمين السنة الذين لم ينجحوا بعد في التعايش مع الحداثة أو الإيمان بها ولا زالت مفاهيمهم عن الدولة لا تخرج من الشق التراثي الذي ميّز الجماعات الإسلامية في السبعينات.

المهم: أن عصر التدوين اليهودي في زمن "عزرا الكاتب" القرن 5 ق.م وما بعده تأثر فيه اليهود بالثقافة الهلنستية الجامعة بين العقل الهلليني اليوناني والروح المشرقية، واليهود بشكل عام يؤمنون أن الإنسان مُكوّن من جسد وروح فقط..خلافا للمسلمين الموجود لديهم (جسد وروح ونفس) واليهود يقصدون بالروح هي نفس المسلمين ولا يشغلوا أنفسهم بجدلية الروح والنفس اللي استهلكت مجهود فقهاء ومتكلمي المسلمين فترة من الزمن وإلى اليوم..ومكانة الروح في الحساب مهمة في مقارنات الأديان كونها الشئ الوحيد القابل للخلود المتسق مع فكرة الحساب.

وهنا يطرح دور مهم للفيلسوف اليهودي الأندلسي/ المصري "موسى بن ميمون" كأبرز شخصية تكلمت في الآخرة بصورة مختلفة عن سلف اليهود..ودوره الكتابي في هذا السياق مهم لرصد كيفية تطور اليهودية مع الزمن كما طرحنا في المقدمة ، ففي القرن 12 م ولد الرجل في أسبانيا وكتب عدة مبادئ لعقيدة يهودية جديدة أصبحت بعد ذلك أساس لكل مجدد يهودي ، علما بأن ابن ميمون لم يعرف في الغرب بهذا الإسم ولكن ب "ميمونيدس" Maimonides ومبادئه عرفت بمبادئ ميمونيدس ال 13 الإيمانية التي شكلت بعد ذلك أساسات الإيمان للشعب الإسرائيلي إلى اليوم.

آخر مبدأ لميمونيدس رقم 13 هو (قيامة الأموات) الذي اعتبر فيه أن التوراه قالت بالبعث لزوم العدالة في الثواب والعقاب ولخلود الإنسان نفسا وجسدا بشكل أبدي، شئ أشبه بتصور المعتزلة عن العدل والوعد والوعيد في الأصول الخمسة لديهم، وهذا يعني أن شراح التوراه الأوائل لم يقولوا بما قاله بن ميمون..أو المسألة لم تكن واضحة والنص غامض، والدارس لمعتقد اليهودية يرى أن مفهوم "التوراه" مختلف فيه بين اليهود أنفسهم قبل أن يكون مختلف فيه مع المسلمين والمسيحيين..

باختصار: فهناك 3 أنواع من التوراه ، الأولى: هي السامرية وتتضمن 5 أسفار فقط هي (اللاويين والخروج والتثنية والتكوين والعدد) وهي المعروفة عند المسلمين ويشار إليها في القرآن وتفسيره، أما الثانية: فهي العبرية وتتضمن هذه الأسفار الخمسة إضافة للكتوبيم والنبوئيم وهي مجموعة أسفار فوق ال 30 كتاب..وهي التي يؤمن بها سائر اليهود كنص ديني مقدس إضافة للتلمود والمدراش، أما الثالثة: فهي السبعينية وهي الترجمة اليونانية للتوراه العبرية ولا يؤمن بها سوى المسيحيين، مما يعني أن مصطلح التوراه في الحقيقة غير واحد، لكن المجمع عليه أن كل هذه الأنواع من التوراه سميت ب (العهد القديم) لذلك أحيانا تسمع كلمة توراه يقصد منها العهد القديم..والعكس صحيح..

وهنا يسأل سائل: ما الفارق بين الكتاب المقدس والعهد القديم؟ ..قلت: الكتاب المقدس هو تسمية جمعت العهدين القديم والجديد معا، فأما العهد القديم هو كتب اليهود المسماه ب "التناخ" كما تقدم، وأما العهد الجديد هو الأناجيل الأربعة ( متى ولوقا ويوحنا ومرقس) وسائر كتب الرهبان والزعماء المسيحيين الأوائل الذين آمنوا بمجمع بولس ونيقية وغيرهم، المسيحيون فيؤمنون بالعهدين معا في الغالب عدا بعض فرق المسيحية التي لم تعد تؤمن بصحة العهد القديم..

وثمة إشارة مهمة: أن اليهود لا يسمون كتبهم بالعهد القديم بل ب (التناخ) ويشتمل ذلك العهد على التوراه وكتب الأنبياء والأحبار الأوائل في بني إسرائيل خصوصا بعد العودة من الأسر البابلي، وبالتالي فتسمية العهد القديم جاءت من "مسيحيين يؤمنون باليهودية" ومصدر ذلك المسيح وتلاميذه الأوائل الذين قدموا أنفسهم للمجتمع كعاملين بالتوراه وليسوا منكرين لها مصداقا لما جاء في القرآن "وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور "[المائدة : 46] وبالتالي فكتاب المسيح هو مُكمّل للعهد القديم بين الله وشعب إسرائيل بصفته مُصلِحا إسرائيليا بالأساس، ونتيجة لذلك أن أصبحت نصوص المسيح وتلاميذه هي العهد الجديد.

وهذا يعني أن فهم ديانة المسيح لن تكون سوى بعد فهم اليهودية أولا، فعندما انفصلت المسيحية عن الدين اليهودي كان الانفصال تأويلي حول نصوص التناخ بالأصل ثم صياغة هذا الفهم داخل كتب العهد الجديد، علما بأن الانفصال حدث في زمن لاحق للمسيح ولم يحدث في عصره..وبالتالي فالمسيح توفى مصلحا يهوديا إسرائيليا من الناحية التاريخية، ومات على الصليب كمذنب حسب المعتقد اليهودي..وأخيرا صعد إلى السماء ليعود مُخلصا من الدجال حسب المعتقد المسيحي الشائع، ولهؤلاء جميعا قصص مختلفة صاغت هذه النتيجة مع الإشارة بأن المعتقد المسيحي حول صعود يسوع إلى السماء دخل الإسلام رغم نفي القرآن إمكانية ذلك وتأكيده لموت المسيح في عديد من الآيات كأي بشر..

أما من حيث القدسية فاليهود يقدسون كتاب "التلمود" عن سائر كتب التناخ، وهو آخر ما تم تدوينه من كتب الرهبان والأحبار طوال عدة قرون، مما يعني أن مكانة النص في اليهودية ليست من حيث التدوين والرمزية الدينية..بل من حيث الاستعمال والعادة، بيد أن اليهود منذ كتابة آخر كتب التلمود وهم يقدمونه كشارح ومفسر ومهيمن على بقية كتب التناخ مثلما يقدم السلفيون والأزهريون في الإسلام كتب الحديث السنية على القرآن ويؤمنون بهيمنة شروح الحديث على أي نص ديني فما اصطلح لديهم بقاعدة "السنة تنسخ الكتاب" و "السنة شارحة للكتاب"..وهكذا

وبالنسبة لموسى بن ميمون فلم يتعامل إلا مع التوراه العبرية المسماه بالتناخ، وله شروح للمشناه في التلمود وكتاب فلسفي آخر وفّق فيه بين اليهودية والفلسفة الأرسطية، لذلك يعتبر من أقدم شراح أرسطو بين اليهود ودوره في الفكر اليهودي المعاصر كبير خصوصا بين الحداثيين، ودوره أصبح مهم بعد النهضة الأوروبية وتقريب فلاسفة اليهود لعقائده وشرحها للعامة..مما أدى إلى أن أصبحت رسائله في الإيمان هي محور عقائد اليهود الآن..بما فيها الرسالة ال 13 الخاصة بقيامة الأموات ..

لكن مع هذه المكانة لابن ميمون لا تستطيع القول أن اليهود يعتبروه معصوما وتصديقه واجب، هم يحترموه ويتعاملوا مع رؤيته كاجتهاد ذكي من شخصية فذة، لكن ما قاله في الأخير غير ملزم...وهذا لسبب مهم جدا هو أن اليهودية الأولى – سلف اليهود – كانوا دنيويين وماديين يرون أن الله خلق العالم لإسرائيل فقط ، وأن الأغيار - كل غير اليهود – مسخرين لخدمتهم كمكافأة من الرب لهم ..وبالتالي فكرة الثواب والعقاب عند سلف إسرائيل كانت في الدنيا ساعدهم أن نصوص العهد القديم لم تهتم بالحياه بعد الموت كما اهتم بذلك الإسلام والمسيحية، وهذا التصور خدم اليهود جدا بعد ذلك..كونه باختصار ساعدهم على عقلنة دينهم واستيعاب الحداثة مبكرا، فيمكن القول أن غالب فلاسفة ومفكري وعباقرة الحضارة الأوربية كانوا يهودا أو من جذور يهودية..ساعدهم تفكيرهم الدنيوي على عدم التعلق بالآخرة ونسيان الموت والتركيز في العمل، خلافا للمسلمين بالذات الذين لا زالوا يفكرون في الموت والحياه بعده مما أدى لإهمالهم الدنيا وتأخرهم في التطور الحداثي، وأي عملية مقارنة الآن بين عقل يهودي حداثي وآخر مسلم تقليدي سيلحظ فارق كبير..هذا يعيش في الحاضر والمستقبل بينما ذاك يعيش في الماضي.

إنما المؤكد أن عقيدة موسى بن ميمون خدمت الإيمان اليهودي خصوصا في عصر ما بعد الحداثة وقيام هتلر بإبادة ملايين اليهود، حينها أثير السؤال: لو لم يكن هناك بعثا للأجساد وحسابا على الشر فما فعله هتلر فيهم لا جزاء له وبالتالي يشجع على تكراره، كذلك ما فعله ابن ميمون خلق أطماعا نفسية في الخلود الأبدي طبقا لتفسيره للروح وخلودها في جنة عدن، ففي السابق كان مجرد أن يعيش الإنسان سعيدا لمدة 60 عام مثلا ويموت..هذا أقل من أن يخلد بنفس الدرجة من السعادة، وطبقا للرؤية البراجماتية فقد اكتسب اليهود هذا الطمع بالخلود..إضافة ليقينهم بأن الله سيعاقب هتلر على جريمته وأن انتحاره في الحقيقة – كما أشيع – ليس عقابا بل نهاية مريحة بالسم.

وبخلاف الأديان الأخرى ..تكاد اليهودية تتفرد بأن مصدرها ليس نبيا واحدا أو مصلحا واحدا..أو حتى جماعة واحدة، بل شعب بأكمله..وهذا أعطاها خصوصية بعيدة عن فكرة المؤسس ليصبح محورها ليس فكريا بل (شعبيا سلاليا) بمعنى أن الانتساب لإبراهيم وإبنيه إسحاق ويعقوب سلاليا يعني الانتساب مباشرة لإسرائيل، وأن كل من سمع الله يتحدث فوق جبل سيناء لموسى هو شاهد عيان على صحة دينه، وبالتالي نحن لسنا أمام دعوة وتصديق بل شهادة جماعية مصدقة، إضافة لأن العبرانيين وقتها كانوا في شدة 40 عاما ينتظرون أقل فرصة تنجدهم من مأزقهم..ما بالك وأن هذه الفرصة جاءت من الرب نفسه..سيصدقوها مباشرة..

ظهرت هذه الصيغة في تسمية كتابهم المقدس ب "العهد القديم" أي العهد الذي أخذه الله على بني إبراهيم وأولادهم، بالتالي فلا يوجد مؤسس وداعية واحد لليهودية إنما هي عوامل تضافرت مع بعضها لتخرج بالشكل النهائي لليهودية التي نعرفها، حتى النصوص المقدسة تجدها متكاملة وظيفيا، فسفر التكوين عقائدي والخروج سياسي والتثنية أخلاقي سلوكي واللاويين تشريعي وأخيرا سفر العدد جمع بين التشريع والسلالة، فخرجت أسفار اليهودية العظمى تؤكد ما قلناه أن محور اليهودية (سلاليا شعبيا) من جهة و (تشريعي قانوني) من جهة أخرى، وبالتالي لا دور لزعيم واحد أو مؤسس كما يحدث في الأديان الأخرى.

حتى في كتب الأنبياء نجد أن وظيفة التنبؤ في عدة أسفار مشهورة كإشعيا وحزقيال اللذان يرجح ميرسيا إلياد أنهما كتبا أواخر عهد السبي البابلي في القرن 6 ق.م من كتاب مجهولين، ولأن اليهود وقتها كانوا مسبيين ومضطهدين فخرجت النصوص تبشر بميلاد جديد ومخلص ينقذ شعب إسرائيل من محنته، وبرأيي أن فكرة مخلص آخر الزمان أو المهدي المنتظر خرجوا من وحي هذين السفرين، فالتأثير اليهودي كان كبيرا على التراثين المسيحي والإسلامي، ولكون السلالة دورها كبير في الدين اليهودي أصبح التفكير بجمع هذه السلالة في دولة واحدة يشكل خطرا عليهم إما بالانشقاق أو التغريب أو الاختراق أو الإبادة، وهذه كانت محور انتقادات "إسرائيل شاحاك" للدولة اليهودية في إسرائيل ضمن كتابه عن الديانة اليهودية وتاريخها.

وبالتالي قصة الوحي في اليهودية ليست فردية بل أشبه ب "الوحي الجماعي" وهذا ما يجعلهم يسخرون من وحي المسيح والرسول محمد، منطقيا يقولون أن الإيحاء لواحد دون شهادة أمر عبثي ، فلو جاء بأمرٍ عقلي مثلا فيُنظر في دليله عن طريق أهل العقل، أما لو جاء بمجرد ادعاء نبوة دون شاهد واحد يرى ويؤكد هذا الوحي فمن حقهم أن يرفضوه ويتهموه بالكذب، أما بالنسبة لهم فالوحي الجماعي وسماع صوت الرب هو حجة في حد ذاته..

لكن السؤال في المقابل: ما الدليل على ثبوت الوحي الجماعي؟ فنحن نعلم أن موسى حسب التاريخ العبراني كان يعيش في القرن13 أو 14 ق.م بينما الأسفار كتبت بعده على الأقل ب 800 سنة..فما الضامن على بقاء السفر نقيا دون تحريف طوال هذه المدة؟..وهل النقل الشفهي والحفظ النفسي كافيين لبقاء النص على حاله؟..وما حقيقة تأثير كل الأحداث السياسية بدءا من زمن الدولة الحديثة المصرية مرورا بشيشنق ونبوخذ نصر ثم اليونان والرومان على النص التوراتي؟ وبرأيي لكي يمكن فهم الديانة اليهودية بعيد عن تلك الأسئلة علينا أولا بدراسة قصة النبي إبراهيم في الكتاب المقدس والقرآن، ثم مقارنتها بسلوك اليهود تجاه المخالفين..وخصوصا الوثنيين منهم، فاليهودية شديدة الرفض للوثنية أو التعددية، وزعمائها الأوائل كانوا ثوّارا على المعتقدات القديمة..

وبالتالي وفقا لهذا السياق فالإسرائيليون الأوائل كانوا مولعين بالأنساب ويفسروها بشكل ظاهري، والسبب عدم وجود أصل ذهني أو دليل علمي لديهم، ومن ذلك مثلا تفسيرهم أن أبناء مصر (مصرايم) هم أشقاء لأبناء السودان (كوش) لتقارب الشبه والجيرة بينهم، وفي الحقيقة أن مصرايم وكوش هذه اختراعات نسب إسرائيلية نقلها العرب لاحقا لكون اليهود على مدار 2000 عام قبل وبعد الميلاد كانوا هم المصدر الأول للثقافة في الشرق الأوسط بصفتهم ورثة الساميين القدماء (سومر وبابل وآشور وفينيقيا) بعد انقضاء دولهم في العراق والشام، وقد فصلت بعضا من ذلك في دراسة "أصول العرب ومكر التاريخ" على الإنترنت.

وكان العهد القديم هو المعجزة الإسرائيلية التي خلّدت ثقافتهم السلالية تلك كونه أقدم مدونة بشرية إلى الآن تجمع بين الدين والقبيلة والسياسة والأخلاق والقانون..إلخ، فرسميا بدأت كتابته في القرن 5 ق. م لكنه شفهيا كان متداول قبل هذا التاريخ ليعاصر ملوك في عهد الأسرات، وبرأيي أن تدوينه ربما يكون أسبق على السبي البابلي في القرن 6 ق.م لأنه كان يستخدم مصطلحات ما قبل السبي للتعريف بنسل إبراهيم..الذي هو " إسرائيل" بينما مصطلح "اليهود" هو ما بعد السبي لكون هذا الشعب من سبط يهوذا، وبالتالي فكافة تسميات العهد لأبناء مصر والسودان هي تسميات (إسرائيلية) محضة ومن ذلك أسماء (مصر وفرعون) التي ورثوها من أجدادهم في سومر وآكاد وفينيقيا، بينما هذه التسميات لم يعرفها المصريون خلال عهد الأسرات الذين كانوا يسمون بلدهم "كيمت" أي الأرض السوداء، أو "هيكوبتاح" أي معبد بتاح، فإذا علمنا أن الأرض كانت إلها مصريا إسمه (جب) فتسمية الأرض المؤنثة أصبحت (جبت) لأن حرف التاء بنهاية الإسم كان يطلق على الإناث ..لاحظ (كيمت/ الأرض السوداء – ماعت/ إلهة العدل – نوت / إلهة السماء – نفت/ إلهة الحياه والولادة) ثم جاء عصر اليونان البطالمة الذين حكموا مصر قرابة 300 عام فأثروا على كل شئ بما فيها نطق هذه الكلمات، فأصبحت (جبت - جبتوس) و (نفت – نفتيس) و (منف – ممفيس) وهكذا.

من جانب آخر يمكن اعتبار الألف الأول قبل الميلاد هو التاريخ المعلن للثورة الإنسانية ككل على معتقدات ما قبل التاريخ، ففيها ثار اليهود على معتقدات الشام والعراق ومصر، وثار بوذا على معتقدات الهند ..وثار زرادشت على معتقدات الآريين وآسيا الوسطى، حتى عندما دخل اليونان مصر أدخلوا تعديلات على عقائد المصريين ومزجوا بين بعض آلهتهم وآلهة الشرق، وفي نفس الفترة ثار العقل الإنساني ضد التوجه الروحاني للأديان فظهرت الفلسفة اليونانية ومنتجاتها من الهللينية والهلنستية..

اليهود الأوائل تأثروا بهذه الثورات واكتسبوا معالمها على مراحل، ففي البداية رفضوا الوثنية وتعدد الآلهة، ثم انتهوا للمزج والتوفيق بين العقل والروح في الحقبة الهلنتسية، وهو زمن التدوين اليهودي المفترض الذي كتبت فيه معظم النصوص المقدسة للشعب العبراني، أي باختصار شديد: اليهودية كانت أول محاولة لإدخال العقل في الأديان خلافا لمعتقدات ما قبل التاريخ، وشرحت قبل ذلك كيف أن العقل لم يكن له دور في حضارة مصر القديمة..بل الروح والقلب مما يجعلها ديانة سلوكية أخلاقية أكثر منها نظرية..وهذا يفسر لماذا غابت ظواهر الحرب الدينية ومعارك الغزو العقائدي قبل اليهودية، لأن البشر وقتها كانوا يتعاملون مع الدين كوسيلة فقط للأخلاق والالتزام السلوكي وتفسيرا لظواهر الكون، وبالتالي نكتشف أن معارك الغزو المقدس هي عارض أساسا للعقل خلافا لرسالته الأصلية بالعدل، وهي قصة جدلية في فلسفة الأديان والأنثربولوجي موضوعها كيف يختلف الإنسان دينيا؟ ستجد أن ذلك يحدث بمؤثرات عقلية نسبية أكثر تبناها بعض الملوك التي فرضوها بالقوة الجبرية.

المهم: قصة إبراهيم هي محور فهم اليهودية في ثورته على التعددية الوثنية من جانب، وأضيف جانب آخر هو الجانب السلالي الذي ادعى فيه اليهود نسبا مقدسا لسام بن نوح ، وبالتالي نفهم أن ادعائهم وتشرفهم بالنسب لإبراهيم هو امتداد لشرف القبيلة السامية، وعند ظهور النبي العربي في شبه الجزيرة طعنوا في نسبه لإبراهيم لتهديده هذا الشرف القبلي فنزل القرآن " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" [آل عمران : 67]

برغم أن العرب هم أشقاء للعبرانيين في القبيلة السامية ولغتهم الأصلية واحدة، والعرب بدورهم اخترعوا نسبا يتصل بإسماعيل بن إبراهيم كي ينقلوا هذا الشرف الإبراهيمي لهم..برغم أن أصول عرب الجزيرة كانت من هجرات قديمة للأنباط المديانيين وشعوب العراق القديمة خصوصا السومريين والبابليين بأربعة أدلة:

الأول: ثبوت عيش الملك البابلي نبونئيد في تيماء العربية والقريبة من البتراء عاصمة ميديان النبطية، مما يلزمه حدوث هجرات مرافقة للملك

الثاني: وجود آثار سومرية في حضارة دلمون في البحرين بشكل يغطي تقريبا معظم آثار الجزيرة، مما يعني أن دلمون وقتها كانت ولاية سومرية وصلها العراقيون برحلات الصيد، وقد تحدثت مع بعض مثقفي الخليج في ذلك اعتراضا على زعمهم بوجود حضارة عربية مستقلة، وقلت أن مظاهر التحضر العربي كانت امتدادا لحضارات دول الجوار بأدلة منها فقدان العرب خطوطهم الخاصة قبل القرن 7م فكانوا يكتبون بالقلم اليمني الجنوبي (الخط المسند) والقلم الآرامي الشمالي (الخط النبطي) المستعمل وقتها في مملكة بابل.

الثالث: وجود النصارى الأبيونيين في شبه الجزيرة وهم الذين رحلوا من فلسطين أول 200 سنة في المسيحية نتيجة لاضطهادهم بعد مجمع بولس في أورشليم سنة 50 م، وهم الذين تحدث عنهم القرآن كفرقة مخالفة ولم يذكرهم كطائفة مسيحية منشقة ومختلفة حول طبيعة السيد المسيح.

الرابعة: أن معظم آلهة العرب في مكة وما حولها كانت في الشام جاءت بالتوازي مع هجرات الوثنيين للجنوب بعد شيوع اليهودية والمسيحية في الشمال.

وبالتالي نصل لنتيجة حاسمة: أن الخلاف العربي اليهودي حول الشرف القبلي لإبراهيم كان عارضا بعد الإسلام..أو حدث في حياة النبي بشكل طفيف ثم تضخم بعد ذلك نتيجة لثقافة الشرق الأوسط بالعموم التي تعتمد في جوهرها على التفاضل القبلي وتقديمه على الدين، وهو التفاضل الذي ورثه العرب إلى اليوم ليظهر على شكل حروب وفتن متبادلة بين الأمويين والهاشميين بعد موت الرسول، أو بين الأوس والخزرج في حياته إلى أن وصلت محطته الأخيرة الآن في صراعات عبثية بين ممالك الخليج، وهي صراعات في جوهرها قِبلية بمسحة سياسية والشرح فيها يطول.

وفي هذا السياق بتفسير بعض المصطلحات يوجد اجتهاد لغوي يقول أن كلمة (شام) أصلها (سام) مما يعني أن وصف منطقة فلسطين وما حولها بالشام كان وصفا ساميا قديما حدث بالنطق العبراني وتحويل حرف السين إلى شين، وبرأيي أن هذا البحث قوي في تفسير مسميات شرق أوسطية قديمة وفقا للثقافة السامية السائدة منذ الألف 3 ق.م ، لكن تكمن الإشكالية في تحديد زمن هذا النطق، هل قبل انفصال العبرانيين عن الآراميين القدامى أم بعد الانفصال؟..وبرأيي أن الوصف كان أسبق مما يعني أن وصف الشام هو عن ثقافة سامية محضة ورثها العرب والإسرائيليون والسريان والآشوريين بعد تفرقهم

وعن سؤال معنى كلمة إسرائيل قلت: هي عندي لقب وليس إسم علم، فالثابت أنه لا يوجد شخص إسمه إسرائيل كعَلَم ، لكنه لقب أطلق على جماعات وأفراد للشعب اليهودي القديم أو من نسل إبراهيم ومعناه (المنتقل والمهاجر إلى الله) خلافا للتسمية العربية أنه يعني (عبدالله) والإسراء كلمة سريانية نبطية تعني (الانتقال أو السفر) ومنها دخلت القرآن في سورة الإسراء بنفس المعنى، وفي القرآن قوله تعالى "ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا" [مريم : 58] تعني لقب لأحد أبناء إبراهيم..هو على الأرجح يعقوب الحفيد كما ذكر في الكتاب المقدس.

حتى كلمة الأسرى والأسير في هذا السياق بنفس المعنى أي الانتقال أيضا، ولكن عندما نطقت قديما فكانت بمعنى (الانتقال) من الحرية إلى الرق، وبالتالي كان الأسر يعني العبودية في الزمن القديم..ومنه عرفنا أن أسر اليهود في مملكة بابل كان معناه أنهم أصبحوا رقيقا وعبيدا..لذا عرفت تواريخ أسر اليهود عموما بمرحلة العبودية..لكنهم أضافوا لتاريخهم عبودية لهم في مصر مما يعني أن أسلافهم ربما حاربوا ملكا مصريا وأسر العديد منهم ليصبحوا رقيقا.

على جانبٍ آخر يوجد في اليهودية مصطلح "تاهارات ميشباشا" taharat mishpacha وهو طقس ديني متشدد نحو المرأة يجري فيه حبسها ومقاطعتها ولا تتكلم مع أحد، ليس لذنب قد فعلته ولا لجريمة قانونية..بل (للحيض الشهري) والدم الذي تعاني منه لبضعة أيام، ويعد أصل هذا السلوك في سفر اللاويين بالتوراه، لكن الحاخامات في التلمود (سنة اليهود) تشددوا في تفسير النصوص ووصل بهم لمد فترة المقاطعة إلى أسبوعين تقريبا كل شهر، ولا ينحصر ذلك في عدم ممارسة الجنس بل مقاطعة المرأة كليا وعزلها في أشبه ما تكون مصابة بفيروس أو عدوى تنتقل بمجرد اللمس..وهذا مصدر القول بنجاسة المرأة في تلك المدة الذي انتقل لمفسري الإسلام دون علم..

والمفسرين أخطأوا بتفسير قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " [البقرة : 222] وفسروا الآية على النحو اليهودي في التاهارات ميشباشا، وقالوا بأن العُزلة تعني المقاطعة ، برغم أن أمر الاعتزال مشروح في السياق بآخر الآية "فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله" أي الاعتزال فقط يكون جنسيا وليس المقاطعة والحصار مثلما قال اليهود، حتى لفظ الطهارة فسروه بأنه نقيض النجاسة، وهو غير صحيح..الطهارة تعني التبرؤ، تطهرت من النفاق يعني تبرأت من النفاق، تطهرت من الكذب يعني تبرأت من الكذب، ومرادفها الترك والعزلة أيضا..تطهرت من الحيض والدماء يعني تركني الدم وتوقف..

لكن الشيوخ لم يصمتوا..ففسروا الأذى بالنجاسة، المهم إن المرأة تكون نجسة..وهذا أيضا غير صحيح، وأترك الإمام الفخر الرازي يرد عليهم، قال : " الحيض في نفسه ليس بأذى لأن الحيض عبارة عن الدم المخصوص، والأذى كيفية مخصوصة، وهو عرض، والجسم لا يكون نفس العرض"..(التفسير الكبير 6/ 415)

ومعنى كلام الرازي أن الأذى هنا مخصوص للنساء بمعاناة نسبية لها دون الرجال، أي تأثير الدم عليها عضويا ونفسيا ملحوظ ، ولأن الرازي عاش في زمن ما قبل النسبية فقال بها ولكن بلفظ مختلف "كيفية مخصوصة" ولأنه صاحب عقل فلسفي اكتشف بأن الأذى مجرد عَرَض زائل وليس جوهر كامن..بالتالي فعندما تحيض المرأة فهي لا تؤذي المجتمع كي نقاطعها ونضطهدها كما يفعل اليهود مثلما قال : " روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن، ولا يبالون بالحيض، وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس"..(التفسير الكبير 6/ 414)

المهم : أن أصل ذلك الطقس اليهودي ضد المرأة مصدره من أديان ما قبل التاريخ التي اعتقدت بأن حيض المرأة ناتج عن (أعمال سحرية) فيعتقدون أن المرأة (ملبوسة) من الجان وأنها تحت رحمة الشياطين طوال تلك المدة، كما اعتقدوا أن الأوبئة والأمراض ناتج عن سحر الآلهة أيضا لارتباط الدين بالسحر في المعتقدات القديمة..

وعندما جاء اليهود احتفظوا بالطقس القديم في تفسير الحيض، لكن أوّلوه بطريقة دينية نصوصية بفتاوى الحاخامات ، والسر في ذلك أن اليهودية كانت تعتبر أول ديانة كتب لها نصا مقدسا ينظم حياتهم الدنيا فضلا عن الوعد بالآخرة، بينما الديانات القديمة كانت مفتقدة لهذا النص سوى تنظيم حياتهم الأخروية ككتاب الموتى الفرعوني، وبالتالي حين وجود نص مقدس يكثر التأويل والاختلاف فيه..وموقفهم من الحيض هذا برغم أنه كان نقلة إسمية عن أديان ما قبل التاريخ..لكن ورثوا هذا الموقف العنصري والعنيف ضد المرأة في هذا الطقس حتى ورثه المسلمون أيضا بوصف المرأة بالنجاسة وهم لا يعلمون مصدر هذا الوصف من الكتب السابقة..

وفي نفس سياق الاقتباس الإسلامي من اليهودية نجد سوم عاشوراء، بالنسبة ليوم عاشوراء، لكن التراث الإسلامي نقل فيه الخلاف في موعده وحكمته، فمن حيث الحكمة مثلا هو اليوم الذي نجى فيه الله موسى من فرعون، أو اليوم الذي ركب فيه نوح السفينة، وأخيرا هو اليوم الذي تاب فيه الله على آدم..والاختلاف دليل على الاختلاق على أصل غير معلوم ومؤكد..يعني أساس القصة لم تكن كذلك بل مصدرها يهودي كما سنبين، وأما من حيث الموعد فقالوا هو في شهر محرم، ومرة في شهر رجب عن قتادة، وأول رمضان عن ابن عباس.

الادعاء الأول خلط فيه الراوي بين عيد الغفران وعيد الفصح اليهوديين، لأن توقيت عاشوراء يوم 10 محرم بالتوقيت الهجري جاء مرافقا لعيد الغفران اليهودي قبل إلغاء النسئ في عهد عمر بن الخطاب، أما عيد الفصح فهو الذي نجى الله فيه موسى من فرعون حسب التوراه...وهذا الخلط لم ينتبه له كثير من الدارسين للتراث لاعتقادهم بأن الفصح اليهودي هو المسيحي المعروف بعيد القيامة، وبتوضيح أكثر..فالتقويم اليهودي قمري مثل العربي القديم (قبل إلغاء شهر النسئ) لأصول تعود لتقديس شعوب هذه المنطقة الإله "سين" إله القمر في حضارة الساميين القدماء، فكانت السنة تبدأ في المحرم العربي بينما تبدأ السنة في تشرين اليهودي (شهر أكتوبر) فيصبح بالتالي يوم 10 محرم العربي هو يوم 10 أكتوبر اليهودي..وعيد الغفران كان في اليوم العاشر من بدء السنة اليهودية..

قام الرواه المسلمون بنقل الاحتفال بعيد الغفران لكي يكون إسلاميا صرفا وادعوا هذه الادعاءات فوق أنه عيد للنبي نوح ومرة لآدم ، وفي مرة من المرات فكر أحد الرواه وخرج بقناعة أن عاشوراء هو الذي نجى الله فيه موسى..وهو لا يعلم أن عاشوراء القديم كان بعد عيد الفصح ب 6 أشهر..ونجاة موسى من فرعون كانت في بداية فصل الربيع بمنتصف العام لليهود، حتى عندما روى المحدثين أن عاشوراء هو (كفارة لسنة ماضية) أي يغفر ذنوب العام الماضي مأخوذ من شريعة اليهود بأن صيام يوم الغفران/ كيبور يغفر ذنوب العام الماضي ليبدأ اليهودي عامه الجديد على طهارة..ومن إسمه يظهر (غفران) وبالتالي نربط فورا بين ثواب صيامه في اليهودية والسُنة معا..مع العلم بأن فتوى ابن عباس بأن عاشوراء هو أول رمضان مرهون بنقصان شهر شعبان ليكون 29 يوم..وهو نفس عدد أيام الشهر الأخير في السنة اليهودية (أيلول/ سبتمبر) في السنة اليهودية..

أضيف أن تسمية عاشوراء – عند البعض - لا علاقة لها بيوم العاشر من السنة العربية أو اليهودية، بل بالإلهة عشتار، ربة الخير والنماء عند الساميين القدماء، وأسطورتها أنها كانت (تبكي وتولول) على زوجها الإله تموز بعد موته في شهر (أيلول) وهو آخر شهور السنة العبرية، فتسمية اليوم بعاشوراء كان لجذور من أديان قديمة على الأرجح من الدولة البابلية التي كانت تستعمل نفس التقويم العربي واليهودي ، سنة قمرية بإضافة شهر نسئ، وأيا كانت التسمية ومصدرها فعاشوراء هو طقس ديني لشعوب الشرق الأوسط منذ آلاف السنين، الفارق أنه تطور حسب الديانة وورث الناس معتقداته حسب ظروفهم السياسية، من ذلك أن استشهاد الإمام الحسين حدث في ذلك اليوم فاتخذه الشيعة مأتم وطقوس للحزن واللطم..إلخ، وعندي أن ذلك قد يكون له علاقة بأسطورة عشتار وتموز لأن البابليين كانوا يفعلون نفس الشئ وفي نفس اليوم، أما السُنة فاتخذوه عيدا وعظّموا منه لأسباب سياسية أيضا خاصة بمقتل الحسين على أيدي الأمويين، والدارس لروايات عاشوراء في كتب السنة يجد جزء كبير منها عن معاوية ومحدثين عُرِفوا بالانحياز الأموي أو عملهم في بلاط الخلفاء.

أما عن يهود الدونمة فقصتهم تتلخص في اعتقاد اليهود بمسيح آخر الزمان، في اليهودية يؤمنون بمسيح آخر الزمان، وصفته أنه رجل يبعثه الله ليقيم العدل كما ملئت الأرض جورا وظلما، ويخلص شعب إسرائيل الأغيار المعادين للرب حسب اعتقادهم، ولما بُعِث يسوع الناصري وقال أنه المسيح كذبوه، لكن عندما جاء الإسلام وشهد ليسوع أنه المسيح زادت مشاعر العداء لكل ما هو مسيحي إسلامي في اليهودية، لكن فئة منهم بدأت تتراجع وتتبنى وجهات نظر وسطية آمنوا فيها أن يسوع هو المسيح لكنه ليس إلها، ومن هؤلاء النصارى أو الناصريين ولهم إسم ثالث (الأبيونيين)

في القرن 17 م ظهر حبر يهودي في أووبا اسمه "سابتاي زيفي" ادعى أنه المسيح المخلص، وبدهيا سيكون أعداؤه: أولا: العثمانيين المنتظرين عودة يسوع من السماء حيا فوق منارة دمشق، ثانيا: المسيحيين بكل فرقهم المؤمنين بأن مسيح اليهود خرافة وأن مسيحهم هو المخلص الحقيقي آخر الزمان، وأن سابتاي ربما يكون هو المسيح الدجال الذي وجب قتاله.

نجح سابتاي في تكوين مجموعة صغيرة وإقناعهم بنفسه، لكن التيار كان شديدا عليه وأن الله قد نظر إليهم ثم وجد فيهم ضعفا وسيفشل في النهاية، بالفعل قُبِضَ عليه ثم حُكم عليه بالإعدام..لكن السلطان خيره ما بين الموت أو اعتناق الإسلام فاختار الأخيرة..لا يعلم السلطان أن مبدأ "التقية" أصبح يهودي بعد موسى بن ميمون، يعني إسلام سابتاي غير حقيقي، ولم يظهر بدعوته الدينية دون سبب، ففكرة المخلص تشغل الناس في الحروب والأزمات ، لاسيما أن اليهود وقتها كانوا يتعرضون لمحرقة عظمى على يد "هتلر أوكرانيا" الملك (بوهدان خملنيتسكي) حيث قتل خملنيتسكي حوالي 100 الف يهودي في شرق أوروبا كانوا متهمين بالعمالة لبولندا وليتوانيا، وبوهدان كان زعيما قوميا وتاريخيا للأوكرانيين وتماثيله في أغلب مدن أوكرانيا، لذلك الإسرائيليين برغم اتفاقهم مع أوكرانيا ضمن محور غربي أمريكي لكنهم يكرهون الأوكرانيين لتمجيدهم المجرم خملنيتسكي.

المهم بعد اعتناق سابتاي للإسلام ظل يهوديا في الباطن، وبدأ يدعو لنفسه أنه المسيح المنتظر بهدف جذب المسلمين لليهودية، واقتنع خلق كتير بسابتاي وبدأوا يشكلون مجموعات دينية كبيرة حسب مبدأ (التقية) لابن ميمون، لكن كشف أمره للسلطان فكان أمامه خيارين إما القتل أو النفي..فاختار النفي خشية تعظيمه عند أتباعه بعد قتله، وظل منفيا إلى أن توفى سنة 1676 م، وبعد موت سابتاي نشط أتباعه في تركيا وظلوا متحينين الفرصة للانتقام من الخلافة، ولم يمر 200 سنة حتى جاءت الفرصة للانتقام بعد ضعف العثمانيين خلال أزمتي الأرمن والحرب العالمية الأولى، وهذا سبب اعتقاد الإسلاميين والأتراك بأن سقوط خلافتهم العثمانية بسبب مؤامرة من يهود الدونمة خلفاء سابتاي.

وقد عزز ذلك من منطق المؤامرة عند الإسلاميين وعوام العرب عن اليهود، ثم ربطوا بين اليهودية والماسونية كأشرار خبثاء يتآمرون على العالم وفقا لهذا المنطق، إنما في الحقيقة أن الأمر ليس هكذا، فقصة الماسون بدأت مع الحروب الأوروبية المدمرة في القرن 19 بعدها تشجعت بعض الجماعات للإيمان بفكرة (السلام والتسامح والمساواه) كوسيلة ضغط علي القادة السياسيين لإيقاف نزيف الدم.. ثم ظهرت حركات مرافقة لهؤلاء تنادي بوقف العنصرية وتحريم تجارة الرقيق باعتبار أن البشر واحد لا فضل لأمة علي أخرى إلا بالعقل... ونادت كل هذه الحركات والجماعات بإعلاء العقل والعلم..

هذه الحركات والجماعات هي التي عرفت بعد ذلك بالماسونية، ومن شدة الإيمان بمبادئها اعتنق أفكارها كبار شيوخ وزعماء المسلمين والعرب والمصريين والشوام وقتها لأنها كانت معبرة عن فكر جيد لا سبة أو اتهام، إلى أن قامت الحرب العالمية الأولي فذاع صيت الماسونيين لإيقاف الحرب لكسب أنصار جدد.. ثم قويت شوكتها وصارت حركات كثيرة غزت كل بقاع العالم في الحرب العالمية الثانية..

ثم حدث التحوّل حين أيد المجمع الماسوني العالمي قيام دولة إسرائيل في نهاية الأربعينات لنفس المبادئ التي يؤمن بها وهي حق اليهود في تكوين دولتهم.. هنا كان الفراق بين العرب والماسونية.. وكلما أرادوا إسقاط وتشويه أحد يتهمونه بالماسونية.. ثم ربطوا بينها وبين الصهيونية والمؤامرة العالمية، مع العلم أن الماسون بعد خسارة جمهورهم العربي أنشأوا نوادي بنفس مبادئهم كالليونز والروتاري بمؤتمرات نشطة تقام خصوصا في مصر.. مع إضافة بسيطة وهي إغلاق ملف إسرائيل لحساسيته..

مؤكد أن المجمع أخطأ في دعم إسرائيل كدولة وإحداث هذا الشق الخلافي الذي لم تعترف إسرائيل أيضا بقرار التقسيم سوى ما يخصهم فيه وإنكار حقوق الفلسطينيين إلى الآن.. لكن لا علاقة لذلك بمبادئه السامية منذ البداية، كما أن أفعالك كمسلم وكمسيحي لا تمثل مبادئ دينك العليا، وبالتالي فكل ما يشاع عن الماسونية في الشرق الأوسط هي من خرافات العرب التي لا تنتهي.. وشخصيا ليست لي أي علاقة بهم أو بتنظيماتهم الحديثة ولكن هذا إيجاز فكري لإزالة اللبس وتوضيح بعض المفاهيم..

وعودة إلى العصر الهلنستي فبرأيي أنه شهد عصر الأنوار اليهودي الأول الذي حدث فيه التدوين وتضمنت فيه أغلب شروحات العهد القديم فإضافات الحاخامات بعد ذلك كالتلمود والمدراش وغيرها، ولعل الثورة المكابية اليهودية تعبير واضح عن قوة اليهود فكريا وشعبيا في ذلك الزمن، وقصة تلك الثورة أوجزها بالآتي:

أنه وبعد وفاة الإسكندرالأكبر عام 323 ق.م عن دولة كبيرة تضم من اليونان شمالا إلى مصر جنوبا ثم إيران وخراسان حتى حدود الهند.. انقسم أتباعه لعدة دول تم تقسيم ميراث الاسكندر الخارجي فيها لدولتين فقط هما: البطالمة الذين حكموا مصر وفلسطين ثم السلوقيين الذين حكموا الشام والعراق وبلاد فارس، إلى أن حدث نزاعا بين الدولتين على فلسطين في سلسلة حروب سميت ب (الحرب السورية) في القرن 3 ق.م أدت لانتصار السلوقيين وسيطرتهم على القدس، ومن يومها دخلوا في صراع ثقافي وسياسي مع اليهود كان له تأثيرا على اتجاهات مدوني اليهود في التلمود والإفراط في تفسير تنبؤات أشعيا آخر الزمان..فضلا عن تعزيز معتقد مخلص آخر الزمان الذي بدأ منذ الأسر البابلي.

سمي الزمن بعد موت الإسكندر "بالعصر الهلنستي" لشيوع الفلسفة اليونانية فيه مع النزعة الباطنية والغنوصية الروحية لشعوب الشرق الأوسط،ويمكن تأريخ دخول الفلسفة للشرق الأوسط في هذا العصر تحديدا، وظل من200 إلى 300 عام حتى سقوط أثينا والإسكندرية في أيدي الرومان، قبل ذلك وأثناء الصراع بين البطالمة والسلوقيين انضم اليهود للبطالمة وثاروا ضد ملكهم في القدس "أنطيوخوس الرابع" مستفيدين من الدعم الروماني أعداء السلوقيين الكبار في أوروبا، ومن يومها بدأت صداقة اليهود مع الرومان حتى تجلى بعد ذلك في حادثة صلب المسيح التي صدمت الوعي المسيحي في تعاون اليهود لقتل أعظم وأشهر مصلح ديني واجتماعي في تلك الفترة وهو"يسوع الناصري"

بعد سيطرة السلوقيين على فلسطين قام كاهنا يهوديا اسمه "متى الحشموني" بالثورة على أنطيوخوس الرابع أطلق عليه بعد ذلك "يهوذا المكابي" تيمنا بثورته المسلحة ضد السلوقيين إلى أن جرى تأريخ تلك الثورة في الدين اليهودي ب "عيد حانوكا" الذي نصر فيه الرب يهوه الموحدين الإسرائيليين على الوثنيين اليونان، رغم أنهم كانوا متحالفين مع وثنيين بطالمة في مصر ورومان في أوروبا، لكن يبدو أن الذي كتب التاريخ اليهودي كان يبحث عن انتصار ديني لإسرائيل فوجد ثورة الحشموني مناسبة..

السلوقيون كانوا عقلانيين كالبطالمة مبشرين فيها بالعقل الهلليني اليوناني، أي أن فكرة الحرب الدينية لديهم أو فرض معتقدات دينية ليست واردة، وإلا كانوا دمروا الهيكل ، فلم يجد المؤرخ اليهودي أي فعل سلوقي يبرر ثورة المكابي عليه سوى زعمه أن أنطيوخوس منع عبادة يهوه وأمر بعبادة زيوس، ثم سجل ذلك في سفرين دخلا في العهد القديم، والدارس في الفلسفة اليونانية يرى أن زعمائها السياسيين لم يهتموا بالدين أصلا في الحقبة الهلنستية، فلربما كان سلوكا للعوام يمارسوه بمعزل عن اهتمامات الساسة، وفي ذلك يقول الحاخام "بول شتاينبرج" أن أنطيوخوس كان مجنونا أراد غزو مصر وتخليصها من البطالمة فلم يجد مالا إلى أن سطا على أموال معبد أورشليم ..وهنا غضب عوام الناس وبالذات فقراء اليهود،وأظن أن قول الحاخام هذا يذهب بأن أسباب ثورة المكابيين لم تكن دينية في المقام الأول، بل سياسية واقتصادية.

وما يعزز هذا الاستنتاج فشل أنطيوخوس في احتلال مصر بعد تهديد الروم له بالتدخل، وبعد غزوه لبعض أجزاء مصر اضطر للانسحاب ، وتم اعتبارها هزيمة معنوية للملك السلوقي بحاجة لمحو آثارها فلجأ لقمع الشعب اليهودي الضعيف، ومن هنا تأتي ردة الفعل التي سجلها اليهود في رسائل المكابيين في العهد القديم التي هي المصدر الأول والوحيد لتأريخ الثورة الحشمونية/ المكابية.

أما بالنسبة لكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" والذي يرتبط غالبا في الذهن الإسلامي والعربي بالمؤامرة اليهودية فلا يُعرف بالضبط من هو كاتبه الحقيقي ونسب الكتاب لزعماء الصهيونية الأوائل محض خرافة..ولفهم قصة الكتاب يجب أن نعلم الآتي:

أولا: لفظ "معاداة السامية" لم يكن موجها لليهود بشكل خاص بل نشأ في بدايته كسبب لحشد عوام أوروبا للحروب الصليبية باعتبار أن أحفاد سام في الكتاب المقدس يسكنون في الشرق الأوسط، وتم إحياء معناه في العصر النازي لأسباب اقتصادية تقول إن كبار رأسماليي العالم كانوا يهودا ، أما هتلر فكان اشتراكيا وقصة خلافه مع الشيوعيين مختلفة حول تصور الاشتراكية من الناحية الفلسفية، وبعد الهولوكوست تم حصر العداء للسامية في الثقافة الأوروبية لليهود خصيصا، وبالتالي لابد من العلم أن الأوروبيين ثاروا تقريبا على معظم تاريخهم القديم واعتذروا عنه في الكتب ومناهج التعليم، وسبب أصيل لكراهيتهم أعداء السامية يعود لهذه الثورة بالأساس

ثانيا: أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 شهد العالم ظاهرة جماعية بصعود الفكر الاشتراكي والثورة على الرأسماليين في كل أنحاء العالم، وبما إن كبار رأسماليي العالم يهودا فتحولت عواطف النخب والشعب ضدهم بالتعميم على كل يهودي، لاسيما أن جرائم الهولوكوست كانت تعبيرا عن هذا الصعود الاشتراكي..حتى أعدى خصوم هتلر لم يستنكر جرائمه ضد اليهود مما يعني وحدة الهدف المشترك وقتها أما الاستنكار فقد حدث لاحقا بعد قيام دولة إسرائيل وظهور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، علاوة أن كتاب " بروتوكولات حكماء صهيون" لم يذكر دولة إسرائيل بل يعمم ضد اليهود بشكل اقتصادي وينقل هواجس النخب والعامة لمخططات اليهود بالسيطرة على العالم..وهذا يدل أن انتشار الكتاب حدث في حقبة زمنية كان فيها الجدل الاقتصادي شائعا مع حروب إقليمية وعالمية زودت شكوك الناس حول المدبر الأصلي لتلك الحروب.

ثالثا: الدين اليهودي بشكل عام تم تهذيبه فلسفيا أكثر من مرة أشهرها كما قلنا على يد موسى بن ميمون، ثم على يد الفيلسوف "سبينوزا" في القرن 17 الذي خرج تلاميذه بالمئات يطعنون في صحة العهد القديم رغم انتمائهم في الأخير لليهودية..هنا تحول اليهود لقومية أكثر من دين..ومن تلك القومية أسس بعد ذلك لفكرة قيام دولة إسرائيل على أساس القومية الصهيونية المذكورة في العهد القديم ليس على أساس ديني ، لذلك طابع إسرائيل كان ولا يزال قومي ولا يهتم بتطبيق الشريعة اليهودية كما نظن

رابعا: كتاب بروتوكولات حكماء صهيون منتشر جدا ويعد من أكثر 10 كتب انتشارا بين المسلمين والمسيحيين بدوافع خاصة لكل منهم ، فالمسلمين مثلا تأثروا بالنظرية القرآنية المشككة في صدق بعض اليهود فتم تعميمها على كل منتسبي الديانة بعد قيام إسرائيل، والمسيحيين تأثروا بوشاية اليهود على المسيح للرومان..بالتالي قبلوا الكتاب عاطفيا من الناحية الدينية برغم أن طبيعة الكتاب اقتصادية فيها لمحة بقيادة الحاخامات لمجتمع اليهود بإحداث الفوضى والسيطرة على العالم..

خامسا: مؤلف الكتاب استعار بعض الجمل من كتاب "الأمير" لميكافيللي ويعد هذا الكتاب في رأيي من أسوأ الكتب في إدارة شئون السياسة من الناحية الأخلاقية، لاسيما أن عنوان الكتاب يقول باتفاق حكماء صهيون على بروتوكول جامع..ولا أعلم كيف تتفق جماعة ما على الشر وتبرره أخلاقيا بهذه الطريقة السينمائية؟..قولا واحدا..مؤلف الكتاب كان متأثرا بنظرية المؤامرة فتم إسقاطها بشكل معاد لليهود، الإسرائيليين نفسهم يقولون لا نعلم هذا الكتاب ولا نتداوله ولا نعرف مؤلفه بل يحتقروه لأنه كان سبب طردهم من بعض مجتمعات أوروبا ودافع عند النازيين لقتلهم، وهذا ليس تبرئة للصهيونية فهم مجرمين محتلين ومغتصبين للأرض..لكن الحديث بشأن الكتاب يجب أن يكون منفصل معرفيا عن قصة قيام دولة إسرائيل لأن الكتاب كان متداول عالميا قبل قيام إسرائيل بعشرات السنين، وبالتالي فهم قصة الصهيونية من العهد القديم وتتبع سلوك وتاريخ زعمائها المعاصرين سيقرب لنا فهم مجتمع إسرائيل وأساس مشكلة فلسطين، وبرأيي أن موسوعة المسيري في ذلك حققت جانب معرفي كبير وساهمت في التعرف عليها من الناحية الإبستمولوجية.

سادسا: توجد قصة شائعة عن مصدر كتاب البروتوكولات وهي ، أنه وفي خلال القرن 19 ارتكب الإمبراطور الفرنسي "نابليون الثالث" جرائم ضد المعارضة فاستدعى ذلك كاتبا يدعى "موريس جولي" لكتابة مؤلف بعنوان "حوار في الجحيم بين مونتسيكيو وميكافيللي" انتقد فيه نابليون الثالث وصوره بالشرير المتآمر، هذا الكتاب هو أصل " بروتوكولات حكماء صهيون" فتم استبدال نابليون باليهود وظلت عبارات ميكافيللي فيه كما هي، أما الذي نقل الكتاب ليصبح ضد اليهودية هو مفكر ألماني يدعى "هيرمن غودشه" Hermann Goedsche كان معاديا للسامية وتصور لقاءات سرية بين الماسونية واليهود في رواية مشهورة اسمها "بياريتز" Biarritz على إسم بلدة فرنسية، وقتها كانت الماسونية شئ جيد فتم رفض كتاب غودشة لكن قبلوه بعد ذلك وقت صعود الاشتراكيين خصوصا أثناء وبعد الثورة البلشفية.

سابعا: تم طباعة كتاب البروتوكولات سنة 1895 بناء على رواية غودشة وإضافة أشياء أخرى هامشية لكن صلب الكتاب يعتمد على تلك الرواية..لكن لم يعرف بالضبط من الذي طبع الكتاب ونشره ..إنما الأوربيون يعتقدون أن مخابرات روسيا هي التي قامت بذلك بهدف تصوير المؤامرة الرأسمالية ضد العالم..وقتها لم تكن الشيوعية تمكنت في روسيا بل ثورة اشتراكية كامنة في صدور الروس وبعض النافذين في الدولة، أما طبع الكتاب ونشره فقد بدأ من روسيا بعد ذلك ثم انتقل لألمانيا مستفيدا من الخيال الأدبي لغودشة ومن المشاعر الاشتراكية الجامعة بين السلاف والألمان، حتى انتشر بين الألمان وصارت قناعة شعبية بخطر اليهود على الحضارة الغربية بل وعلى الإنسانية كلها، أما العرب فلم يعرفوا الكتاب سوى في الحقبة الناصرية بالتوازي مع حروب إسرائيل في المنطقة..ولأنه جاء موافقا لسلوك صهيوني تم التعميم واعتبار الكتاب حقيقة تاريخية برغم أن أصوله كما قرأتم مجرد إسقاطات على حكام فرنسا في القرن 19 وروايات أدبية معادية للسامية جذورها ممتدة من الحروب الصليبية ومستفيدة من التطرف المسيحي في تصوير الصراع مع شعوب الشرق على أنه صراع وجود وليس مجرد خلاف ديني...

أعلم أن كثيرا سيختلفون حول هذا الطرح..لكن أدعوك في المقابل للسؤال عن مصدر الكتاب ومصنفه الحقيقي ، ومن هم الحكماء الذين اتفقوا في البروتوكول؟ وما معنى العداء للسامية بعيدا عن قصة حرب اليهود؟ فالمؤكد عندي أننا نحن شعوب ثقافتها ضحلة ومتأثرة بنظرية المؤامرة والهواجس الشكوكية نحو الآخر ..بالخصوص في زمن الحرب، وقد حدث أن تحولت سطور الكتاب بشكل مجازي على أمريكا وقبل ذلك بريطانيا وفي الخليج تنطبق على إيران ولكن وقتها يتحول اللفظ إلى " بروتوكولات حكماء المجوس" المهم أن العدو دائما متربص ومتآمر وعدو للإنسانية..برغم أن العرب والمسلمين يعادون أنفسهم أكثر مما عادوا الآخر فيسقطون كل معاني البروتوكولات على مخالفيهم ، ومصدر ذلك هو العجز عن تصور معنى الخلاف السياسي وإدارة الصراع..برغم أن فكرة إدارة الصراع السياسي هي فكرة علمية أصبح معترف بها ضمن أصول السياسة وتدرس في الجامعات لتعليم الأجيال الجديدة كيف يديرون خلافاتهم بعيدا عن الدين والعواطف.

أما الصهيونية بالعموم فهي اتجاه أصولي قومي راديكالي، نال إعجاب متعاطفين مسيحيين ومسلمين، وعليه فما أحدثته من صراع في فلسطين جوهره ليس دينيا بل قوميا سلاليا مكتسب للمحة الشعبية التي سقناها منذ قليل كمحور للدين اليهودي، وبالتالي فاليهودية الآن جانب منها ليس طقسيا شعائريا بل سلاليا قوميا، ولدينا نموذج واضح في المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية اليهودي بيرني ساندرز ومع ذلك كان مع الاتفاق النووي مع إيران وحل الدولتين العادل في فلسطين، وضد قمع إسرائيل لأصحاب الأرض، أما ترامب الذي هو مسيحي الديانة هو صهيوني كنتنياهو بالضبط..أراد التفضل على إسرائيل بقرار مهم يُعيد لمملكة يهوذا مجدها التاريخي في عصر سليمان، وهذه قصة أخرى تجعلنا نخوض في هوية الجمهوريين بأمريكا وقصة الأصولية المسيحية الصهيونية بينهم.

التوراه نفسها في سفر الخروج الإصحاح 23 تقول "لا تقمعوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في مصر"..وهذا لو طبقه اليهود ما وقعوا في مأساة فلسطين، وبقية الآيات نصائح أخلاقية رائعة يتحلى بها بعض اليهود، لكن الصهاينة تركوا كل هذا وتأثروا بالتلمود المكتوب في الأسر البابلي، بينما طبيعة أي كتابة في السجن أو الأسر تكون مليئة بالخرافة والوهم والعنف ضد الآخرين، ومؤلفي التلمود هم من يحكمون نتنياهو الآن وترامب ومن سار على شاكلتهم من العرب والمسلمين..بالضبط كما يحكم ابن تيمية الآن بكتابه "منهاج السنة" رؤوس الدواعش في قتلهم للعراقيين والسوريين..

أما عن العلاقة بين المذكور في التناخ اليهودي وعلم الآثار فهو مبعث شك كبير دفع العديد من الباحثين لنفي شخصيات وأحداث الكتاب المقدس تاريخيا، وفي تقديري أن هذا تهور واستباق لحقائق العلم، فالثابت أن هناك أربعة شواهد ذكرت في الكتب المقدسة وتم اكتشافها بعلم الآثار هي:

أولا: شعب إسرائيل وقد ذكر في لوحة مرنبتاح إبن رمسيس الثاني في القرن 13 ق.م

ثانيا: الملك شيشنق ذكر في سفر الملوك اليهودي كملك مصري غزا شعب يهوذا وأسره إلى مصر، وقد تم اكتشاف آثار الملك في معبد الكرنك ونقوش له في تل مجدو في القرن 10 ق. م

ثالثا: مملكة موآب وقد ذكرت في سفر الملوك أيضا علاوة على سفر التكوين كشعب لإبنة لوط الكبرى، وتم اكتشاف الإسم بلوحة الملك "ميسا" أو "ميشا" ملك موآب في الأردن خلال القرن 9 ق.م تخليدا لذكر أحد آلهة الكنعانيين القدامى واسمه "شيموش" وبرأيي أن هذا الإله هو "شمشو" رب الشمس أخو الإلهة "عشتار" أبناء الإله "سين" رب القمر في الديانات السامية القديمة.

رابعا: اللوحة الأنثوية في القرن 8 ق.م التي تحكي نقل مياه "جيحون" وهو نفق صناعي لا يعرف صاحبه لكن ذكر في الكتاب المقدس قبل سليمان، ومهمته نقل مياه المطر من جبال يهوذا العالية إلى أورشليم في الأسفل، وتم اكتشاف اللوحة في القرن 19 لتحفظ في متحف العثمانيين باسطنبول..

المضحك أن المحدثين المسلمين نقلوا عن أبي هريرة قوله أن "سيحون (وجيحون) من أنهار الجنة" ولأن نفق جيحون قديم جدا فقد أطلق على عدة أنهار في أفريقيا وآسيا تيمنا بما ذكر في الكتاب المقدس، مما يؤكد تأثير اليهود الثقافي على حضارات المشرق ،وأبي هريرة موصوف بأكثر الصحابة نقلا عن اليهود بالعموم لعلاقته بكعب الأحبار مما جعله أكبر مصدر لنقل الإسرائيليات للإسلام..

وفي هذا السياق كتبت الدكتورة آمال ربيع كتاب.."الإسرائيليات في تفسير الطبري"..وفيه تأتي بالنص من تفسير الطبري وأصله من كتب التوراه باللغة العبرية ثم ترجمته بالعربية، وبرأيي أن كتابات الطبري كانت جامعة لجل مجهود المسلمين الأوائل الذين تأثروا بالثقافة اليهودية، وفيه ترجح الدكتورة آمال ربيع أن بعض نسخ التوراه كانت مترجمة للعربية في عهد النبي، وأن وجود اليهود والنصارى - قبل الإسلام - يدل على وجود لغة مشتركة بينهم وبين العرب أدى لفهم النبي وصحابته لغة العبرانيين..وترجمة كتابهم المقدس، بخلاف الرأي الشائع أن الاسرائيليات دخلت التراث الإسلامي مع أول ترجمة عربية للكتاب المقدس من القس يوحنا أسقف أشبيلية في الأندلس في القرن 8 م، ثم جاء يهود كسعديا الفيومي وموسى بن ميمون وابراهام بن عزرا وترجموا وشرحوا التوراه باللغة العربية.

أختم بأن الموقف اليهودي الظاهر من الأفكار الاشتراكية وميل اليهود غالبا للمعسكر الرأسمالي الغربي تفسيره الوحيد يكون على مسارين اثنين:

الأول: ربط الاشتراكيين بالإلحاد مما يهدم أصول التوراه والإيمان اليهودي، وفي هذا المسار ينشط اليهود المتشددين في الضغط على جماعاتهم الكبرى للانحياز ضد اليسار بالعموم، وفي نفس المسار يقف أصوليي المسلمين والعرب شركاء لأصوليي اليهود مما يفسر الشبه الكبير بين تصرفات وانحيازات كلا الفريقين سياسيا، فكلاهما أعداء للشيوعية والإلحاد ويريدون تدمير الاشتراكية مع وصف معتاد للمعسكر الغربي المسيحي بالقرابة الدينية والمصالح المشتركة.

الثاني: نداء الاشتراكيين بالمساواه وإلغاء كل حواجز الدين والنسب والقومية من معايير التفاضل، وفي هذا المسار يقف اليهود بكل طوائفهم تقريبا لاعتقاد نفسي بالتميز السلالي الأصيل من ذرية سام بن نوح ومن ذرية إبراهيم بن تارح، وفي نفس المسار يقف العرب القبليون شركاء مع اليهود بالتميز السلالي وشرف الانتماء لقبيلة إبراهيم والنسب العربي كما تقدم.

أما من حيث السلوك فجميعهم يؤمنون بملاحم آخر الزمان – يهود وسلفيين وعرب - ليس كقصص أسطوري، ولكن (كتنبؤات سياسية حتمية) تجعل اليهودي والسلفي بالعموم يتصرف كما لو كان يعلم ما يحدث غدا..بالتالي فالنصر قادم حتما مما يعطيه الثقة نفسيا ويورث هذه الثقة لذريته وتلاميذه من بعده، فإذا كان اليهود منذ السبي البابلي يتصرفون بهذا الشكل فالحنابلة بالذات قلدوهم منذ محنتهم مع المأمون والقادر بالله العباسيين الذين اضطهدوهم، لاسيما أن الحنابلة لم يحكموا أبدا سوى مع الحركة الوهابية وبعدها، كذلك اليهود لم يحكموا منذ انهيار مملكة يهوذا على يد نبوخذ نصر، وبالتالي تكوين دول وحركات سياسية لهم مؤخرا يدل على تحمسهم واعتقادهم أنهم في آخر الزمان أو قرب دولة المسيح، وبالتالي تكون أي أفكار عن المساواه والإخاء أو الشك الديني خارج ما ورثوه من الأنبياء والأئمة هو (انحراف) يجب التصدي له لتحقيق دولة المخلص..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح