الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق بين إفلاسين

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2020 / 3 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


مثّل صيف 2014 نقطة فاصلة في تاريخ العراق الحديث سياسيا واقتصاديا. لم ينجح تنظيم داعش الإرهابي حينها في اجتياح الموصل وفرض سيطرته على ثلث البلاد فحسب، وإنما تعرض أيضا لضربة قاصمة على الجبهة الاقتصادية. في هذه الفترة بالذات انهارت أسعار النفط، المصدر الوحيد تقريبا للعملات الصعبة، من مستوياتها العالية التي كانت تلامس 100 دولار للبرميل إلى أدنى من 30 دولارا، أي أقل من الثلث. هكذا وجدت حكومة حيدر العبادي نفسها في تلك الفترة أمام تحديات غير مسبوقة. فقد ولت "السنوات السمان" بفضل انتعاش أسعار الذهب الأسود بلا رجعة، وكان عليها في الوقت نفسه مضاعفة الإنفاق العسكري لتعويض الخسائر الكبيرة.
كانت بلاد الرافدين على وشك الإفلاس، وبالتالي الانهيار سياسيا وعسكريا أمام الإرهاب الذي تغلغل سريعا ووصل إلى حزام بغداد. لم يحدث ذلك بفضل فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الشيعي علي السيستاني، وكذلك الدعم الخارجي من الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي انتبهت أيضا لخطورة تدهور الوضع الاقتصادي والمالي للعراق في تلك الفترة الحرجة. سارعت الإدارة الأمريكية ومعها حكومات اليابان وبريطانيا وألمانيا وغيرها لتقديم قروض ميسرة ومعونات ضخمة إلى بلاد الرافدين التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من حافة الإفلاس. لم تُقدم المساعدات بالطبع دون ضوء أخضر من صندوق النقد الدولي الذي بادر هو الآخر لتقديم قروض سخية، ولكن مقابل موافقة حكومة العبادي على برنامج إصلاحات اقتصادية واسعة النطاق لضبط الإنفاق الحكومي وإعادة هيكلية قطاع الدولة ومحاربة التبذير الهائل في قطاع الكهرباء وغيرها. ضاع للأسف الجزء الأكبر من الإصلاحات في دهاليز نظام المحاصصة الأمر الذي يزيد من احتمال تكرار الكارثة الاقتصادية.
اليوم تنذر الظروف السياسية والاقتصادية بحدوث إفلاس أكثر إيلاما ما لم تنتبه الطبقة الحاكمة لخطورة الوضع. على خلفية المخاوف من تفشي فيروس كورونا سجلت أسعار النفط انهيارات متتالية دفعتها للهبوط إلى مستويات هي الأدنى منذ سنوات عديدة. فقد تراجعَ سعر برنت مثلا خلال أقل من شهر بنسبة تزيد على 20 %. تعود إصابة سوق الذهب الأسود بعدوى الفيروس الفتاك إلى قلق المستثمرين من حصول ركود في الاقتصاد العالمي وانخفاض الطلب العالمي على الطاقة، وخاصة في الصين، البؤرة الأولي للمرض وأكبر مستورد للنفط الخام. حتى الآن لا تزال الأزمة في بدايتها ويصعب التنبؤ بنتائجها. لكن مصادر مطلعة أكدت قبل أيام قليلة أن السعودية مثلا بصدد تخفيض إمدادات الخام إلى الصين في الشهر الحالي بواقع نصف مليون برميل يوميا جراء تباطؤ طلب المصافي الصينية. وفي محاولة لاحتواء هذه التأثيرات الكارثية تنادت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) للاتفاق مع روسيا ومنتجين مستقلين آخرين على تخفيض إضافي في معدلات انتاج النفط بمقدار 1,5 مليون برميل يوميا. وهذا يعني أن العراق وبصفته ثاني أكبر منتج في أوبك سيتحمل جزءا لا يستهان به من هذا التخفيض. وبغض النظر عن هذا القرار سجلت صادرات العراق النفطية بالفعل تراجعا مضطردا في الأشهر الأخيرة. لم تزد كمية النفط المصدرة في شهر شباط / فبراير 2020 عن 3,4 مليون برميل يوميا، ما يعني أنها أقل بنسبة تقارب 10% بالمقارنة مع كانون الأول/ ديسمبر من العام المنصرم. ومن المؤكد أن التراجع في قيمة العائدات النفطية سيكون أعلى من ذلك بكثير بسبب تهاوي أسعار النفط العالمية.
على الصعيد السياسي يبدو الوضع مختلفا عن صيف عام 2014، ولكنه لا يقل خطورة. هناك موجة احتجاجات مستمرة منذ أكثر من 5 أشهر، بينما لا تزال الكتل المتنفذة عاجزة عن إيجاد بديل مقبول لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي. في ظل هذا المأزق السياسي لم يكن من الغريب أن تزداد سطوة المليشيات الشيعية على حساب هيبة الدولة. في نفس الوقت تنذر الإجراءات المتخذة لاحتواء غضب الشارع، ومنها فتح باب التعيين في القطاع الحكومي المتضخم أصلا وتوزيع الإعانات المالية، بتفاقم أزمة الدولة الريعية بدلا من نزع فتيلها. وكل ذلك سيؤدي لا محالة إلى استنزاف احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية.
يكمن الحل نظريا في الشروع بإصلاحات اقتصادية جذرية لمكافحة الفساد والحد من الهدر الهائل في المال العام وتطبيق برنامج للتكيف مع الظروف الجديدة. ولكن لا الطبقة السياسية الحاكمة راغبة وقادرة على تنفيذ مثل هذا البرنامج الإصلاحي الطموح على المدى البعيد، ولا الشارع الغاضب مستعد لتقبل أي إصلاحات قد تؤدي إلى مزيد من الأعباء المعيشية.
يترافق ذلك مع تدهور العلاقات الخارجية مع عدة بلدان، وفي مقدمتها الولايات المتحدة جراء تحول العراق إلى ساحة للصراع الأمريكي-الإيراني ومحاولات طهران لاستغلال العراق كمخرج للتهرب من العقوبات الأمريكية الصارمة. بعكس منتصف عام 2014 لن تتدخل واشنطن هذه المرة على الأرجح لمساعدة بغداد في محنتها الاقتصادية، بل سترى في الأزمة درسا للمليشيات الشيعية التي انحازت بشكل سافر إلى إيران على حساب مصالح العراق. كما لا تبشر فرص الاستعانة بصندوق النقد الدولي بالنجاح في ظل التوازنات السياسية السائدة ووجود رفض شعبي واسع لنهج الإصلاحات.
ليس من المستبعد إذن أن يتعرض العراق لمصير مشابه للبنان الذي أعلن يوم أمس السابع من آذار 2020 إفلاسه رسميا عندما قررت حكومة حسن دياب عدم تسديد سندات حكومية بقيمة تزيد عن أربعة مليارات دولار. بهذا القرار فقد لبنان ثقة الدائنين والمستثمرين على المدى المتوسط على الأقل وسيحتاج لسنوات حتى يعود للاقتراض من الأسواق المالية العالمية. هناك أوجه شبه بين لبنان والعراق، ومنها الشارع الغاضب ونظام المحاصصة وسطوة المليشيات الشيعية المتمثلة في حزب الله الذي فرض موقفه، ومنع الحكومة من الذهاب إلى صندوق النقط الدولي لطلب العون. هنا أيضا لا يبدو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب آبهِ كثيرا لما يحدث في لبنان، طالما أنه لم يصحح علاقته مع نظام ولاية الفقيه في إيران.
صحيح أن العراق ، وبخلاف لبنان، يملك ثورة نفطية كبيرة، ولكن التعويل على الذهب الأسود لوحده لا يبدو في ظل تفشي كورونا رهانا رابحا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليار شخص ينتخبون.. معجزة تنظيمية في الهند | المسائية


.. عبد اللهيان: إيران سترد على الفور وبأقصى مستوى إذا تصرفت إسر




.. وزير الخارجية المصري: نرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم | #ع


.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام




.. وكالة الأنباء الفلسطينية: مقتل 6 فلسطينيين في مخيم نور شمس ب