الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل الرأسمالية أخلاقية؟ (الجزء الثاني)

فارس إيغو

2020 / 3 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


إخفاق النظام الاشتراكي لا يعني انتصاراً للرأسمالية
يحاول كونت ـ سبونفيل التخفيف من هذا الشعور بالانتصار الذي عمّ الغرب، والتشكيك ـ على الأقل في جزء من شرعية هذ الانتصار ـ يقول:
((إنه، لا شيئ يؤكد في حالة وجود نظامين متنافسين، أن انهيار أحدهما يعني بالضرورة انتصار الآخر، قد يخفق الاثنان. إن إخفاق سبارتاكوس لم يكن كافياً لإنقاذ الإمبراطورية الرومانية)) (10).
ما هو واضح بالنسبة للمؤلف أن النظام السوفياتي قد إنهار. هذه حقيقة أصبحت ثابتة، مع تفكك الاتحاد السوفياتي السبق الى العديد من الجمهوريات، ولكن هل الرأسمالي تبدو منتصرة؟ هل تخرج متعافية بعد سقوط المعسكر الشيوعي الذي شكل النموذج النقيض لنظام اقتصاد السوق؟ تبدو الأطروحة التي يقدمها كونت ـ سبونفيل في كتابه الذي ظهر عام 2004 راهنية في ضوء الازمة التي عصفت في النظام الرأسمالي العالمي، خاصة في طرفه المالي عام 2007 ـ 2008، والتي سوف يكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على الجانب الإنتاجي من الاقتصاد الرأسمالي، أي الاقتصاد الحقيقي.
لكن ما صلة الرأسمالية بالأخلاق، والتي راجت في فترة ما؟
يبدو أن هذه الصلة كانت مرتبطة بالصراع بين الرأسمالية (ممثلة بالغرب الليبرالي أو العالم الحر)، والأنظمة الحديدية في الطرف المقابل الجدار الفاصل بين المعسكرين. لقد استمدت الأنظمة الرأسمالية، بما تتيحه من حريات عامة وأنظمة سياسية تداولية، بعض الشرعية الأخلاقية من خلال صراعها المستميت مع النظم الاشتراكية التي تغلبت على سلطاتها النزعة الشمولية. ومارست هذه الأنظمة سياسات تقويض الحريات المدنية والسياسية، وانتهاك حقوق الإنسان، وقمع المعارضين ونفيهم خارج البلاد وتصفيتهم، كما حدث للزعيم الشيوعي تروتسكي الذي تم اغتياله في المكسيك من قبل عملاء جهاز الاستخبارات السوفياتية الـ ك. ج. ب. إذن، العلاقة بين الرأسمالية والأخلاق ـ حسب كونت ـ سبونفيل ـ تبدو علاقة ملتبسة، بمعنى أن غيابها في الطرف المقابل للعالم الحر سوف يبدو على أنها حاضرة في النظم الرأسمالية، وملتصقة بالرأسمالية ذاتها. لكن، مع إختفاء الاتحاد السوفياتي ودول منظومة أوروبا الشرقية، الكل اليوم إنضوى تحت نموذج الاقتصاد الحر وحرية الأسواق. هل الأزمة التي تمر بها ناتجة عن غياب (الآخر) الذي تمت شيطنته غربياً، وبالخصوص أمريكياً؟ إن حضور (الآخر) الشيطاني هو الذي كان يعطي لـ (الأنا) الريغانية ـ التاتشرية بعض التميز والشرعية، وخاصة عندما يُنعت هذا الآخر في أدبيات هذا التيار بأنه جزء من (محور الشر).
لقد استمدت الرأسمالية شرعيتها الأخلاقية من خلال تصديها للأنظمة التوتاليتارية التي احتمت ضد رياح الحرية بالستار الحديدي الذي تمثّل أولاً بالأجهزة البوليسية الرهيبة، وكذلك تجسدّ من خلال جدار برلين المشؤوم الذي فصل برلين الى مدينتين وعالمين.
لكن، هل تحل الجماعات الإسلاموية مكان الأنظمة الشيوعية السابقة كبديل للآخر الذي كان يمثل نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مختلفاً؟
السؤال، لا يغيب عن تفكير المؤلف، لكن كونت ـ سبونفيل يرفض تسمية الخيار الإسلاموي "الشمولي" بـ (آخر) للرأسمالية "المنتصرة"! وتعليله بأن الإسلام السياسي والجماعات التي تمثله من كافة التيارات لا يشكل تحدياً للرأسمالية "المنتصرة"؛ فالأيديولوجية الإسلاموية قائمة على احترام الملكية الخاصة لأدوات ووسائل الإنتاج والسوق الحرة والعمل المأجور، ولا تأبه للإستغلال الذي تعانيه الطبقة الشغيلة ولا لفائض القيمة، وهي الركائز الأساسية للأنظمة الرأسمالية.
إذن، الإسلام السياسي لا يشكل بديلاً اجتماعياً واقتصادياً للرأسمالية، بل يرمز الى قيم ومُثُل ثقافية وحضارية أخرى، تأتي من قراء سياسية محضة لنصوص معينة للإسلام، دون الإكتراث بالنصوص الأخرى ذات المضامين الميتافيزيقية والروحانية والرحمانية.
ولكي نقيم التضاد المانوي بين الرأسمالية كنظام والإسلام السياسي، يجب أن ننتقل من المستوى الاجتماعية والاقتصادية ـ أن تكون مع اقتصاد السوق ومجتمع السوق أو ضدهما ـ، الى المستوى السياسي والأخلاقي والحضاري. وفي هذه المستويات الأخيرة، يجري التضاد بين قيم الغرب العلمانية والليبرالية والقيم المحافظة والمتشدّدة للأصولية الإسلاموية. وهذا يتماشى مع ما يقوله الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من أن النزاع الثقافي الأساسي الراهن هو نزاع بين "غرب مُعلمن في أغلبه" و"عالم إسلامي أصولي أكثر بأكثر" (11).
إذن، يشخص المؤلف بأن الخصم موجود، لكن هذا الخصم هو خصم الغرب "الحضاري"، وليس خصماً للرأسمالية (12).
لم يبقى للرأسمالية خصوم، سوى الخصوم من داخل النظام. ومن حضن الرأسمالية المالية خرج الخصم، وخرجت "الفقاعة" المالية، التي سوف تزلزل النظام الرأسمالي، ولمدة سنتين كاملتين ـ بحسب الخبراء الماليين ـ هذا في حال قامت الدول الرأسمالية في المركز، بالتعاون مع الدول الصاعدة، بعمل ما يلزم من تعديلات على أنظمتها المالية والبنكية، وذلك من أجل وقف النزيف في الاقتصاد المالي العالمي، والذي تمت عملية تحريره الفوضوي، منذ بداي الثمانينيات على يدي الثنائي "السينمائي" (الريغاني ـ التاتشري)، الى أن أصبح وحشاً ضارياً، أكل الأخضر واليابس من جيوب الطبقات المتوسطة الشعبية في الدول الرأسمالية.
وفي ضرب من السوداوية التحليلية، يجمل المؤلف انتصار الرأسمالية بالقول: ((في الوقت الذي تفقد الرأسمالية خصمها التاريخي (أي الشيوعية)، تفقد الرأسمالية أيضاً ذلك الضرب من التبرير السلبي الذي كان هذا الخصم يوفره لها على طبق من فذة. هكذا نرى أن "انتصار" الرأسمالية لا يعادله، سوى البلبلة التي نشهدها. فيتولد في روعها الشك في أنها انتصرت في أنها انتصرت من أجل لا شيئ. فما جدوى أن ننتصر إذا كنا لا ندري من أجل ماذا نحيا؟)) (13).
هل تحِّد الرأسمالية نفسها بنفسها
هكذا كان اعتقاد الليبراليين المؤسسين في القرن الثامن والتاسع عشر، أصحاب مقولة الاقتصاد الطبيعي التي فككها ماركس بامتياز، وكان على رأسهم ريكارد، وصاحب كتاب ((ثروة الأمم)) آدم سميث (1723 ـ 1796)، الذي ابتدع مقولة "اليد الخفية". إن الليبرالية الجديدة اليوم، تريد أن تطبق ما جاء به آباء الاقتصاد الطبيعي حرفياً، غير آبهة بكل التراكمات التاريخية والمعرفية خلال قرن ونصف من الزمن. يطيح كونت ـ سبونفيل في كتابه بنظريات النيوليبرالية، ويعيد للسياسة والأخلاق مكانهما الأساسي، من خارج النظام الاقتصادي الرأسمالي.
إن قانون الاقتصاد الحر، هو كل ممكن تقنياً سينجز على الدوام، إذا أتيحت له الأسواق. وعندما تنحو الرأسمالية في عصرها الإستهلاكي العولمي الى إيجاد الأسواق بشكل "قبلي" لتغذية الإنتاج، عندها يكون لكل شيئ ينتج سوق بوساطة الإعلام ـ الإعلان أو الماركيتينغ المعولم. إن منطق السوق الإستهلاكي "السوقي" الذي يكرس الإنتاج للإنتاج، مُدمر للثروات الطبيعية ومسبب للكوارث البيئية الخطيرة والتغيرات المناخية.
يشيد كونت ـ سبونقيل بالاقتصاد الحر، لكن ليس من دون قيود سياسية وقانونية وأخلاقية: ((إن الرأسمالية وجدت لتخلق الثروة، وهي تقوم بذلك على أكمل وجه، فلا حاجة الى الكذب بشأنها. هل نتقبلها؟ يبدو لي أن تقبلها هو عين العقل ما دمنا لا نملك ما من شأنه الحلول محلها. غير أن هذا لا يعني بحال من الأحوال، أن نسجد لها راكعين)) (14).
ويحذر كونت ـ سبونفيل من جعل الرأسمالية نسقاً اقتصادياً حراً، وأخلاقياً بذاته: ((إن السعي لجعل الرأسمالية أخلاقاً هو أشبه بالسعي لجعل السوق ديانة، والمنشأة وثناً. فلو غدت السوق ديناً لكانت أسوأ الديانات قاطبة، لكانت ديانة العجل المذهب. ولعل أتفه أشكال الطغيان لهو طغيان الثروة)) (15).
ولكن، أليس ما يحصل حالياً، من تحوّل المواطن الى "مستهلك محموم ـ وهو ما بدأنا نشهده في جميع البلدان النامية مع انتشار ظاهرة المولات والسوبرماركات الضخمة ـ يحول تلك الأسواق الكبيرة للتسوق الى أماكن يتعبد فيها المواطنون ـ المستهلكون في طقوس جماعية من الحمى الشرائية التي سوف تطيح بكل عومل الاستقرار الاجتماعي للفرد والعائلة.
إن وهم التحرر الكامل من قيود الدولة غير موجود إلا في الخطب الليبرالية "المحمومة" والمعبأة بقوة الأيديولوجية للمكرين الذين يتبعون آباء الاقتصاد السياسي الطبيعي في القرن الثامن والتاسع عشر (ريكاردو، آدم سميث، جيمس ـ ستيوارت ميل وجيريمي بنتام). وقد رأينا المآسي التي سببتها الحكومات الأكثر رأسمالية في العالم، أي الحكومتان الريغانية والتاتشرية؛ لقد أدت سياساتهما بعد ثلاثين عاماً، الى أكبر أزمة مالية واجهت العالم منذ الإنهيار المالي عام 1929، بالرغم من أن القيود والقوانين المراقبة للاقتصاد لم ترفع تماماً، وإنما كانت في حدودها الدنيا، الحدود التي سمحت لأساطين المال والأعمال لكي يعربدوا في الأسواق المالية دون حسيب ولا رقيب.
إذن، هل يستطيع النسق الاقتصادي أن يحد نفسه بنفسه، من دون أن يتسبب في كوارث اجتماعية؟ بمعنى أوضح، هل تستطيع الرأسمالية المنتصرة، أن تصنع قوانينها وحدودها، أي قوانين السوق وحدوده من داخل منظومتها ذاتها دون الرجوع للسياسي؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، عندها تكون الرأسمالية أخلاقية، وتكون "اليد الخفية" لآدم سميث يداً مباركة. أما إذا كان الجواب بالسلب كما بيّن المؤلف في كتابه، فإن على المجتمع أن يطوّر آليات سياسية واجتماعية في المستوى القانوني ـ السياسي، ويشرّع أخلاقيات عامة في المستوى الأخلاقي، وذلك لتحديد الاقتصاد الحر، وبالتالي الرأسمالية، من خارجها.
إذا أردنا أن نرمّم الآثار السلبية للرأسمالية والسوق الحرة، فإن الترميم سيأتي من أنساق أخرى غير النسق الاقتصادي ـ التقني. علينا أن نجعل المجتمعات التي تأخذ بالاقتصاد الحر فيها أخلاق، فالسوق هي السوق، ستبقى خاضعة لقوانين المنفعة، وهي قوانين ليست أخلاقية، وليست أيضاً لا أخلاقية، إنها محايدة أخلاقياً ـ حسب المؤلف.
لا يمكن إقامة اقتصاد يملك عناصر أخلاقية من ذاته، هذا شيئ مستحيل؛ ومن هنا خطأ ماركس والماركسيين الذين مشوا في خطاه. ليس هناك إمكانية إلا بالرجوع الى المقولة القديمة: ((لا عمل في الإنتاج))، العمل في التوزيع، أي التيار الديموقراطي الاجتماعي أو الاشتراكية الديموقراطية، وهذا يذكرنا بأحد زعماء ومفكري الماركسية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هو الألماني ادوارد برنشتاين (1850 ـ 1932)، والذي ظلمه الكثير من الماركسيين في عصره، فقد كانت نظرياته متقدمة على العصر الذي عاش فيه عصر الراديكالية السياسية الثورية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر