الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأحزاب السياسية الشيعية : من ظلال الروح إلى ضلال العقل الوطني(3-3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 3 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


في نقد تقاليد وهوية الأحزاب السياسية في العراق(7)


من الناحية التاريخية والسياسية «كانت تجربة تشكيل الحكومة العراقية عام 1920 بمثابة الصدمة الكبرى لشيعة العراق»، بحيث تحول إبعادهم عن إدارة الدولة التي انتزعوها بنضالهم ضد الاستعمار البريطاني، إلى أن يكون «فقرة ثابتة غير مدونة في الدستور العراقي، لكنها مقروءة ومستوعبة عند كل ساسة العراق الملكيين والجمهوريين على حد سواء» كما يقول (الإعلان الشيعي). ويمكن فهم أسباب هذه الممارسة ومقدماتها في سياسة فرق تسد الاستعمارية. فقد «واجه الاحتلال البريطاني تماسكاً اجتماعياً متيناً بين السنة والشيعة» و«رفضا لمشاريع واطروحات الاحتلال» وجد ذروة تعبيره في «ثورة العشرين الخالدة التي قادها علماء الشيعة ورجالاتهم، والتي جعلت بريطانيا تسارع في تشكيل حكومة عراقية على أساس طائفي، بهدف تفتيت الوحدة الاجتماعية، وتغليب مصلحة طائفة معينة على المصلحة الوطنية، وأصبحت هذه السياسة الطائفية منهجاً سارت عليه الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق». وفي هذا تكمن مقدمات استمرار الطائفية السياسية. فقد سعت السلطات البريطانية منذ البداية، كما يقول (الإعلان) «إلى إقناع السنة، بأن الحكم والمناصب المتقدمة في الدولة بمرافقها المدنية والعسكرية، هي حق لهم وحدهم، وأن أية مشاركة للشيعة ستكون على حساب السنة. وبذلك نجحت السلطات في العهدين الملكي والجمهوري في إضعاف التماسك الوطني أولاً، وإضعاف دور الأكثرية الشيعية ثانياً. وعملت على محاصرة وطنية الشيعة بتهمة الطائفية برغم أنهم ضحايا الطائفية. في حين أضفت على الطائفية السياسية لبوس الوطنية». أما النتيجة فهي تحول «مشكلة الأكثرية الشيعية الناجمة عن الاضطهاد الطائفي، إلى حقيقة كبرى أمام العالم بأسره» كما يقول الإعلان. بمعنى إننا نعثر على تصوير وإدراك لطبيعة التاريخ الطائفي للسلطة والدولة بحيث جعل منها واقعا لا يمكن طمسه أو التغطية عليه.
الأمر الذي جعل (الإعلان) ينظر إلى واقع العراق الحالي على انه «يقف أمام مفترق طرق». وهو افتراق مقرون بالضرورة بزوال الدكتاتورية. غير أن زوالها الفعلي والتام يفترض إزالة جذرها الذي وجده (الإعلان) في الطائفية. من هنا مطالبته «بالقضاء على الطائفية وعواملها ومسبباتها قضاء نهائيا» بوصفه «ضمان منع عودة العراق إلى الاستبداد والدكتاتورية». وهي فكرة تعكس مدى توسع التأويل السياسي للطائفية وإدراك حجمها الفعلي بالنسبة لمصير الدولة. بحيث تحولت إلى مصدر كل الخراب الشامل فيه. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار، إن الشيعة هم غالبية العراق، وأن الشيعة العرب هم الغالبية المطلقة بين العرب، من هنا يصبح إبعادهم عن المشاركة في إدارة شئون الدولة وتعرض للاضطهاد المنظم والواعي هو خروج على ابسط مقومات الوطنية ومفهوم الدولة والفكرة القومية والإسلامية. وليس اعتباطا أن تكون ما اسماه الإعلان «بالحالة الشيعية» في العراق «نتاجا للاضطهاد السلطوي أكثر مما هو نتاج العامل المذهبي». بحيث تحولت «الحالة الشيعية» إلى ظاهرة مستقلة قائمة بحد ذاتها، هي اقرب ما تكون إلى حالة اجتماعية وليست فكرية أو مذهبية أو حتى سياسية. من هنا توسع الموقف منهم من جانب السلطة، بحيث أصبحت هذه «الحالة الاجتماعية تمثل التحديد الواقعي للشيعة العراقيين بصرف النظر عن المسألة العقيدية والالتزام الديني والتوجه السياسي» كما يقول (الإعلان). بعبارة أخرى، لقد أصبح الشيعة كيانا واحدا بنظر السلطة، بغض النظر عن تباين مواقفهم الأيديولوجية والسياسية والدينية. وهو أمر أدى تمادي السلطات فيه مع مرور الزمن إلى صيرورة كيان شيعي متراكم من تحسس وإدراك حجم ونوعية الاضطهاد الاجتماعي والسياسي، بحيث اخذ كل «حاكم جديد يجد أمامه غضبا شيعيا متراكما».
ومن ثم ليست المعارضة الشيعية المتنامية سوى رد الفعل المتراكم ضد نمط وأسلوب إدارة الدولة. بمعنى انه يخلو من أية أبعاد طائفية. بل على العكس، أن مهمته الجوهرية تقوم في إلغاء الطائفية بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وفي هذا تكمن خصوصية «المعارضة الشيعية». وإذا كان التيار الإسلامي هو الأكثر فاعلية وانتشارا في الوقت الراهن، فلأنه «أقترن بالقضية الشيعية» إلى «الحد الذي أصبح فيه هذا التيار ممثلاً ضمنياً لشيعة العراق برغم أن أطروحاته السياسية إسلامية عامة وليست مذهبية». ومن هذه المقدمة توصل (الإعلان) إلى أن «المعارضة الشيعية للسلطة في العراق، هي معارضة سياسية وليست طائفية». لكنها «نشأت نتيجة تراكمات تاريخية من التمييز الطائفي والاضطهاد القاسي المستمر الذي عاني منه الشيعة من قبل السلطات».
إننا نقف هنا أمام رؤية متكتلة لا تخلو من أبعاد طائفية مدركة. غير أنها ليست طائفية من حيث التأسيس، بقدر ما هي طائفية من حيث رد الفعل. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام رؤية تدرك بأن سبب الخلل التاريخي للدولة العراقية الحديثة يقوم في خلل أوزانها الداخلية، الذي جعل من الطائفية السياسية أسلوبا لوجود وفعل الدولة والسلطة. مما جعلها بالضرورة كيانا مغتربا وعدائيا للأغلبية المطلقة. من هنا مصدر الخلل الدائم فيها وغياب الاستقرار والثبات والتراكم الضروري للمؤسسات. وليس اعتباطا أن يشدد (الإعلان) على ما اسماه بالطائفية السياسية بوصفها سرّ المشكلة العراقية، وليس الطائفية الاجتماعية. بل انه شدد على أن العراق لم يشهد «الاضطهاد الطائفي الاجتماعي»، بمعنى «أن الشيعة كطائفة لم يتعرضوا لاضطهاد اجتماعي من قبل الطائفة السنيّة، إنما وقع الاضطهاد عليهم من قبل نظام الحكم الطائفي». من هنا استنتاج (الإعلان) بأن «العراق يعاني من مشكلة النظام الطائفي وليس من الحالة الطائفية». وبالتالي، فإن «أزمة العراق السياسية لم تنجم عن طائفية اجتماعية، ولا من عقدة شيعية تجاه السنّة، ولا العكس، إنما نشأت من النظام السياسي الحاكم الذي أعتمد النهج الطائفي كأساس لإدارة السلطة».
لقد حددت هذه الرؤية العامة مهمة إعادة النظر بماهية الشيعة، ومن ثم إعادة النظر بماهية الدولة وتركيبتها وأسلوب عملها وإدارتها للشئون العامة والخاصة من اجل القضاء على مصدر الخلل الجوهري فيها. وبما أن جوهر المشكلة بالنسبة (للإعلان) تقوم في الطائفية السياسية للسلطة، من هنا مهمة «معالجة سياسة التمييز الطائفي في العراق» من اجل إعادة الحق إلى نصابه من خلال «تمتع الشيعة فيه وهم غالبية الشعب العراقي، بحقوقهم المدنية الدستورية التي تم مصادرتها عن تعمد مقصود من قبل السلطات الحاكمة منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة». فالشيعي كما يصوره (الإعلان) هو «كل فرد له ولاء أو وانتماء إلى مذهب أهل البيت» ومن ثم فهو ليس انتماء عرقياً أو جنسياً أو قوميا. بمعنى انه انتماء عقلي أو وجداني لتقاليد ورؤية دينية وروحية تعود حسب اعتقادهم إلى اصفى وأنقى ما في الإسلام من قيم وشخصيات. وهي فكرة تريد أن توحي بأن محاربة التشيع والشيعة هو عين الطائفية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن شيعة العراق هم «عرب العراق الاقحاح» أي الأصليين، وهو ما يمكن ملاحظته على الأقل في أسماء قبائلهم وعشائرهم وألقابهم، من هنا لا يعني التشكيك بانتمائهم العربي والعراقي سوى الصيغة الأكثر فجاجة للطائفية السياسية. وهو سلوك ميز تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ بداية نشوءها. إذ نعثر في سياستها على صورة «مصممة في محاربة الشيعة وامتهانهم وأبعادهم من المناصب الحساسة، وفرض الحصار الصارم عليهم وتوجيه مختلف الحملات الإعلامية العنيفة ضدهم من اجل تحطيم معنوياتهم». وهو سلوك «كان يقابله تثقيف طائفي لأبناء السنّة بخطورة الحالة الشيعية على وجودهم ومواقعهم وكيانهم السياسي والاجتماعي»، كما يقول (الإعلان).
وقد بلغت هذه الممارسة والمقابلة ذروتها في العقود الأخيرة، وبالأخص في ظل السيادة المطلقة للطائفية السياسية التي مثلتها السلطة الصدامية. الأمر الذي يجعل من القضاء على الطائفية السياسية المهمة الكبرى أمام العراق من اجل تذليل تاريخ الانحراف والخلل في الدولة والسلطة والمجتمع. من هنا تشديد (الإعلان) على ضرورة أن تعطى لهذه القضية أولوية «في كل مشروع يهدف إلى تخطيط مستقبل العراق السياسي، فهي الضمان لعدم تكرار مأساة الأمس في عراق الغد». وبالتالي لا يمكن توقع حلولا جذرية وواقعية لمشاكل العراق إلا «بإبعاد المشكلة الطائفية من نظام الحكم القادم، والتعامل على أساس وطني كامل في تصميم السلطة، بعيداً عن التقسيمات والنسب الطائفية». من هنا موقف (الإعلان) المعارض لفكرة الطائفية في البدائل، كما وضعه في موقفه من الآراء التي حاولت أن تجعل من النموذج اللبناني حلا للعراق. فقد أكد (الإعلان) على أن «الاتجاه الذي يدعو إلى تقسيم السلطة على أساس طائفي (على غرار النموذج اللبناني مثلاً)، هو اتجاه لا ينسجم مع تركيبة المجتمع العراقي ولا يعبر عن إرادة الأمة، ولا يعالج الأزمة الحالية، بل قد يتسبب في أزمات قادمة لا تقل حدة عن التي عاني منها الشعب العراقي. إنما المطلوب رفض الاضطهاد الطائفي الذي يتعرض له الشيعة بكل أشكاله وأنماطه، واعتماد الأساس الوطني في ترسيم مستقبل العراق السياسي. وهو الخيار الوحيد الذي ينقذ العراق من محنته. وهذا هو ما تريده الأغلبية الشيعية». وذلك لأن اعتماد أسلوب ما يسمى بالنسب الطائفية هو عين التكريس للطائفية السياسية. وهو أمر مرفوض، وذلك لأن منطق تطور الرؤية الشيعية السياسية يقوم في إدراكه لخطورة وضرر هذه الممارسة على مصير الدولة والمجتمع والقومية والأمة. انطلاقا من أن علاج الدولة والمجتمع من المرض الطائفي لا يمكن أن يكون ببديل منه ومشابه له. انه مجرد استعادة أوسع أو أضيق للحالة الطائفية. أما البديل الفعلي فهو «عبر برنامج وطني متكامل»، كما يقول (الإعلان).
إن وضع ورفع فكرة «البرنامج الوطني المتكامل» ليست مناورة سياسية ولا دعاية أيديولوجية ولا أيما شيء من هذا القبيل، بقدر ما أنها تستمد مقوماتها وأسسها من حقيقة الشيعة العرب في العراق، كما يقول (الاعلان). إذ يبرهن تاريخ العراق السياسي الحديث على أن «أقدم الحركات والأحزاب الشيعية في العراق كانت واضحة في أهدافها وبرامجها السياسية، فهي تسعي إلى تحقيق الاستقلال وتشكيل دولة دستورية تمتد من شمال ولاية الموصل إلى جنوب ولاية البصرة». بل أن «عبارة (حكومة عربية إسلامية) التي كتبها علماء الشيعة ورجالاتهم في استفتاء 1919 هي الوثيقة التي لا تقبل التحريف والجدل والتأويل على تمسك شيعة العراق بالحكم العربي المسلم، وقطع الطريق أمام أي طرح سياسي يتجاوز الاستقلال الوطني». إضافة لذلك أن «الشيعي العراقي يعتز بوطنيته، والاتجاه العام لدي الشيعة كان يميل إلى تبني أهداف الثورة العربية التي رفع لواءها الشريف حسين في الحجاز». وقد «أثبتت تجارب التاريخ العراقي في مختلف حقبه الماضية، أن شيعة العراق لم تكن لديهم أية نزعة لتشكيل كيان سياسي خاص بهم، بل أعطت الممارسة السياسية للشيعة أدلة واضحة على تمسكهم بوحدة التراب العراقي، وكانوا دوما حريصين على الوحدة الوطنية». أما «وحدة العراق بحدوده الرسمية الحالية ووحدة شعبه بكل فئاته وقومياته وأقلياته» فإنه «مطلب شيعي وخط ثابت يتمسك به شيعة العراق، وهو ما يمكن ملاحظته في جميع سياقات الخطاب الشيعي مهما اختلفت مصادره». لاسيما وأن تاريخ النضال الشيعي بمختلف اتجاهاته وتياراته الإسلامية وغير الإسلامية قد خلا من النزعة الانفصالية«. بل أكد الشيعة وحدة الوطن والشعب وهذا ما تثبته الوثائق وأحداث التاريخ». وأخيرا أن «ما تريده الأغلبية الشيعة» هو ما وضعه (الإعلان) في تسع مطالب وأفكار مترابطة بوصفها منظومة البديل السياسي الشيعي في العراق وهي كل من
• إلغاء التمييز الطائفي،وإزالة نتائج السياسات الخاطئة التي مورست في الماضي،
• وإقامة نظام نيابي دستوري يحول دون استبداد طائفة أو قومية على حساب الطوائف والقوميات الأخرى،
• تثبيت مبدأ المواطنة الواحدة لكل العراقيين، لأن وحدة المواطنة هي الضمان الحقيقي لوحدة الوطن،
• احترام الهوية القومية والدينية والمذهبية للعراقيين كافة، وترسيخ مفهوم المواطنة الحقيقية عند كل أبناء القوميات والطوائف المختلفة،
• ترسيخ وحدة العراق أرضا وشعبا وسيادة وكيانا ضمن التعدد المذهبي والديني والقومي والسياسي،
• بناء المجتمع المدني على أسس سليمة وتعزيز مؤسساته،
• اعتماد نظام اللامركزية الذي يشمل نظام المناطق التي تتمتع باللامركزية لعموم العراق،
• احترام مبادئ حقوق الإنسان،
• الحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية للمجتمع العراقي.
مما سبق يتضح بأن دراما التكتل الشيعي قد أفرزت عناصر الطائفية الشيعية، بوصفها ثمن المأساة التي تعرض لها العراق عموما وحركاته السياسية على الأخص. ففي صعود الفكرة الطائفية ومذاقها في تحسس الأشياء والظواهر والتاريخ والممارسة السياسية والمستقبل والبدائل، تنعكس مفارقة الوجود التاريخي للعراق، بوصفها الصيرورة المقلوبة لأوزانه الداخلية. فشيعة العراق ليسوا طائفة بالمعنى الضيق للكلمة، بل هم قاعدته. وهي صورة يمثلها وتعكسها صورة وجودهم «السكاني» في قاع العراق، أي كثافتهم المتمركزة في حوض دجلة والفرات والتقائهما في شط العرب. ذلك يعني أن شط العرب هو صارية قاربهم التاريخي والحياتي. ومصبه في الخليج. ومن هذه الوحدة الرمزية ترتسم ملامح الكأس التي يمثلها وسط العراق وجنوبه، بوصفه قاعدة كأس العراق بالمعنى الرمزي والواقعي.
من هنا ليست مفارقة صعود الأبعاد الطائفية في الفكرة الشيعية وتكتلها السياسي في الأحزاب والحركات الاجتماعية، سوى المحاولة العسيرة لطلاق العراق في ولادته اليتيمة. وتعبر هذه الحالة عن مفارقة إعادة تنسيق أوزانه الداخلية بالشكل الذي يجعل من تنوع ما فيه وحدة محكومة بأصولها، أي بالهوية العراقية (الرافيدينية – العربية – الإسلامية). وجرت هذه المفارقة وتجري من خلال دراما التكتل الشيعي، بوصفه ظاهرة غير طبيعية بمقاييس الدولة، لكنها طبيعية بمقاييس الانحراف السياسي للدولة العراقية الحديثة، من اجل إعادة ترتيب بناءها بمقاييس الحق والمواطنة. لكنها مفارقة تعكس أيضا طبيعة الخلل الذي تعاني منه الحركة السياسية العراقية.
إن تحليل طبيعة ومسار الخلل المتنوع في تاريخ الأحزاب السياسية العراقية يشير إلى واقع اندثار الأحزاب التقليدية التي حكمت تاريخه السياسي الحديث، كما نراه في صراع الثيران المميز للحركة الشيوعية والقومية. فقد أدى هذا الاندثار ودفع إلى الأمام قوى كانت إلى الأمس القريب جزء من هامشية البدائل وغيب الكمون المعقول في خراب الدولة والمجتمع والثقافة السياسية. خصوصا إذا وضعنا ذلك على خلفية التفاؤل التاريخي الذي لازم صعود الفكرة الوطنية والقومية والاجتماعية والديمقراطية الدنيوية (العلمانية). إلا أن اندثارها يعكس من حيث دلالته التاريخية والسياسية موت الفكرة الراديكالية الدنيوية ونموذجها التوتاليتاري. دون أن يلغي ذلك بصورة تامة نفسية وذهنية الراديكالية والتوتاليتارية. وهي نتيجة نراها في اندثار وانقراض الحزب الشيوعي، بوصفه حزب الأقليات والعقد الأيديولوجية والهامشية الثقافية. الأمر الذي جعل من شيوعيته طوباوية فجة، ومن أمميته قناع مثقب بأنفاس الأقلية، ومن ابتعاده عن المكون العربي مصدر استثارة الهمجية العنصرية في الفكرة البعثية. مما دفعهما إلى مواجهة أشبه ما تكون بصراع الثيران.
أما الحركة القومية بصورتها البعثية فقد جعلت من صنم القومية العربية إلها مزيفا في القضاء على شيطان الشيوعية. مما أدى بهما في نهاية المطاف إلى حرب ضروس ليست حرب البسوس سوى صورتها القديمة ونموذجها الثقافي التعيس! وأدى هذا الصراع في مجرى أربعة عقود من الزمن إلى سحق كل القوى الحية في المجتمع، ومصادرة المستقبل، مما جعل من الماضي السحيق كما نراه في صعود الفكرة العرقية والطائفية بديلا مقبولا ومعقولا للأغلبية. ومن ثم تحول الفكرة الدنيوية إلى ماض، بينما في حقيقتها هي المستقبل. وبالتالي لا يعني صعود القوى التقليدية بلباسها العرقي والديني من حيث رؤيتها الفكرية والأيديولوجية والثقافية سوى النكوص الفعلي لمنظومة البدائل العقلانية. وهي حالة تحتوي في أعماقها على كمون أصولي توتاليتاري ونفسية انعزالية، لأنها لم تكن من حيث مقدماتها ورؤيتها الفعلية للبدائل محكومة بالمستقبل العقلاني ومعاصرته الثقافية، بقدر ما كانت محكومة بردود الأفعال على مسخ سياسي هو التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وفي ظل ظروف كهذه، كما يمر بها العراق الآن في محاولاته تذليل مرحلة الانتقال الصعبة والمعقدة والهشة من الاستبداد إلى الدولة الشرعية، أصبح من الممكن ليس فقط صعود مختلف المؤسسات التقليدية بل ولبوسها بحلة المقدس.
إن خطأ وخطيئة الأحزاب الشيعية العراقية تقوم في ابتذالها لكل ما وضعته في (الإعلان الشيعي). وفي الوقت نفسه استظهار لما فيه، وذلك لأنه اعلان مبني من حيث الجوهر على اساس الرؤية الطائفية المبطنة. بمعنى خرابها الباطني، الذي نرى ملامحه الجلية الحالية. فقد كشفت هذه الأحزاب عن خراب عقلي ووطني واجتماعي. وفي الوقت نفسه كشفت عما فيها من زيف لا يطاق، بحيث يمكننا القول، بأنها جمعت في ذاتها كل رذائل ولا عقلانية الأحزاب السياسية على امتداد تاريخ الدولة العراقية الحديثة. وعوضا عن الغاء الطائفية السياسية التي كانت محور (الإعلان الشيعي) اصبحت حاملته الأساسية كما هو الحال في قبولها بتوزيع السلطة على اساس "المكونات" وشراستها المستميتة بالدفاع عن حقوق "المكون الأكبر" (الشيعي). وهو أسلوب يكشف عن مدى الخطأ والخطيئة والرذيلة السياسية وانعدام الرؤية الوطنية. لقد جعلت من الشيعة مكون التهامها الشره. بحيث يمكننا رؤية ذلك حتى على ملامحهم الظاهرية. إنهم اشبه "بقادة" البعث. باختصار انهم أقرب ما يكونوا إلى حشرات بدائية!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي