الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماراثون مع الموت!!!

حارث رسمي الهيتي

2020 / 3 / 15
الادب والفن


صفوف طويلة تقف امام المخابز وأفران الصمون، رفوف الاسواق والمحال التجارية تشير الى خطرٍ قادم، وجوه المارة وهي تعبر الشوارع والتقاطعات توحي بأن حدثاً جللاً سيقع، رهبة الناس من زائر ثقيل لا يرغبون به جعلتهم يحثون الخطى مسرعين الى منازلهم وهم يحملون اكياساً بلاستيكية جمعوا فيها كل ما يقابل خزينهم النقدي!!
كورونا، زائر حول بغداد وكأنها سكة لقطار دون محطة، في المنطقة التي أعيش، لا احد في الشارع لا يحمل طعاماً أو خبزاً، في الصباح لا احد هناك غير الذين يجبرهم قوت يومهم على الخروج، الاشاعات وعجز الحكومة وخطورة الفايروس ثلاثي أنهكنا كثيراً ولا أحد يدري متى يتوقف، الذعر على وجوه الناس واضح، السعال أصبح محرجاً، الناس تتجنب الوقوف أو المصافحة، الخوف من القادم جعل من عيون المارة لا ترى شيئاً، كورونا أفقدها التركيز، في بغداد يتجول الخوف، والعجز هو ما يسيطر.
شخصياً، كنت شاهداً وانا ابن الخمسة عشر عاماً على استعدادات الناس لضربة قادمة كانت أمريكا تهدد العراق بها، يومها بدأنا باستقبال بعض اقاربنا من بغداد والحلة، كنت صغيراً وساعدتهم بتفريغ سيارات الأجرة من حقائب ملابسهم، كراسي المعوقين، بعض ما استطاعوا حمله من حصصهم التموينية، وحتى دمى أطفالهم، أتذكر جيداً إن أحدى بناتهم كانت قد حملت معها جهاز المسجل وشرائط الكاسيت، عادل عكلة واسماعيل الفروجي، أتذكر جيداً استعدادات أبي، طحين، غاز للطباخ وحطبٌ للتنور، وما أستطعنا أن نشتريه من السوق، إما أمي فانهمكت بتحضير فراش النوم، تنظيمه وترتيبه، تهيئة غرفة الضيوف، خزانات الملابس كنا قد تقاسمناها أيضاً، من حديقتنا الخلفية في البيت كنا نستهلك الكثير الباذنجان والخيار والخضروات، زراعة أبي قد ساعدته في تحمل تكاليف الظرف الاستثنائي.
في المطبخ، حيث مكان أبي الهارب من ضوضاء العدد الكبير في البيت، أتذكره جيداً وهو يجلس ساعات طويلة، يشرب الشاي ويدخن، ويتنقل بجهاز الراديو خاصته من موجةٍ الى اخرى، يسمع اذاعة سوا، ويقارن أخبارها بمونتكارولو، ويختمها باذاعة جمهورية العراق، يحلل ويدعك جبهته حين تكون الاخبار غير سارة، ولم أشاهده بغير هذا الحالة منذ آذار 2003 ولغاية انتهاء الكابوس الزيتوني إن أنتهى، يتخللها دورات كان يقيمها لنا بلعبة الشطرنج محاولةً منه حتى لا يتمكن منا الخوف أو عدم الشعور بالامان!!
في العام 2005 بدأت رحلتنا كعائلة مع التنقل، التنقل من أجل العيش بسلام، كانت لأبي حقيبة دبلوماسية يحتفظ بها بمستمسكات العائلة، هذه الحقيبة عرفتها صغيراً، أوراقه الرسمية، شهادات امتحاناتنا، صورنا العائلية، وأقلام الباركر خاصته، وساعة روليكس أصلية كان يحتفظ بها وهي لعمي الكبير الذي رحل قبل ولادتي لهذه الدنيا بسنتين، هذه الحقيبة وحقيبة أخرى كانت امي قد جهزتها بملابس تكفي رحلةً ليوميين او ثلاثة.
في البساتين القريبة من بيتنا في منطقة الشاقوفة، ومن ذلك الهدوء على الفرات العذب، كانت المجاميع الارهابية تتخذ مقاراً لها مستغلةً نخيل المنطقة الكثيف، وتحولت هذه البساتين الى مخازن للعتاد، وأمكنة لتصنيع العبوات، كان أبي يراقب الشارع بدقة، وهي عادة دأب عليها منذ كنا صغاراً الا اننا لم نكن نعرف سرها، تبين فيما بعد إنه كان يخشى زيارات رجال الأمن الليلية، حين كنا نستشعر حركة مريبة من قبل هؤلاء القتلة كنا نحمل حقائبنا المدرسية، وحقيبتي أمي وأبي ونهرب حيث بيت عمي في منطقة أكثر امناً.
بعد سنواتٍ من القتل والاختطاف، من فرض القناعات والاتاوات، بعد سنواتٍ من اللثام وسيارات الأوبل، بعد أن اخذ شعر أبي يبيض بسرعةٍ فائقة، بعد ان تعلمنا أن لا نسير في شوارع مظلمة خوفاً من اختطافٍ أو اعتداء، بعد أن علمنا أبي ان نحفظ أرقام السيارات التي تمر جانبنا، عاد نوع من الاستقرار الى المدينة، تنفسنا قليلاً ثم في ليلةٍ وضحاها وجدنا انفسنا إننا أمام خوف جديد، امام هجمة سوداء مرعبة، ولسوء الحظ إنها ضربت أول ما ضربت منطقتنا، لنهرب هذه المرة أمام عصابات الدولة الاسلامية – داعش – الا ان المفارقة هذه المرة إننا لم نحمل حقائبنا معنا، اذ لم نكن قد حضرناها، الا حقيبة أبي الذي تعلم من هذا العراق على التنقل كثيراً، حملنا حقيبة أبي و "كواني" ملابسنا للسرعة، وفي كل مرة من مرات الهروب من واقع لم نشارك بصناعته، واقع تفرضه قوى واجندات كافرة، كافرة بإنسانيتنا كانت حركة أبي تكون أثقل، تقابلها سرعتنا في الجري والهروب!!!
يوم أستقر وضعنا في نهاية العام 2014 نازحين في الحلة، وبعد تحرير هيت، لم يستطع أبي اكمال مشوار هروبٍ أخر، توفى هناك بعيداً عن بيته، ومدينته ونواعيرها التي عشقها كثيراً وعشقته أكثر.
اليوم وأنا أستعد لتوفير ما أستطيع توفيره لعائلتي، أستعدت هذه الذكريات المؤلمة، ذكريات الهروب من موت أدمن على ملاحقة العراقيين، في هذه اللحظات تذكرت أبي، في مثل هذه المواقف الصعبة يكون أمامي جسداً وفكراً، يكون مرشداً ومعلماً، في مثل تلك الأزمات كان أبي لا يأخذ من رفوف الاسواق أكثر من حاجتنا، معللاً ذلك بأن أناس آخرين هم ايضاً بحاجة الى ما يأكلونه، تذكرته وأنا أشتري لولدي حليبه من الاسواق!!
تذكرته وخطر في بالي سؤال: كم علينا أن نجرب من جديد تحدياً مع الموت؟ وترتيباً للحقائب؟ في بلدٍ لا يعرف الاستقرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .