الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-روح الموسم-

عادل امليلح

2020 / 3 / 19
الادب والفن


لا حديث اليوم لأهل المدشار غير حديث بلوغ موسم سيد "زرواط"، يتأهب كل سكان المدشار وبعض المداشير الأخرى، وتكثر المقارنات والاحاديث التي تدور حول تاريخ سيدي زرواط وكرماته ومعجزاته، يتفاخر الشيوخ بأن سيدي زرواط هو من حرث أرض القبيلة على أسدين ضخمين في ليلة واحدة، وأنه هو من قام باخاطة بقرة العجوز الماكرة التي إستنجدته هربا من الفاقة، وأعاد لها الحياة بعد أن ذبحها وقطعها اكراما لها كصدقة، ويذهب البعض الى القول أنه شاهد سيدي زرواط في الروضة يلبس سلهامًا أبيضًا من الحرير، وعمامة مطرزة بخيوط الذهب.. كل يفتن في إبراز عظمة وإجلال سيدي زرواط صاحب البركة ومشفي السعار والسحر، وولي الله الصالح التقي المتعبد والمصدق والرجل الورع والزاهد.. كل يقيسه بطريقته الخاصة، فالفقيه لا يذكره الا وأضفى عليه بعض النفحات الدينية، من آيات وأحاديث وقول صلحاء سابقين، فعندما يجلس يذكر قائلا:
- شتانا بين دنيا سيدي زرواط ودنيا اليوم، اه على زمن الإيمان والنية، زمن العطاء والاحترام والخيرات، اه على أيام المطر، وعطاء الأغراس.. اليوم لم يبقى شيء، حتى إن بعض الشباب لا يجدون حرجا في التخلف عن موسم سيدي زرواط...
أما الشيوخ فيذكرونه بما جالت بهم أفهامهم حول الأرض والبركة.. ولسان حالهم يقول:
- لقد بارت أرضنا منذ أن ظهر هؤلاء الذين يزدرون حرمة سيدي زرواط بما تطاولت عليه ألسنهم، ولكن سيدي زرواط يجازي كل بأفعاله وأقوله، وإن الله أعطاه الإرادة لفعل ذلك،
في حين تراه النسوة شافي العقر، ومذل الرجل، ورافع الحسد والسحر، بينما الاطفال لا يرون في الموسم سوى فرصة للحصول على الملذات من حلويات ولحوم وغيرها... والشباب الناضج له أحلاما أخرى وأيضا له مخاوفا كبرى، لذلك يسارع المدشاريين في قراهم الى تبضع ملابس جديدة وكل ما يلزم لقضاء موسم سيد زرواط، حاملين معهم بعض الهدايا والصدقات من السوق.. في مثل هذه المناسبات يتقدم الراضي بعجل ذبيحة لسيدي زرواط، عجل أسود سمين، سي الراضي الذي تم تكليفه لعقد من الزمن بأرض الوالي الصالح، وهو المسؤول عن كرائها او توكيلها... لذلك كان يحصل على ثروة طائلة من جراء ذلك.. أما سي العربي فهو الوحيد الذي كان قد عبر عن موقفه من الراضي عندما قال إنه يسرق أموال سيدي زرواط، ويدر الرماد في عيوننا بعجل وبعض السلع الرخيصة الثمن، بينما يسرق أموال طائلة باعتباره المكلف بأملاك الولي، ولما إنتهى القول الى الراضي غضب كثيرا، ومقت على السي العربي...
وفي أول أيام الضريح تتوافد وفود جمة من الناس، أحفاد سيدي زرواط المبرورين، والمحتفين بجدهم الأول الذي أنار ضربهم بالإيمان، وأقر فيهم حكم الله..
يشكل سيدي زرواط ملتقى كل سكان المداشر التي تدين في أصلها وشرفها الى نسله باعتبارهم خلفًا له، وبالتالي هم وحدهم من لهم الحق في الاحتفال وتنظيم الموسم!!
وفي الصباح، ومع أولى إشراقات الشمس، تنطلق زغاريد النسوة، تتقدمهن عجائز مرتدين لباسهن التقليدي "حايك" ومناديل بيضاء، تلتف حول خصرهن في منظر جميل.. يلتف حولها حزام من الصوف متعدد الطرائز يسمى "الكرزي".. ومن خلفهم النساء الاخريات والعازبات.. ثم في الجانب المقابل يوجد الرجال شيوخ المداشير ومُقدَّمِها والقائد والفقهاء وبعض اشراف المداشير... من بينهم سي الراضي، الذي رغم غناه وقيمته ومعرفة الناس الواسعة به، لا يغير جلبابه الوزاني البني، وعمامته الزرقاء...
في الوسط تبرع فرقة التبوردة وفرقة المزمرين... أناس قصر منغمسين في جلاببهم تمتد أذرعهم اليمنى في تناسق عجيب، يحملنا حقاقبا جانبية وبنادقا متكئة الى اكتافهم لشدة ثقلها، وبعضهم يحمل مزاميرا وطبولا، يطربون التجمهر بما طاب من مقاطع صوتية تزكي الاذهان وتخلب قلوب المهوسين من مختلف الأجناس والأعمار للرقص، كل بطريقته وكل بدوافعه، وفي الأمام مجموعة من الرجال يقدن ثلاثة عجول إلى الساحة حيث يقام الذبح، هو حقا كما يقيل لا عجل يفوق عجل سي الراضي حجما وبدانة، هنا تبرز القيمة الحقيقية لكل شئ، فالعجل الذي في الوسط يعكس قوة صاحبه، كما يعكس مكانة المدشار بين المداشير الآخرى، ومن هنا يستمد سي الراضي فخره، تماما كما إستمده السامري من العجل الذهبي الذي صنعه، يقال إن العجل المذبوح اذا وقف وسار فإن ذلك دليل على أن السنة ستكون جيدة مليئة بالبركة، ويقال أن أحد العجول المذبوحة نهض ودار بضريح سيد زرواط سبع مرات ثم عاد الى مكانه ليرقد في سلام، ويستسلم لحتفه، وفي تلك السنة عرفت المداشير خيرا وافرا في المحاصيل من القمح والزيتون وغيرها.. وهذه السنة يتزامن الموسم مع جفاف غير معهود لذلك يعقد العزم على أن يكون الموسم رسالة الى السماء طلبا للغيث والرحمة، فإذا كان الله ساخطا على الناس فعلى الاقل سيرحم أرضه وبهيمته!!
هنا على قمة التل الذي ينحدر الى ساحة الذبح توجد خيمتان، واحدة خاصة بالخناتين، فالموسم يشكل فرصة للختان الجماعي للأطفال الصغار، والخيمة الأخرى لفقيه معروف بأنه من خدام سيدي زرواط يقوم بشفاء بعض الأمراض وطرد الجن، وأشياء أخرى لا يعلمها سوى هو وزواره الكثر، حتى أن بعضهن لا تتاح لهم الفرصة لمقابلته لشدة الإقبال والإكتضاض... على خادم سيدي زرواط الوالي العامل بأمره والمسترشد بنوره والمغترف من فضله كما إعتاد البعض القول.. صفية واحدة من شابات المدشار، "أولاد قدوش" جاءت هذه السنة كما في السنة الفارطة مع أمها لالة رحمة، وبعض المعارف الأخرين، إنها تعلم لما هي هنا بالضبط، لطرد نحسها، الذي أخر عنها الزواج وربما يبعد عنها إبن عمها المختار الذي أصبح موظفا في الجماعة، كان قد اخبرها خادم سيدي زرواط أنها تعرضت للسحر من طرف أقرباء لها، قال إنهم لا يريدون لها أن تتزوج، وأن الوصفة التي تم سحرها بها معلقة في قدم طائر بوم منحوس، ولإبطاله لابد من إمساك الطائر، وبما أن ذلك أمر مستحيل، إلا أنه حسب قول خادم سيدي زرواط يبقى هناك أمل، والذي يكمن وصفة قلة من يعلم بها تتطلب شراء مخ الضبع وجلب جرة ماء من موج البحر.. أما الباقي فهو سيتكلف به، فالعفريت الذي سيفك السحر صعب جدا، ومن مرتبة أعلى، لذلك عملت لالة علالة جاهدة، وأخذت على عاتقها الحصول عليها، فذهبت إلى بعض العشابين في مدينة الدار البيضاء حيث يوجد الحقل الخام لكل متطلبات كمياء الخفاء، لجلب ما طلب منها وإن كان باهظ الثمن، إنها ما تنفك تربت بيدها على بطنها حيث توجد خامات التعويذة، وهي كلها أمل أن يرفع نحس إبنتها هذه السنة، وكذلك صفية ذات الواحد والعشرين سنة، إنها لا تريد زواجا وحسب وإنما زواجا من إبن عمها المختار، الذي معه ستكتفي أجرته، لحياة رغيدة، وترتاح من الأعمال الشاقة التي لا تنتهي في منزل العائلة، يدق قلبها بقوة ويرتعش جسدها النحيف الملفع بثنورة خضراء، تغطيه من الكتفين الى الكعبين حيث يبرز كعبين نحيفين منغرسين في حذاء جلدي أحمر، ووجهها الذي وإن كان يحتفظ ببعض الحسن والشباب بدأت تتربصه بعض التجاعيد الطفيفة، وتركبه بعض البقع المسودة التي تحيط بعينين غائرتين مكتحلتين.. إنها لا تشبه لالة رحمة في شيء، ما عدا ذلك العناد الموروث في العائلة، إن أكثر شيء يرهب صفية أن لا يكون إبن العم يرغب فيها، لذلك فأمها اليوم جاءت مصممة لتتميم دورة القدر!!، شأنا شأن المئات ممن لا ثقة لهم في الغد، فالعمل يعطي أمل كبير في تغيير الأشياء، أوليس السحر هو تغيير ما لا يمكن تغييره؟؟ بعض الفقهاء يحسدونه على ذلك أيما حسد، ولكن رغم ذلك يعلمون أنه ليس بمقدورهم قول شيء حيال الأمر، لذلك ينشطون في أشياء أخرى،في تلاوة القرآن ومباركة الأطفال وهو ما يعرف "رفع معروف" حيث يضع الفقيه يده على الطفل ويبدأ في ترديد بعض الآيات وسرد الأداعي، بمقابل مادي يدفع له.. كإجراء لتجنب متاعب المستقبل، فالذي يبارك إنما يبارك على مستقبل زاهر، ولعل الكثير من الشباب الذين تمكنوا من ولوج مناصب معينة يدينون لهذه اللحظة، إنها نفس الفكرة، فلينافق البعض جهرا بها، لكن في داخلهم ما تزال قائمة..
مع إعتلاء الشمس قوس السماء وبداية اشتداد الحر، تتجمع الجموع فتلك هي لحظة الذبح، أفضل اللحظات في الموسم، وأكثرها مهابة، تشرقب الأعناق وتكثر النصائح والوصايا وتصدح الأصوات، لكن الكل يعلم أن الخادم والشيخ والراضي والقائد هم من لهم سلطة القرار، ما إن يلقى بالعجل إلى الأرض ويتم تكبيله حتى تنطلق زغاريد النساء، ومباشرة مع قيام الفقيه بالذبح تهتز الأرض من جراء طلقات البنادق، وهكذا دوليك، وإذا كان العجل الأول قد ظل ممددا على الأرض رغم فك وثاقه بعد ذبحه وكذلك العجل الثالث، فإن العجل الثاني تمكن من النهوض ودهس سيدة عجوز فكسر وركها، وسار ينطح كل ما يجده في طريقه، ولم يسيطر عليه إلا بجهد الأنفس، وإن كان السبب عدم تمكن الفقيه منه!! فقد إعتبر البعض أن ذلك دليلا كافيا لسنة مباركة...
تلج لالة علالة عتبة الخيمة وتتبعها صفية، حيث يوجد خادم سيدي زرواط متلفعا في جلباب أبيض يتدلى قفها ليغطي وجهه متدليا حتى الركبتين المثنيتين في تناسق دقيق، وفي يده اليمنى سبحة.. وأمامه مجمر ينبعث منه دخان خافث، ليضفي على المكان ضبابة كثيفة ورائحة غريبة لم تعتدها صفية في حياتها، ثم بعض الأشياء الأخرى مثل أجساد بعض السحالي وأعشاب غريبة مجففة، ففي الخيمة هناك كل شيء يدعو للتساؤول، لا هوية لشيء هنا دون أن ينطق الخادم فبالنسبة للآخرين إنها خيمة المجهول...
تفشي السلام..
- سلام الله على خادم جدنا
لا يرد يستمر في تمرير السبحة بين أصابعه والتمتم بكلمات خافثة غير مفهومة.. وأحيانا يضيف بعض الأشياء، الى المجمار..
ينتاب صفية رعب شديد، حول هذا المخلوق الهزيل الذي تدور حوله جل أحاديث النساء، في السواقي والأفراح والأبار، أيعقل أن تكون هذه الممياء سببا في تحقيق أمنيتها؟ لكنها الهيبة وليس الجسد ما يجب أن يعتد به هنا، إنه الأمل في النجاة من مكائد الزمان والطبيعة، علالة لا تبالي معتادة على جو كهاذا لشدة ما زارت من مزارات وقابلت من مباركين وضاربين الخط.. من فقهاء المهنة..
تسيح صفية في أحلامها الوردية، عن فارس أحلامها، عن تلك الحياة التركية التي تبلورت في ذهنها لشدة ما شاهدت من مسلسلات أجنبية.. وتغرق في لجة من صراع داخلي بين الرغبة والحدود التي لم يبقى لها سوى لحظات، هنا يبنى مصير الإزدهار، لا أحد يشك في قدرة خادم سيدي زرواط، لا أحد..
ينطلق صوت مبحوح، متساءلا..
- ماذا لديك "اشريفة"؟
- أنا علالة..
- أعلام انك علالة...
- جئت مع إبنتي صفية..
- أقول ماذا لديك، أما الباقي فأنا أعلمه خدمائي من الجن يخبرونني بكل شئ..
يدق قلب صفية عندما تسمع كلمة، جن، وتلتفت يمنى ويسرى في رعب شديد، شادة بيدها على ذراع أمها..
تفكر لالة علالة في مقصد الفقيه، وبسرعة تتدارك لتخرج صرة صغيرة من سيلها.. فيها قنينة صغيرة وشيء أخر "هو موخ الضبع"..
- خذ يا خادم سيدنا زرواط.. بركتك وبركة سيدنا زرواط..
- ضع هنا على الطاولة..
ومن ثم ينادي على صفية..
تعالي يا بنتي.. اجلس هنا..
- بإرادة الله وشفاعة رسول الله وبركة سيدي زرواط الوالي الصالح، المبارك الناجح، الشافي والمصح..
ثم يضع يده على رأسها..
- تدرك علالة أن اللحظة قد حانت
يقول خادم سيدي زرواط..
- إن الحاسد المضغن لصفية، هو قريب جدا من عائلتها، لدرجة كبيرة!!
- تلح علالة على الوالي من هو، من يكون؟؟
- إنني أراه كما تراني الآن ولكن أهل البركات والحركات يمنعاني من البوح.. هكذا يقول
تصمت علالة وترفع رأسها نحو سقف الخيمة، حيث تتدلى رزم من الاعشاب المجففة وذيل ثعلب... تدور في ذاكرة القرابة لديها، أبناء العم الجران.. لا احد بريء كل شيء متهم.. لكنها لا تفلح في التحديد لأن ظنها لا يستقر على أحد على الرغم من أنها ترجح جارتها لالة رحمة، التي تشك في نواياها لما للعائلتين من وخصومات ولما بينهما من ضغائن، ولما لهما من سوابق في السحر ...
اثناء ذلك تفقد سيدة صبرها بالخارج وتنادي، اشريفة!! هل سنظل نحترق في الشمس هنا..
يدرك خادم سيدي زرواط الموقف، ويجمع بعض الأعشاب من هنا وهناك ملففا إياها في قطع من اوراق الجريدة، أما الأشياء التي احضرتها لالة علالة له، فيتركها مخبرا إياها أنها مخصصة لأهل الكرمات وجنود السماء..
في هذه الأثناء يكون الموسم بلغ أقصاه حيث الفرق المسيقية من مزمرين وطبالين... والبواردية ما ينفكون يجعلون الأرض تهتز من شدة ما يخرج من بنادقهم.. وبينما الجميع منغمس في نشاطه.. يطيب للسي الراضي أن يجلس في "مسيد الضريح" حيث الفقهاء يتلون القرآن بشكل جماعي تارة، وتارة أخرى يضربون الأماديح والصلاة على النبي، يجلس سي الراضي في دائرة خاصة تجمعه مع القائد ورئيس الجماعة الترابية والشيخ وبعض الأعيان الأخرين..
يتحدثون عن أحوال الموسم والمداشر والانتخابات وغيرها.. وهناك يتم تصفية القضية الكبرى، قضية تحمل مسؤولية أراضي سيدي زرواط، وإن كان الأمر محسوما فجيب الراضي يسيل لعاب الجميع، وكما العادة يعرف الراضي كيف يدبر الأمر.......

ما إن يتم تأدية صلاة الظهر حتى يجتمع الكل، وعلى طاولة جديدة، توضع أمامهم أطابقا عدة بما لا يتاح للأخرين منهم سي العربي،الذين لا يحظون سوى بلحم بالمرق في مجالس تعج بالرجال، والكل فيهم لم يدق طعم اللحم منذ عيد الأضحى اللهم البعض القليل..
الأطفال بطبيعتهم وعشقهم للحم يتهافتون على القطع قبل أن يبلغ الصحن الأرض . وينتشر المرق على ثيابهم ووجوههم والبعض يدخل في صراعات لانتزاع القطع المصادرة، حتى تتحول مجالس الأطفال إلى سفانة افريقية تتصارع فيها الضواري على عجل تائه، فارق أمه بخطأ بسيط في التقدير..
الوفي إبن سي العربي وكما يذكر زميله الأستاذ، لطالما اعتبر أن الموسم ضروري للمجتمع المحلي وإن كان مجرد خرافة.. لقد قال له إنها خرافة لا وجود لها أبعد من فكيك..
ولكن كما يقول إن الضريح ليس مجرد قبة أو مزار وليس مجرد موسم أو احتفال.. إنه رمز من رموز السلطة والتحكم، إن الضريح أو الموسم يعكس كل التمظهرات كل النوايا كل الحرمان، إنه العراء بعينه، حيث تعري الثقافة عن نفسها وتعالي بمن يغتصبها...
لكن الوفي على وعي أن الضريح بشكل أو بأخر يعيق التطور والتقدم إلى ذلك الحال الذي اعتبره رمزا للتخلف والنكوس..
لم يقبل إلا بموقف الوافي المتطرف وحذر من مغبة أن يجهر بموقفه خاصة أمام سي العربي الذي يكن قداسة كبيرة لسيدي زرواط، فهو وحده من أنقذه من السعار عندما عضه كلب مجهول..
قالها إنه موسم الطبقات!!
حتى الآن ما يزال يرى كيف تحمل الأطباق إلى رجال المسيد.. بينما يمنح من في الخارج أشياء عادية...
لم يعد لعلالة أي انجذاب للموسم كل ما يشغلها ذلك الذي تجرأ ووضع السحر الإبنتها..
لذلك لم يعد لها خاطر وكذلك صفية، التي انغمست في أجواء الموسم وفرط نشاطه وجاذبية دكاكنه وما تزخر به من ملذات وقطع الحلوى...
هكذا ينتهي الموسم لتنطلق سنة من السكون، سنة من الجمود وكأن لا شيء يتغير، لكن بركة سيدي زرواط ظهرت فلم تمضي إلا أسابيع قليلة حتى انهمر المطر بغزارة، وجرت العيون والجداول.. وهذا هو الغاية من كل شيء، الغاية التي لا تتحقق إلا من خلال سيدي زرواط...
ذات صباح تفاجأ الجميع، بأن قبر سيدي زرواط قد نهب، فلم يعد في مكان النعش سوى حفرة عميقة، على جانبها ثلاث قوارير نحاسبة فارغة، لقد أدرك البعض المغزى من الأمر، لم يكن سيدي زرواط سوى كنز أريقت في سبيله دماء، وأتليت لأجله أداعي وأنفقت أموال وأتعاب كثيرة... لقد كانوا يحموا كنزا للغرباء، وبما أن طبيعة المدشار مفعمة بروح الموسم فقد سهل على الناس أن يجدوا روضة بسرعة، كانت تستخدم كمزارا في أحد المداشير، ونظرا لنباهة سي الراضي ومن معه في دائرته، وبتعاون الشيخ والفقيه، تمكنوا من اقناع الناس بأن الأجداد الأوائل، لحكمتهم دفنوا سيدي زرواط في ذلك المزار وإن هذا كان خطأ في التقدير، وقد دعم ذلك بوثيقة قديمة، حتى إنه عرضها على الناس وقال لمن يريد أن يتأكد، بعض الذين يدعون المعرفة نظروا وإن كانوا لم يفهموا أي شيء ولا حتى سطرا واحدا، فقد وافقوا سي الراضي... هكذا تغيرت جغرافية سيدي زرواط بين ليلة وضحاها ولكنه مزال هناك، خادمه لم يعد على التل بل حصل على بناية بالقرب من المسجد ليقوم بمهامه، لا يهم الاسمنت والمصابيح والراديو.. فذيل الثعلب ما يزال معلقا هناك أمام مصباح الليد، إنه يعتمه لدرجة أن ضياء الشمعة يطفح عليه، لكن الخادم ليس له القدرة ليتحمل الضوء الساطع إلى ذلك الحد الذي يدرك فيه أن الزمان تغير، وإن كان لا يريده أن يتغير!! وإن الضريح لم يعد المعبود الوحيد بل أصبح من معبودات شتى..
وكما يستمر الضريح تستمر لالة علالة في مسعاها، فقط الأساليب اختلفت، فالغاية هي قداسة سيدي زرواط، لتدور الأيام ويكتشف أن الروضة الجديدة لم تكن سوى قبر رجل يهودي!! وفي كل مرة حتى هناك من اعتبر أن سيدي زرواط هو إله معلق بين الأرض والسماء... كان الراضي يميل إلى القول على الأقل يجب أن أقبل مثلهم بهذا أن أقنع نفسي..
لكن الوافي عندما عاد وعرف بالأمر لم يقل هذا أمر خاطئ... بل قال بفخر، إن سيدي زرواط إبن الأرض والسماء، إنه يعرفنا جميعا، نحن أحفاذه ويباركنا بلطف، إنه رجل صالح ومصلح.. كان ذلك كافيا ليتم تقبله إجتماعيا وإذانا بشفاءه من مرض عضال، حتى الفقيه بارك قوله... إنه لم يعد إبن الفلسفة بل أصبح إبن نفسه، إبن المدشار، لقد تعلم أن الذي يحرق نفسه من أجل إنارة طريق العميان، إنما هو الأعمى...
ورغم كل شيء لم تحضى صفية بإبن عمها المختار، الذي تزوج من إمرأة خارج المدشار، كان ذلك كافيا لتفقد الأمل، لدرجة أنها حاولت الإنتخار، إذ تجرعت قنينة من سائل التنظيف، أقسمت علالة أن تفبرك الشمل.. لكن ظلت وصفات خادم سيدي زرواط بغير نفع يذكر، إنها لم تستطع أن تثني المختار وعائلته على إقامة العرس، او فض بكرة زوجه ليلة العرس، ولم تثيه على أن ينجب إبنا، لكنها استطاعت أن تنهي حياة هذا الآخير عندما إختلست رضاعته وأضافت لها وصفة.. لم يصمد سوى أيام حتى إنطفحت بثور على جسده، واعتلت صحته، لينتهي به المطاف ميتا، كان ذلك كافيا لشفاء غليل علالة ، التي لم تعد تعرف نفسها في المرآة، لقد غزى وجهها التجاعيد وففقدت عينها بريق تلك المرأة القروية العصامية، إنها تمقت نفسها، وأما صفية، فكان حظها أن سقطت في أحضان خاذم سيدي زرواط الذي هتك عرضها، لم تستطع علالة أن تقول شيئا، فصفية دخلت متاهة المرأة القروية من بابها الواسع، لقد فقدت هويتها بفقدان عرضها، ورغم ذلك كان حظها أكبر من أحلامها، من خلطات أمها، من نصائح وتوجيهات الأقرباء، لقد حضيت بمغربي مقيم في المانيا تزوجها وأخذها معه...
إن الموسم هكذا، هو الذي يصنع المنعطفات هنا، البعض يدرك كيف يوظف هذه المنعطفات لصالحه والبعض الآخر يكون الضحية.. فثقافة الموسم هي ثقافة الوراء، ثقافة العراء، ورغم ذلك سيحاكم سيدي زرواط الناس هنا بارادته المباشرة، أو عن طريق خادمه!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في