الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل سيفتك فيروس كورونا بالرأسمالية؟

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2020 / 3 / 19
ملف 1 ايار-ماي يوم العمال العالمي: العمال والكادحين بين وباء -الكورونا- و وباء -الرأسمالية- ودور الحركة العمالية والنقابية


من المؤكد أن شركات الطيران ستكون من بين الأولى التي سترفع راية الاستسلام أمام الوباء العالمي الذي دفع عشرات الدول لإغلاق حدودها ومطاراتها بهدف إبطاء تفشي الفيروس المستجد. لهذا ترتفع من الآن الأصوات المطالبة بتأميم خطوط الطيران لدرء إفلاسها والحليولة دون وقوع عشرات الآلاف من عمالها وموظفيها في براثن البطالة والفقر. ويشير هذا بحد ذاته إلى تلاشي الإيمان بقدرة قوى السوق على حل مشاكلها بنفسها. ما يسري على قطاع الطيران ينطبق أيضا على شركات المطارات وقطاع الفندقة وتنظيم المعارض وشركات السياحة، بل وحتى شركات الانتاج الصناعي واستخراج النفط. لكن خسائر هذه القطاعات لا تشكل سوى مبالغ "تافهة" مقارنة بالانهيارات غير المسبوقة التي منيت بها مؤشرات الأسهم في أهم البورصات العالمية، وفي مقدمتها مؤشر داو جونز في نيويورك. وهو ما دفع لتعليق التداولات في الأسواق المالية لعدة مرات في محاولة لإبطاء عدوى "فيروس" بيع الأسهم الذي أصاب المستثمرين الخائفين من فقدان أصولهم بالكامل. وكل ذلك يؤكد من جديد مدى هشاشة الأسواق وعدم نجاعة الآليات المتبعة في مواجهة كوارث من هذا النوع.
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه سارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الصيني شي جينبينغ وبقية قادة الدول الرأسمالية الرئيسية للإعلان عن برنامج ضخمة بمئات وآلاف المليارات لمواجهة نذر كساد غير مسبوق منذ أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي ولمساعدة شركات القطاع الخاص وتجنب حدوث بطالة جماعية، وما يمكن أن تجره من اضطرابات وقلاقل سياسية واجتماعية. ولإظهار خطورة الأزمة حذرت منطمة العمل الدولية من أن الوباء قد يتسبب بانضمام 25 مليون شخص إلى جيوش العاطلين عن العمل حول العالم ما لم تتحرك الحكومات بسرعة. في الوقت نفسه أطلقت كبرى البنوك المركزية حول العالم، وفي مقدمتها المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي برامج ضخمة لضخ سيولة إضافية بترليونات الدولارات في الأسواق. بل وتعتزم الحكومة الأمريكية دفع مبلغ 1000 دولار لكل أمريكي لتحريك عجلة الاقتصاد وتحفيز الطلب المحلي. وهو إجراء غير مسبوق يذكر بفكرة إسقاط النقود من طائرات الهليكوبتر على سكان المدن والتي صاغها مفكر المدرسة النيوليبرالية والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد ميلتون فريدمان في ستينيات القرن الماضي.
هنا يطرح السؤال نفسه من جديد: ألاّ تثبت أزمة كورونا عجز النظام الرأسمالي عن مواجهة التحديات العظمي للبشرية؟ وألاّ يجدر البحث عن بديل آخر قادر على حل الأزمات بطريقة إنسانية وبكلفة معقولة، لا سيما وأن هذا النظام تعرض لخطر الانهيار قبل 12 عاما أبان الأزمة المالية والمصرفية لولا تدخل الدولة لإيقاف مسلسل الإفلاس.
من الواضح أن ترامب وشي وميركل يدركون جيدا أن الكارثة المحدقة تختلف جذريا عن الأزمات الدورية التي تصيب بين الحين والآخر الدورة الاقتصادية. كما فهموا سريعا أيضا أن آليات السوق لوحدها ليست كافية لاحتواء التداعيات الخطيرة للوباء العالمي التي ستصيب جميع القطاعات وتهدد بقطع سلاسل الإمدادات على مستوى الاقتصاد العالمي. ليست شركات الطيران وحدها وإنما أغلبية المؤسسات والمشاريع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في الدول الرأسمالية المتقدمة لم تضع في ميزانيتها احتياطيات وأرصدة طوارئ كافية لتجاوز أزمة السيولة المتفاقمة وتحتاج بالتالي لخطط الإنقاذ الحكومية. فلماذا لا يتم اختصار الطريق وتأخذ الدولة زمام الأمور؟
من جهة أخرى أظهرت أزمة كورونا بعض أمراض الرأسمالية بحسب منتقديها. فقد تفشى "فيروس" حمى التسوق حول العالم حيث تهافت المستهلكون على شراء المواد الغذائية والصحية وخزنها تحسبا لتوقف خطوط الإمداد والتجارة، وبالتالي نفادها في السوق عاجلا أم آجلا. يرى منتقدو اقتصاد السوق الحر في ذلك مظهرا للجشع الرأسمالي وشكلا للمنافسة غير النزيهة والتي تتعارض مع مبدأ التضامن والعدالة الاجتماعية. ومن دون شك فإن الأزمة التموينية ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار الأمر الذي سيضع مجددا مبدأ جني الأرباح موضع اتهام. لهذا تتعالي الأصوات المطالبة بتدخل الحكومة لاستئصال ما يوصف بمصدر الاستغلال الرأسمالي. وذهب البعض إلى أبعد من ذاك عندما أشاع فكرة أن أهم رمز للرأسمال، النقود الورقية المتداولة يساهم في نقل العدوى، وكأنهم يريدون الإيحاء بأن الفيروس يرتبط بطبيعة النظام السائد في الاقتصاد العالمي.
ينظر الكثيرون أيضا إلى وباء كورونا على أنه لعنة العولمة. لأول مرة في تاريخ البشرية ينتقل الوباء في ظرف أسابيع من أقصى الشرق في الصين إلى أقصى الغرب في الولايات المتحدة مرورا بإيران وإيطاليا وغيرها. لم يكن ذلك ممكنا لولا الحركة المكثفة والسريعة للسياح والزائرين ورجال الأعمال والسلع عبر الحدود. لهذا لجأت الحكومات إلى إجراءات لم يمكن بالإمكان تصورها قبل أسابيع قليلة مثل الحجر الصحي على مدن وبلدات بكاملها ووقف الرحلات الجوية وحظر السفر البري وإغلاق المدارس والمحال التجارية والمتاحف والمسارح. فهل أنهى كورونا عصر العولمة التي أعطت دفعة قوية لتطور النظام الرأسمالي وفرض هيمنته عالميا؟ أم أن كل ذلك مجرد نكسة مؤقتة سيتم تجاوزها؟
لا جدال في أن خطط الإنقاذ الحكومية التي بدأت بالتبلور في الدول الرأسمالية تعني عمليا تعليق الأدوات التقليدية للنظام الرأسمالي ومنها مبدأ العرض والطلب والربح والمنافسة الحرة وسعر الفائدة وسعر الصرف وحرية التنقل وتبادل السلع عبر الحدود ورفض الدعم الحكومي المباشر. عموما يمكن القول بإن الحكومات وضعت قواعد اللعبة الرأسمالية على الرف وتعتمد حاليا سياسات تتعارض تماما مع أسس الاقتصاد الحر ووصفات صندوق النقد الدولي الداعية لتحرير الأسواق وتقليص دور القطاع العام. ربما تشفي مثل هذه الإجراءات والبرامج غليل مناهضي الرأسمالية والعولمة، ولكنها لا تهدف بالطبع إلى تجاوز النظام الرأسمالي، وإنما على العكس إلى إنقاذه لأنه غير قادر على استيعاب الكوارث الاستثنائية. صحيح أنها تجربة نادرة، ولكنها طُبقت فعلا في الماضي، كما حدث مثلا أثناء الحرب العالمية الثانية عندما ساد اقتصاد الحرب ومبدأ تقنين الاستهلاك واحتكار العملة الصعبة. كما تكرر ذلك بهذا القدر أو ذاك خلال الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008 عندما أقدمت الحكومات في الدول الصناعية الكبرى على تأميم بعض المصارف والشركات المتعثرة كليا أو جزئيا قبل أن تقدم لاحقا على بيع حصصها مرة أخرى إلى القطاع الخاص، وأحيانا بأرباح كبيرة.
سيبقى هذا الارتداد عن مبادئ الرأسمالية ضروريا حتى انفراج الوضع من جديد. وسيعتمد ذلك بالدرجة الأولى على تحقيق اختراق في تطوير علاج أو لقاح ضد فيروس كورنا المستجد. ويبدو أن معظم الآمال هنا معلقة على روح الرأسمالية نفسها. هناك العشرات من شركات الأدوية والمختبرات البحثية تسابق الزمن من أجل الحصول على جائزة السبق. ومن الملاحظ أن أغلبية هذه الشركات تعود للقطاع الخاص ويملكها "عتاة" الرأسماليين. تجدر الإشارة هنا على سبيل المثال إلى شركة الأدوية الألمانية كيورفاك(Curevac) التي تصدرت مؤخرا عناوين الصحف لأن مالكها الملياردير ديتمار هوب رفض – بحسب الرواية الشائعة - عرضا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لشراء الشركة والاستحواذ على لقاح ضد الفيروس تقوم بتطويره حاليا. ورغم نفي الشركة التي تتخذ من مدينة تيبنغن الألمانية مقرا لها للخبر، إلا أنه من المؤكد أن رجال الأعمال الألماني المعروف ومؤسس مجموعة ساب SAP العملاقة للبرمجيات يقف بقوة وراء كيورفاك ويدعمها ماليا من أجل طرح لقاح فعال في أسرع وقت ممكن. ومع انتشار خبر محاولة الاستحواذ الأمريكية المزعومة ارتفعت أصوات تطالب بتأميم كيورفاك لدورها المحوري في وقف الوباء. غير أن عمدة مدينة تيبنعن من حزب الخضر بوريس بارملر سخر من فكرة التأميم قائلا" بإن ذلك سيعني نهاية شركة مبدعة وأن الدولة لا تستطيع ولا يجدر بها القيام بذلك بنفسها". كما تنتمي شركة الأبحاث الطبية الألمانية إلى التحالف الدولي لإنتاج اللقاحات CEPI وهو منظمة غير ربحية تم تأسيسها بمبادرة من قبل الملياردير الأمريكي بيل غيت، مؤسس عملاق البرمجيات مايكروسوفت. وإلى جانب كيورفاك يضم تحالف CEPI 5 مرافق بحثية أخرى وهي تتعاون وتتنافس فيما بينها ومع شركات خاصة أخرى ومعاهد علمية حكومية لتطوير اللقاح الموعود. وإلى جانب الدوافع الإنسانية فإن المعايير الرأسمالية التقليدية - وفي مقدمتها السمعة والشهرة وبالتالي جني الأرباح والحصول الدعم الحكومي المالي – تلعب دورا حاسما في هذه المنافسة.
حتى التوصل إلى نتيجة إيجابية تؤدي إلى تعافي الاقتصاد العالمي سيظل التدخل الحكومي سيد الموقف، بينما تبقى آليات العرض والطلب معلقة إلى حد بعيد. لكن ذلك سيعني أيضا بالنسبة لمئات الملايين والمليارات من سكان البشرية القبول بقيود صارمة لا يمكن تصورها وخسائر باهظة والتخلي عن الكثير من مظاهر الرفاه والنعم الرأسمالية والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لا أحد يعرف الفترة الزمنية التي سيستغرقها ذلك. كما لا توجد حتمية تاريخية تضمن التوصل إلى نتيجة إيجابية، لا سيما وأن وباء كورونا يتزامن مع تفاقم أزمات عالمية أخرى مستعصية، وفي مقدمتها موجة الهجرة وانتشار الأيديولوجيات الشعبوية والظلامية في مناطق كثيرة من العالم. لهذا لا يمكن تماما استبعاد احتمال خروج الوضع عن السيطرة كأسوأ سيناريو. حينها لن تتحقق أخيرا نبوءة كارل ماركس بانهيار الرأسمالية فحسب، وإنما أيضا "غرق الحضارات" الذي يحذر منه الكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة