الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السيد محمد سعيد الحبوبي شاعر الحياة وفقيه الجهاد

شكيب كاظم

2020 / 3 / 20
الادب والفن


لقد ظل الرأي الجمعي العربي ومنذ أيام الجاهلية، ينظر بعين الريبة والتوجس إلى الشعراء وشعرهم، وزعموا أن لكل شاعر شيطانا ينطقه بالشعر، وهؤلاء الشياطين يسكنون واديا قصيا، أطلقوا عليه اسم (وادي عبقر)، ولقد زاد القرآن الكريم لهذا الرأي ترسيخا، إذ قرر، والشعراء يتبعهم الغاوون، ولولا أداة الاستثناء (إلا) إلا الذين آمنوا، لوئد الشعر في دنيا العرب ولخسرت الثقافة العربية أهم روافدها، ولعل رأي القرآن في الشعر، إنما جاء تطفيفا لكيل الشعراء الهجّائين، الذين ناوأوا الرسالة المحمدية وردا عليهم ومنهم: عبدالله بن الزبعرى، وهبيرة بن أبي وهب، وكعب بن زهير بن أبي سلمى، الذي نظم فيما بعد قصيدته الاعتذارية، التي سماها الباحثون (البردة) التي عارضها الكثير من الشعراء في أزمان تلت، التي اعتذر فيها من الرسول الكريم، فخلع على الشاعر كعب، بردته الطاهرة، ولقد ورد في المأثور أن الخليفة العباسي هرون الرشيد، حث ابنه المأمون، حين وجده يقرزم الشعر، حثه على تركه، لأنه غير لائق بالوجهاء والخاصة، وسيتصادى رأي الرشيد هذا مع مقولة للإمام الشافعي، ضمنها بيته الشعري، السائر مسرى الأمثال:
ولولا الشعر بالعلماء يزري-- لكنت اليوم أشعر من لبيد
لقد خسرنا هذا الفيض الشعري، الذي جادت به قريحة رجل الدين السيد محمد سعيد الحبوبي، خسرنا هذا الفيض الذي كان يستاف من شتى فنون الشعر، ولا سيما الغزل والخمريات، وإذ يرى الباحث المصري، الدكاترة زكي مبارك، الذي عمل في معاهد العراق في ثلاثينات القرن العشرين، إن الحبوبي غادر الشعر، لأنه ما استطاع أن يكون في ضمن شعراء الطبقة الأولى، بسبب الدروس الفقهية، التي أثرت على تألقه الشعري، ومن ثم آثر الانغمار في دراسة علوم الدين، وهجر الشعر.
قد لا أميل إلى هذا الرأي الذي يطلقه زكي مبارك، في حين أكاد أكثر قبولاً لقضية مفادها أن مسألة فقهية عويصة عرضت ونوقشت، فكان رأي السيد الحبوبي راجحاً، ليصعقه قول السيد محمد كاظم الخراساني، المعروف بـ(الاخوند) وقد أحس بالخسران في هذا النقاش الفقهي: أين أنت من هذا؟ أي ما شأنك أنت والفقه والمناظرة فيه؟! إنما أنت تحسن الغزل، أوَ لست القائل:
يا غزال الكرخ وا وجدي عليك--كاد سري فيك أن ينتهكا
فكان هذا التعريض الذكي اللماح الذي ساقه الفقيه الاخوند ختام ما بين الحبوبي وبين الشعر!
لقد ظل العديد من الباحثين يذبون عن الحبوبي ويدفعون، نافين حقيقة ماورد فيها، وإنما هي خلجات شاعر وتهويماته، بوصفها لا تأتلف مع سلوك رجل دين، ولا سيما ما ورد في أشعاره الغزلية والخمرية، متناسين أن الحبوبي إنسان، وإن الإنسان مهما سما، فقد تساوره ما اسميه بـ(الضعف الإنساني) أو سمها خوالج الإنسان ونزعاته، ولن أقول نزغاته، فضلاً عن الطفل المخبوء في جوانحه، فما ضرّ الشاعر لو تغزل وأحب وعشق؟ فما هو بتمثال، بل بشر ضعيف، ولقد ضحى بعضهم بعروش من أجل امرأة معشوقة، ألم يتنازل الملك إدوارد الثامن سنة 1936، عن العرش البريطاني كي يتزوج المرأة التي عشق، واليس سمبسون؟!
وها هو احد شعرائنا الكبار، ورجل الدين المعروف، يتحدث عن أيام طفولته، وقد اعتم بالعمة وهو صبي صغير، فلم يمتع بالطفولة الغريرة، وألعابها الجميلة ولهوها البريىء، وربما لهذا ظلت تعاوده حياة الطفولة التي لم يشبعها، ظلت تعاوده في الشباب والكهولة وحتى الشيخوخة، ظلت تعاوده في صور شتى، فتارة تعاوده بالنزعة للمرح، ومداعبة الأهواء، وطورا في نفحات الغزل، التي تبدو غريبة عن رجل دين وَقِر.
ولشاعرنا المفوّه ورجل الدين المبجل هذا ديوان شعر سماه (الملخيات) وفي الذاكرة قصيدته الرائعة الماتعة (القصيدة البلاجية) وعنوانها يفصح عن محتواها، وقد زار بلاج عالية في بيروت الزاخر بالغيد الحسان.
لا يغرنك اشتعال حديثي والتهاب الحروف بين لحوني
فثلوج الشتاء ترسف في أعماق ذاتي في حيرتي في يقيني
لذا أرى أن شعر السيد الحبوبي، إنما هو تعبير عن خلجاته ونوازعه، وامتياح صادق من الذات، مع أنه قدم بين يدي شعره الغزلي والخمري، أبياتاً، اسميها أبياتاً اعتذارية، إنه يعتذر عن شعره الخمري والغزلي.
لا تَخَل ويْكَ، ومن يسمع يخل-- إنني بالراح مشغوف الفؤاد
لا بل إنه زيادة في الاعتذار، يصف شعره بـ(فسق الألسن) وإنه نهج في شعره نهج الظرفاء الفكهين.
غير أني رمت نهج الظرفا--عفة النفس وفسق الألسن
ولماذا تعتذر يا سيدي، أوَ لست إنسانا تضطرم فيه أوار الشباب ورغباته؟
حتى إذا جد الجد، ورأى السيد الحبوبي، أن بلده العراق قد تعرض للخطر، إثر نشوب الحرب العالمية الأولى، وتدنيس القوات الإنكليزية لأرض الفاو، قاد فصائل الجهاد، لكن ما كانت المعركة متكافئة، فانكسر المجاهدون، وأثر انكسار هم على نفسيته وصحته، ففاضت روحه الزاكية إلى بارئها سنة 1915 في مدينة الناصرية، التي خلدته بإنشاء ساحة تحمل اسمه الزكي.
حاشية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا