الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسائل ليست كالرسائل

حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)

2020 / 3 / 20
الادب والفن


* كلام ع الماشي

وردة ليست ككلّ الوردات.
نحن نعرف بعضنا البعض منذ أيّام الحارة، حارتنا القديمة. كانت تكبرني بعام واحد. لكنّنا كبرنا معًا في حارة واحدة وزقاق واحد، ولعبنا على الشّارع الذي يفصل بين منزل أهلي ومنزل أهلها. لم يكن الشارع معبّدا في تلك الأيام، وأذكر جيّدا كيف كانت جدتي، عمّتي وأمّي يكنّسنه من وقتٍ إلى آخر بالمكنسة القديمة التي من القشّ التي كانت تصنعها جدتي.
كانت صديقة طفولتي ومستودع أسراري. لقد كنتُ محظوظة إذ تركت الحارة مع والدَي وأخي، لنسكن في مدينة طبريا، التي لا تبعد عن قريتنا أكثر من عشر دقائق، عندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري. لكن وردة لم تكن محظوظة جدا. كنتُ ألتقيها من وقت إلى آخر خلال زياراتنا إلى القرية، وحافظنا على أواصر المحبة والصداقة حتى حين كبرنا. أنا دخلتُ الجامعة وهي تزوّجت.
تلك الذكريات هبّت في ذهني كهبوب رياح آذار، حين وقفتُ قرب الدرابزين التي في موقف السّيارات، أنتظر قدومها. قمتُ ببعض تمارين التمدّد مستغلّة بضع دقائق الانتظار، حتى ظهرت سيارتها المازدا الفضيّة اللون داخلة من الدوار.
الساعة كانت الخامسة وعشر دقائق. قرّرنا تقديم المشي إلى بعد ظهر الخميس بطلب من وردة لأن سمير، زوجها، مضطرّ للخروج صباح الجمعة إلى عمل ما مبكرا ولن يكون في البيت ليبقى مع الأولاد.
«تأخرتُ عليك؟» قالت وهي تقترب مني حاملة قنينة الماء الصغيرة.
«لا تقلقي.» قلتُ لها مبتسمة في محاولة لطمأنتها.
قالت ونحن نبدأ سيرنا نحو الشواطئ: «لا تتصوّري بأي عذاب مررتُ حتى خرجتُ من البيت.»
«هل هو الموّال نفسه؟» سألتُها.
«إذن ماذا؟» ردّت، ثم أضافت: «إنه عذابي اليومي.»
لم أنظر إليها ولم أعلّق بشيء. في داخلي تمنيتُ ألا تسترسل في الموضوع الذي أعرفه جيدا بأدقّ تفاصيله، فهي تحدّثني عنه، تشكي لي، منذ عشر سنوات. لم أعُد أملك شيئا لفعله لمساعدتها أو التخفيف عنها، وبصراحة، لم أعُد أملك الصّبر لسماعها.
لا داعي لأن أدخل في التفاصيل، لكن الأمر يتعلّق بسمير، زوجها، الذي لا يعجبه غيابها عنه أو عن البيت أو خروجها إلى أي مكان وفي أي وقت، ليس لأنه عاشق غيور، بل لمجرد تمتّعه بإحكام سيطرته الذكورية عليها.
مشينا دقائق طويلة دون كلام. أظن أنها فهمت بنفسها عدم رغبتي في الخوض في ذلك مرة أخرى. هذا ما أحبّه في وردة، أنها تفهم عليّ ع الطاير وليس فقط ع الماشي.
كان المكان يعجّ بالناس أكثر من أي وقت، رغم التعليمات الصارمة لوزارة الصحة بعدم التجمّع وعدم الخروج من البيت إلا للضرورة بسبب انتشار فيروس كورونا. معظمهم كانوا من اليهود المتديّنين (الحريديم) الذين يملؤون طبريا، رجالا ونساءً مع أطفالهم يجلسون قرب الشاطئ أو يقفون قرب الدرابزين ويتأمّلون البحيرة.
«لم أتوقّع أن أرى كل هؤلاء الناس اليوم؟» قلتُ.
«إنهم مع الأولاد في البيت، فماذا سيفعلون؟» قالت وردة، حيث كانت المدارس قد عُطّلت منذ بداية الأسبوع.
«هذا ليس جيّدا. ربما لن نتمكّن من المشي هنا قريبا.»
«ستأتين حينها إلى القرية لنمشي في الحقول.»
«كيف حال القرية؟ هل يخرج الناس من بيوتهم بشكل طبيعي؟»
«نعم، عادي. هناك شعور لدى البعض كأننا في معزل عن العالم الخطر، كأن الفيروس لن يصل إلينا.» ردّت، ثم أخبرتني عن التعليمات التي صدرت بخصوص صلاة الجمعة قبل أيّام، حيث طُلب من الرجال فوق السّتين والأولاد تحت العاشرة عدم المجيء. لكن بعضهم لم يُنصتوا إلى التعليمات وذهبوا إلى الجامع رغم ذلك، حتى أن بعض الفتيان الذين من عمر ابنها ممّن لم يكن من عادتهم الذهاب إلى صلاة الجمعة قرّروا الذهاب هذه المرة من شدة فضولهم أو ربما من باب كلّ ممنوع متبوع.
لم نضِف شيئا على الموضوع. قالت وردة إنها لا تحبّ التفكير في الموضوع كثيرا.
تأمّلتُ حولي قليلا.
الشواطئ كانت خالية من الناس في هذه المنطقة بالذات وفي هذا الوقت، لكنها كانت ستمتلئ بهم قريبا، خلال عيد الفصح اليهودي، لولا فيروس كورونا. لم يعُد شيء مؤكّدا الآن. بضع أناس فقط كانوا يجلسون حول المقاعد الخشبيّة تحت أشجار الخروب، والبعض يجلسون على الشاطئ يصيدون السمك يتأمّلون ويستمتعون بالهدوء الذي تبعثه البحيرة في النفس.
الساعة أشرفت على الخامسة والنصف. الطقس كان دافئا خلال هذا النهار، لكن هواء باردا قليلا بدأ الآن يهبّ من فوق موجات البحيرة.
أخبرتني وردة عن المقالة التي قرأتها قبل أيام حول صدور كتاب مترجم إلى العربية يضمّ رسائل الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي*، رغم أن همنغواي نفسه أوصى بعدم نشر هذه الرسائل، وكتب في رسالة قبل وفاته بثلاث سنوات إلى القائمين على تنفيذ وصيته: «أتمنى ألا تُنشر هذه الرسائل التي كتبتها في حياتي. وبناءً عليه أطلب منكم عدم نشر أي من هذه الرسائل أو الموافقة على نشرها.»
تساءلتُ بعجب: «هل من الطبيعي أن تُنشر رسائل كتبها أديب كبير وشهير دون موافقته ورغمًا عن إرادته ووصيّته؟ كم هو مؤلم حقا، كأن يموت المرء فتُمثّل بجثته أمام الناس دون أن تكون له القدرة على تحريك ساكن.»
قالت وردة بعد تفكير: «أظن أن هذه الرّسائل ذات قيمة أدبيّة كبرى للطلاب والباحثين في الأدب، إذ أنها تكشف سيرورة الكتابة لدى الكاتب، كما تكشف الجانب الرّهيف، المفعم بالمشاعر والخفي في شخصية همنغواي، وهو جانب لم يكن معروفا، وتلقي نظرة إلى عالمه الداخلي وعلاقاته القريبة جدا، إنها رسائل شخصية جدا كتبها الكاتب الكبير إلى أقرب أصدقائه. كما كتبوا هناك أيضا أن همنغواي لم يكن يهتم كثيراً برسائله، وكان يعتقد أن أفضل الكُتَّاب يكتبون أسوأ الرسائل. كان يولي الاهتمام الأكبر بإنتاجه الإبداعي، ويقول إنه إذا كتب في أي وقت رسالة جيدة فهذا يعني أنه لا يعمل.»
تذكّرتُ رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان** التي نشرتها غادة قبل عدة سنوات فاتّهمها البعض بالتشهير به، بالنرجسيّة والغرور، بينما برّرت هي ذلك بأن هذه الرسائل هي إرث أدبيّ يجب أن يُخلّد. فهل كانت غايتها بذلك مشروعة؟ وماذا كان رأي غسان بالموضوع؟ هل كان سيوافق على نشر رسائله الشخصية جدا التي تكشف انكسار قلبه، خيبة أمله وضعفه أمام صدّها وبرود مشاعرها؟
«أتظنين أن غادة السمان كانت تحتاج نشر هذه الرسائل لتسليط الضوء عليها؟» سألتُ.
«لا، طبعا.» ردّت. «أصلا نشر هذه الرسائل أساء إليها فقط، لأن الجميع تعاطفوا مع غسان المتيّم بحبّها والذي لم يلقَ منها إلا الصدّود والبرود.» ثم ضحكت فجأة، وقالت: «لم أعرف أن الرجال يمكن أن يحبّوا امرأة بهذه الطريقة إلى أن قرأتُ رسائل غسان إلى غادة. كنتُ أظنّ أن النساء فقط هنّ من يفعلن ذلك.»
ضحكتُ معها. «حقا؟»
ثم قالت وهي ترميني بنظرة تشي بالقهر: «لا تكوني متفائلة جدا. غسّان كان نادرا.»
أطلقتُ ضحكة ساخرة. «شكرا لك.»
«آسفة، عزيزتي، لا أقصد إحباطك، لكن...» لم تكمل.
فقلتُ لها: «لا داعي للاعتذار. أنا لم أعُد أبحث.»
ثم أطلقت ضحكة متهكّمة، وقالت: «تقولين ذلك كأنك كنتِ تبحثين يوما ما.»
فكّرت في كلامها. «ربما.» قلتُ، ثم أضفتُ: «وربما لا.»
«كنتِ تظنين أنه سيأتي إليكِ لا محالة على حصان أبيض دون توقع ولا دعوة، ليأخذك إلى عالم بعيد وجميل، مملوء بالحب والفرح، يفوق التصوّر والأحلام.»
لم أرد.
أبطأنا في مشينا إذ اقتربنا من نهاية المسار ولاحت السيارات التي ركنت في الموقف. هبط المساء وشاعت العتمة فوق البحيرة.
حين وصلنا، قالت لي وردة: «حنان، أتذكرين حديثنا عن الندم الأسبوع الماضي حين سألتِني بماذا ينفع الندم؟»
«نعم.»
«خلال هذا الأسبوع، فكّرتُ كثيرا: هل نحن نندم على ما فعلنا أم ما لم نفعل؟»
«وإلى ماذا توصّلت؟»
«أننا نندم أكثر على ما لم نفعل.»
خلال طريق عودتي إلى بيتي فكّرت في الندم مرة أخرى.
تساءلتُ بيني وبين نفسي: لو علم همنغواي بأن رسائله نُشرت رغم إرادته هل كان سيندم أنه كتبها؟
هل ندمت غادة يومًا على نشرها رسائل غسان، أم أنها كانت ستندم أكثر لو لم تنشرها؟
ثم خطر لي: ماذا قصدت وردة بكلامها؟ هل عليّ أن أندم على عدم زواجي أكثر من ندمها على زواجها؟

كفر كما/ الجليل الأسفل
19.3.2020

..................................................................................................................................
* «إرنست همنغواي الرسائل»، دار آفاق للنشر والتوزيع، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم.
** «رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان»، دار الطليعة، بيروت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله