الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صعود المرجعيات الدينية وهبوط السياسة المدنية (2-3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 3 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


ظهور وصعود المرجعيات الدينية المذهبية

ظهور المرجعية السنّية.

لقد ظهرت المؤسسة الدينية السنيّة بصورتها المستقلة نسبيا بعد سقوط الصدامية، أي بعد أن تحسست للمرة الأولى فقدان سندها الفعلي. فقد كانت هذه المؤسسة كيانا «تيوقراطيا» ذليلا، بمعنى أداة طيعة لفعل مزدوج هو الطائفية السياسية المبطنة والدكتاتورية الصدامية. واستطاعت أن تلعب دورا لا يحسد عليه في تمثل وتمثيل اشد الاتجاهات تخلفا في التيارات السنية التي جعلت من فكرة «الصلاة وراء الإمام برا كان أو فاجرا» شعارها الفعلي في الظاهر والباطن. مما جعل من المؤسسة الدينية السنية كما تجسدت في وزارة الأوقاف أحد المظاهر التنظيمية والفكرية والسياسية لنموذجها المبطن في التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهو الأمر الذي جعل من وجودها وعيشها وفعلها، نيتها وغايتها زمنا للفجور وتبجيل الطغيان والاستبداد والقهر ومختلف أصناف الرذيلة. والقضية هنا ليست فقط في أننا لا نعثر بينهم على شهداء على امتداد زمن السلطة البائدة، بل وعلى اعتداد فاضح في «قيادة» المظاهرات للدفاع عن نظام الطاغية، بما في ذلك في حمل السلاح والتلويح به أمام عدسات الكاميرات ووسائل الصحافة والإعلام!
وهو الأمر الذي يشير إلى طبيعة وحجم الارتباط المادي والمعنوي بينها وبين السلطة الدكتاتورية. بل يمكننا القول، بأنه ارتباط شبه عضوي مبني على الجهوية والطائفية. وشقّ هذا الارتباط لنفسه الطريق، أو ظهر بصورة جديدة من خلال السباحة على الألواح المتكسرة مما يسمى بالصراع ضد الاحتلال! لكنها كلمة حق يراد بها باطل. فالهمّ الحقيقي الكائن وراء تمثيل دور «المعارضة للاحتلال» و«السلطة الخائنة» و«عملاء الاستعمار» ليس سوى «استعادة» الهيبة المزيفة ومصادر الثروة المنهوبة والقرب المتملق من السلطة، التي تعرضت إلى تدمير شبه شامل بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. وليس مصادفة أن تظهر «هيئة علماء المسلمين» (السنّة) بعد سقوط السلطة، بوصفها «الصيغة المنحرفة» لوزارة الأوقاف، كما تقول عنها الحركات السنية الأصولية السلفية المتطرفة في العراق. حيث عادة ما تربط هذه الرؤية «النقدية» ظهور «هيئة علماء المسلمين» بشخصية احمد الكبيسي، الذي ينظر له «الغلاة الجدد» في العراق على أنه الإنسان «المنحرف» الذي يجمع في ذاته مختلف مدارس «الزندقة» من معتزلة واشعرية ماتريدية وتصوف وما شابه ذلك!! وهو «نقد» يحتوي على قدر زهيد ومشوه من تأويل الوقائع والحقائق. فكون «الهيئة» استمرار لوزارة الأوقاف تحتوي على قدر من الصحة. إلا أن الوصف الأكثر دقة لمواقف الحركات «السلفية الجهادية» من «هيئة علماء المسلمين» الذي يصور مهمتها كسب تمثيل سنة العراق من اجل ألا يجري تحويلهم إلى قوة فعالة في «الحركة السلفية الجهادية العراقية»، هو الأقرب من حيث توصيفه الظاهري. بمعنى أنها إشارة سليمة الظاهر سيئة القصد.
فقد كان نشوء وسلوك «هيئة علماء المسلمين» الصيغة الدينية الجديدة للطائفية السنية المبطنة ومحاولة «تمثيل» النفس بصورة مستقلة عن الاستلاب الذي تعرضت له زمن السلطة الصدامية. وهي ظاهرة متناقضة. بمعنى أنها كانت تحتوي في بداية ظهورها على امتزاج يصعب فرزه من عناصر الجهوية والطائفية المرتبطة والمتغذية تاريخيا من ثدي السلطة الدكتاتورية ونفسيتها الطائفية. كما كانت رد فعل يقترب من «الغيرة الدينية» على الإجماع المدهش لشيعة العراق حول مرجعياتهم الروحية. من هنا تناقض مظهر وسلوك «هيئة علماء المسلمين». فمن جهة نرى الاستماتة العنيدة في «إثبات النفس» على كل مائدة يمكن أن تعطي «أكلها»، سواء كان بأداء «عمل الوسيط» بين مجرم وضحية، و«مقاوم» و«محتل» وسجين وسجان، وخاطف يبحث عن «فتوى» ومستعد للإفتاء وما شابه ذلك. ومن جهة أخرى تقديم النفس باعتبارها «مرجعية موثوقة للمسلمين في العراق ولها دور كبير في توعية الشعب العراقي وتعليمهم الدين الإسلامي وينطلقون من المساجد ويتخذون منها مركزا له»، و«أنها هيئة إسلامية، سياسية، اجتماعية، لها فعاليات إسلامية مهمة في أوساط الشعب العراقي المسلم إلى جانب الحزب الإسلامي العراقي بزعامة الدكتور محسن عبد الحميد». أما تحديد عنوانها الرسمي فهو «منظمة إسلامية لعلماء أهل السنة والجماعة في العراق». ذلك يعني أننا نقف أمام «مؤسسة دينية سنية» مهمتها تمثيل «الشعب المسلم في العراق». وهو تعبير متناقض يعكس تناقض مقدمات نشوء الهيئة وغاياتها الفعلية. وهو تناقض طبيعي لأنه يعكس تناقض ولادتها من حيث المقدمات والشروط.
فقد كانت الهيئة وما تزال تمتص لبن استمرارها من جسد الطائفية السياسية المضخم في العراق. ومن ثم تعاني شأن كل مكوناته المجزأة من ثقل المرحلة البائدة وإفرازاتها الخطيرة. إلا أنها تبقى في أعين الأغلبية العراقية جزء من تراث خرب. كما تعاني من ضغط الاتجاهات الأصولية السنية المتطرفة. وهي ظاهرة يمكن رؤيتها في تناقض مواقفها العامة والخاصة. بمعنى أننا نرى في لسانها حربا إعلامية عنيفة ضد الاحتلال والسلطة الحالية، كما نرى في جسدها وروحها استعداد دائما للحوار والتفاهم معهما. وفي سلوكها السياسي نراه أولا في مقاطعة الانتخابات والتعويل على الدعم العربي والإسلامي والجهاد ضد الاحتلال إلى بداية الاعتماد على النفس والسنة وحثهم على المشاركة في الانتخابات من اجل المساهمة في القرار السياسي. ومن دعم «الجهاد» الذي تحول من حيث الجوهر إلى حرب شعواء ضد المدنيين العراقيين بشكل عام وضد «الروافض» (الشيعة) بشكل خاص، إلى بداية الانتقاد الجزئي والخجول له بوصفه إرهابا، كما نرى ذلك في كلمات إحدى الخطب التي ألقاها احد أعضاء الهيئة: «من يقتل نفسه من اجل كرهه لشخص ما فيقتل عشرات العراقيين مدعيا بأنه استشهادي، فهو منتحر والى جهنم وبئس المصير!!». وان ما نراه ليس «مقاومة توجه ضد المحتل وإنما ضد الشعب العراقي». وتحديد الموقف العام المناهض لإثارة الطائفية وصيغتها المتطرفة كما جاءت على لسان ومنشورات ومواقف الغلاة الإسلاميين السلفيين الجدد المتمثلة في حركة القاعدة وممارساتها الإرهابية في العراق. فقد جاء على سبيل المثال في البيان رقم 157 الصادر عن الأمانة العامة بصدد التصريحات التي أطلقها أبو مصعب الزرقاوي الداعية إلى قتل الشيعة ردا على ما دعاه بقتل السنة في تلعفر وغيرها من مناطق العراق، وقتل من يشارك من السنة في الاستفتاء على الدستور. ففي هذا البيان تنعكس الحالة العامة المتناقضة والانتقالية لنفسية وذهنية وسلوك «هيئة علماء المسلمين». ففيه نعثر على موقف يعارض قتل الشيعة انطلاقا من أنهم براء من «السياسة الطائفية» للسلطة، وأن إعلان قتل الشيعة بهذه الطريقة هو إثارة للفتنة الطائفية ومن ثم يساعد على إبقاء الاحتلال ودعم السلطة عبر التفاف الشارع حولها «بعد أن خسرت كل شيء من خلال سياستها الإرهابية». والشيء نفسه يمكن قوله عن حق الناس في ممارسة حريتهم باختيار أسلوب الصراع والمشاركة السياسية عبر إعلان فكرة الحوار والتفاهم باعتباره الأسلوب الأمثل لا استعمال أساليب التهديد والوعيد. وأخيرا نصح البيان للزرقاوي(!) انطلاقا من أن الدين هو النصيحة، بالتراجع «عن هذه التهديدات لأنها تسيء لصورة الجهاد وتعرقل نجاح المشروع الجهادي المقاوم في العراق». وهو بيان نموذجي يعبر عن فاعلية النفسية الطائفية وحنين السلطة، ومحاولة التأسيس لرؤية جديدة في العمل السياسي ما زالت متذبذبة بين تيار الغلاة السلفيين الجدد والتيار السياسي الطائفي السني بأبعاده العراقية والعربية الآخذة في التراكم الأولي. وهي حالة تكشف عن جوانبها المتعددة ونماذجها العديدة مختلف تصريحات وتعليقات وسلوك الهيئة. فإذا كانت المقاطعة لانتخابات منتصف عام 2004 هي شعار (الهيئة)، فان الدعوة المباشرة وغير المباشرة للاشتراك الفعال في انتخابات نهاية العام نفسه كان شعارها المباشر وغير المباشر. والشيء نفسه يمكن قوله عن موقفها من «السلطة الطائفية»، بينما تشكل قاعدتها ورصيدها الاجتماعي وموضوع خطابها الطائفة السنية. إذ نعثر بعد انتخابات نهاية 2004 على الفكرة القائلة، بان التصويت أكد «صحة توجه هيئة علماء المسلمين برفض الاعتراف بالعملية السياسية انطلاقاً من كونها تتم تحت الاحتلال وبإشراف أذنابه، فيما أكدت الأرقام والمعطيات التي توفرت، بأن العرب السنة في العراق يتراوح عددهم من 25 إلى 30 % من مجموع السكان»! وهو تأويل طائفي صرف! وطابعه الصرف يقوم في أن هذا التقييم يعتقد بان من صوت بالضد من القائمة الشيعية أو إلى اتجاهات أخرى، فهو سنّي بالضرورة. أما في الواقع، فان "الشيعة" هم أكثر القوى تحررا في مواقفهم السياسية واختيارهم الانتخابي.
بعبارة أخرى، إن سلوك هيئة علماء المسلمين كان يشحن النفسية الطائفية ويتمثلها ويمثلها في الدقائق والكبائر. ولعل بعض المقتطفات من خطب ومقابلات وتصريحات الشيخ الضاري تعكس بواطن هذه الاتجاهية المتحكمة في نفسية وذهنية الهيئة. إذ نعثر في بعض تصريحاته على الكلمات التالية:«الهيئة مؤسسة دينية عدد أعضائها بالعشرات وهؤلاء يبقون كمراقبين على ما يجري في البلد كأمناء ومسئولين شرعيا، ومسئولين تاريخيا، ومسئولين وطنيا». و«نحن من الناس. نحن جزء من الشعب العراقي. إذا حُسب المثقفون فنحن منهم. وإذا حُسب العلماء فنحن منهم. وإذا قيل أبناء الشعب فنحن منهم. نحن أبناء القبيلة وأبناء المدينة وأبناء البلد، العلماء منهم والسياسيين وغيرهم». وهي فكرة سليمة من الناحية الأخلاقية والمعنوية. كما يمكن للمرء أن ينظر بعين العطف إلى الفكرة التي أوردها الشيخ الضاري من أن «البلد حينما يُغزى وتُنتهك حرماته وحينما يُنهب ليس له إلا رجاله. وعلماء الدين دائما هم قادة الأمة، الذين يتحملون مثل هذه الأمور». وعندما ننظر إلى التاريخ فإننا نجد أن العلماء دائماً هم الذين يعيدون النصاب إذا انفلت، ويعيدون الأمة إلى طريقها المستقيم إذا هي زلت، ويعيدون بناءها إذا هُدم من قبل الأعداء. واعتبر كل هذه المهمات واجبات شرعية ووطنية، بمعنى تسليم البلد إلى أبنائه حالما يخرج الأعداء، بمعنى تسليمه إلى «من تأتمنه عليه» الهيئة وبعدها ستعود الهيئة إلى «مهمتها الأساسية ألا وهي الدعوة إلى الله». غير انه حالما يجري تحليل مضمون هذه الأفكار بمعايير السياسة الواقعية وشروط التفكير بها وغايتها الفعلية من الناحية العملية، فإننا نقف أمام مصادرة تقليدية للعقل والضمير والتاريخ العراقي. والأشد من ذلك أن تجري هذه المصادرة على أسس طائفية باسم وطنية غير واضحة المعالم. إذ لا تعني فكرة «علماء الدين هم دائما قادة هذه الأمة» وإنهم من يعيد الأمور إلى نصابها ويصحح زلل الأمة ويستلم السلطة ويسلمها لمن يعتقدون أنهم الأفضل والأكثر أمانة، سوى الصيغة الأشد امتهانا للفكرة السياسية والاجتماعية والعقلانية والقانونية!!
إننا نقف أمام رؤية مزورة لتاريخ الدولة والسلطة في العراق القديم والحديث على السواء. أما حالما يجري وضعها بمعايير دولة القانون والمؤسسات والنظام الديمقراطي فانها تبدو اقرب إلى الخرافة المستحيلة. وبما أن (هيئة علماء المسلمين) هيئة سنيّة فان معايير اختيارها للأفضل والأسلم طائفية بالضرورة. كما أن نفسيتها هذه وذهنيتها تعكس مدى خروجها عن حدود الرؤية الواقعية والعقلانية وجهلها بطبيعة الصراع الحالي في العراق ومحتواه وقواه المحركة المحلية والإقليمية والعالمية. وتشير هذه الرؤية إلى مستوى الابتعاد عن تاريخ العراق الفعلي وآفاقه المستقبلية.
غير أن الانحطاط الأكبر بالنسبة للوعي الاجتماعي والسياسي يقوم في صعود (هيئة علماء المسلمين) السنّة، بوصفها مؤسسة دينية تقليدية إلى مصاف القوة السياسية الفعالة. فهو صعود يمثل عين الهبوط الفعلي للتقاليد الواقعية والعقلانية للحركات الاجتماعية والسياسية. أما تحولها إلى قوة معنوية ومعيار يقاس به الوعي السياسي الوطني والقومي، فانه استعادة فجة لتقاليد عفا عليها الزمن. إلا أنها تشير إلى أزمة الوعي السياسي ومأزق الحركات والأحزاب السياسية الوطنية والقومية العربية في العراق.


صعود المرجعية الشيعية

والشيء نفسه يمكن قوله عن صعود الحوزة الشيعية ومختلف مرجعياتها. حقيقة أن للحوزة العلمية والمرجعية تاريخ خاص لا يمكن مقارنته بهيئة علماء المسلمين وأمثالها من المؤسسات التي اقترن وجودها السابق أو الحاضر بالسلطة. إلا أن تاريخها الحديث لا ينفصل عن دراما التشيع العراقي القديم والحديث من جهة، وعن تركيبة وسياسة السلطة السياسية، مما أعطى للحوزة الدينية والمرجعيات الشيعية طعما ومذاقا وتأثيرا في الوسط العراقي له اثر وقيمة تتعدى حدود السياسة المباشرة وطبيعة السلطة المركزية. وذلك لما في المرجعية الشيعية نفسها من تقاليد مركزية خاصة بها. وأدت هذه التقاليد في ظروف العراق، وبالأخص في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين حتى سقوط السلطة الصدامية، إلى صنع ما أسميته بالكنيسة الشيعية الشعبية. والمقصود بذلك طبيعة مؤسساتها، التي استطاعت تمثل وتمثيل تيار المعارضة المتنامية للدكتاتورية وطائفيتها السياسية.
وليس مصادفة أن تتحول الحوزة الدينية الشيعية ومرجعيتها العامة وشخصياتها المتنوعة والمختلفة إلى ميدان الصراع المباشر وغير المباشر من اجل تمثل وتمثيل ما أسميته بالتكتل الشيعي. وهو تكتل كان يتضمن في ظروف الدكتاتورية والطائفية السياسية أبعادا احتجاجية واجتماعية وإنسانية. وكشف التاريخ السياسي عنها بأشكال ومستويات متنوعة في مجرى العقود الأخيرة، وبالأخص منذ تسعينيات القرن العشرين وبعد سقوط الدكتاتورية الصدامية.
فقد كشفت هذه الأحداث عما في الظاهرة الشيعية العراقية من عراقة وأصالة في تمثل وتمثيل الفكرة الإسلامية المناهضة للاستبداد والظلم. وهو الأمر الذي جعل من «الحوزة الدينية» خلية سياسية وثقافية هائلة للتماسك الاجتماعي. مما كان يولد فيها بصورة واعية وغير واعية عناصر تقليدية ونقدية أيضا، للاستمرار الفعلي المتمثل لقيم المجتمع المدني، باعتباره مجتمع الحركة الذاتية الحرة والمقيدة بمعايير الشرعية والقانون. فقد كانت هذه المعايير تستجيب لنفسية وعقلية العراقيين بمختلف قومياتهم. وفي هذا كانت وما تزل توجد قيمة أخلاقية وسياسية هائلة بالنسبة لبناء مقومات المجتمع المدني البديل. بمعنى إمكانية العثور على ما يمكن دعوته بالمرجعية الروحية للألفة الاجتماعية وتماسك عروتها الوطنية على أسس الشرعية والحق. الأمر الذي يمكن أن يجعل من التشيع رافدا هائلا من روافد تمثيل الاستعراق الثقافي، كما أن التشيع في إيران، على سبيل المقارنة، هو التمثل الثقافي للنزعة الإيرانية. وتبرهن هذه الصيغة على أن التشيع في العراق هو الأكثر تمثيلا للمصالح القومية العليا التي لا تتعارض مع المبادئ الكبرى للإسلام. والقضية هنا ليست في كونه تشيعا، بقدر ما انه مذهب الأغلبية. وهو السبب الذي يذلل فيه نفسية المذهبية الضيقة ويجعل منه بالضرورة كيانا ثقافيا. وذلك لأن مذهب الأغلبية عقل، بينما مذهب الأقلية نفس. غير أن التشيع المعاصر، في حال وضعه ضمن معايير الرؤية السياسية والأيديولوجية، فإنه ما زال يعاني من نقص جوهري في قدرته على تأسيس الرؤية الإستراتيجية الواقعية والعقلانية عن المجتمع المدني البديل. وهو نقص يكمن في بنيته التقليدية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية.
إن مفارقة الاستمرار التاريخي للمرجعية الشيعية في العالم المعاصر تحتوي بحد ذاتها على تناقض يعكس حالة المسار التاريخي للدولة والثقافة في العراق الحديث. وهو تناقض له مقدماته الخاصة في نوعية وكيفية الانقطاع التاريخي للثقافة العربية الإسلامية من جهة، وضعف التكامل القومي (العربي) من جهة أخرى. إذ يمكننا العثور في هذا الاستمرار على بقايا «متحجرات» العالم القديم، كما يمكننا أن نرى فيه قدرة وحيوية خاصة على مواجهة مختلف الانعطافات الحادة والبقاء العنيد في تحدي الزمن والسلطات. واحتواءها على هذين المكونين حدد طابعها المتناقض، والذي يكشف بدوره تناقض الحياة وخصوصية تمظهره في التاريخ العراقي.
إن ديمومة «المرجعية الشيعية» في العراق تشير إلى استمرار تقاليد العزلة التاريخية والبقاء ضمن تقاليد العالم القديم، ولكنها تبرهن في الوقت نفسه على حيوية سياسية قادرة على فك الرباط التاريخي الذي حنط اغلب «إبداعها» الفكري في قيود الفقه و«اجتهاده» المناسب. وهو تحدي فعلي تواجهه الآن وسوف يجبرها في الفترة القريبة القادمة على مواجهته بإشكال ومستويات مختلفة ومتنوعة.
فالقوة التاريخية المحتبسة في جسد المرجعية الشيعية تقوم في مؤسستها. وهي مؤسسة تقليدية، ومن ثم تختزن في ذاتها ترسبات التقليد والتاريخ المنصرم. بمعنى تراكم الزمن الميت فيها إلى جانب حيويتها النسبية في أوساط العوام. وإذا كانت هي اليوم القوة الأكثر تأثيرا في العراق فان ذلك يشير أولا وقبل كل شيء إلى نوعية الانحطاط الفكري والسياسي للدولة والمجتمع. وذلك لان حقيقة المرجعية تقوم في مرجعية الحقيقة، أي في الثقافة الحية القادرة على إبداع منظومات فكرية مختلفة في نماذجها الفردية ومتوحدة في همومها المشتركة.
لكن حالما نضع هذه الفكرة ضمن معايير التحليل السياسي للماضي والمستقبل، فان المرجعية الشيعية من حيث كونها مؤسسة دينية، كانت على الدوام وثيقة الارتباط بالتاريخ السياسي. ويعطي هذا الواقع لنا إمكانية القول، بان للمرجعية في العراق ماضيها وحاضرها ومستقبلها! بمعنى تأثيرها الخاص والمتميز. كما أعطى ويعطي هذا الواقع لها في ظروفه الحالية أهمية استثنائية بوصفها إحدى القوى الكبرى المؤثرة على آفاق ارتقائه أو انحطاطه. وهي آفاق مرتبطة بتاريخ التشيع وأثره في كينونة العراق ككل.(يتبع...)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة