الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتصار الثورة المحطمة

راتب شعبو

2020 / 3 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


بعد تسع سنوات، نجد أنفسنا، نحن السوريين، أمام ثورة تحطمت تحت آلة بطش وحشية، كما تحطمت غيرها الكثير من الثورات عبر التاريخ. لكن ما يثقل على نفس السوريين الذين خرجوا على نظام الأسد أن ثورتهم تحطمت من داخلها أيضاً، وتاهت عن هويتها السياسية إلى حد أنها انقلبت إلى هوية مضادة سياسياً (غلبت عليها سياسات مستبدة في العلاقة مع الشارع، وأظهرت تبعية وارتهان متزايد لمصالح دول تعلو على مصالح الشعب السوري وثورته) وهوية مضادة فكرياً (سيطرة الفكر الإسلامي الجهادي العدمي). لا يغير في الأمر أن تكون الثورة قد تحطمت من الداخل تحت تأثير القمع أو تحت تأثير تناقض القوى المكونة لها، أو للسببين معا، كما نرجح. المهم أن الثورة لم تحافظ على هويتها وراحت تتخذ طابعاً لا ثورياً أكثر فأكثر، وتستهلك بتسارع كبير القيمة الأخلاقية السامية للثورة.
من الخطأ الاعتقاد أن استمرار المواجهة العسكرية مع نظام الأسد يكافئ استمرار الثورة، ذلك أن الفصائل العسكرية التي أتيحت لها سبل الصمود والاستمرار والتي تولت هذه المواجهة كانت، في الواقع، أقل عداء لنظام الأسد من عدائها لقوى الثورة، نقصد للقوى ذات المضمون الديموقرطي التي تهدف إلى تغيير فعلي في آلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فقد تعايشت هذه الفصائل مع نظام الأسد في فترات الحصار عبر عملاء تجاريين ومعابر مأجورة أثرت من خلالها النخبة الفاسدة والمتحكمة على رأس هذه الفصائل التي "تصالحت" تالياً مع نظام الأسد، فدخل بعضها في عداد قواته، فيما خرج البعض الآخر، ممن رفض المصالحة، إلى مناطق إدلب مكرهاً، ليجد نفسه محكوماً بالعموم، إما لجبهة النصرة أو للدولة التركية. بالمقابل، لم تستطع هذه الفصائل التعايش مع العناصر الديموقراطية العلمانية المتواجدة في مناطق سيطرتها، فكان مصير هذه العناصر الإذعان أو الاغتيال أو السجن أو الفرار، تماماً كحالها في مناطق سيطرة نظام الأسد. استمرار المواجهة العسكرية، والتقدم هنا والتراجع هناك، صار تعبيراً عن صراع من نوع آخر لا علاقة له بالصراع الثوري الأول الذي اندلع لدوافع تحررية، مختلفة تماماً عن الدوافع التي راحت تغذيها الفصائل الإسلامية وداعميها الإقليميين (صراع مصالح بين دول تستثمر في الانقسام الطائفي).
ما سبق من عرض لا يخرج عن السياق العام للثورات التي تدفعها عوامل مختلفة لاتخاذ مسارات عدمية، غير أن الفارق السوري يكمن في أن تاريخ الثورة السورية لم يعرض علينا تمايزاً يفرز بين الهوية الثورية التي جرى إقصاؤها بتدريج متسارع، وبين الهوية الإسلامية الجهادية المضادة للثورة التي سيطرت على الضفة المواجهة لنظام الأسد. كان من شأن غياب هذا التمايز أن جعل "أهل الثورة" يتحملون أخلاقياً وزر جرائم "أهل الثورة المضادة"، أو بكلام آخر، سمح لهؤلاء الأخيرين أن يرتكبوا جرائمهم باسم الثورة. نعتقد أن هذا التداخل سوف يثقل على تأريخ (كتابة تاريخ) الثورة، كما أثقل على تاريخها نفسه.
يمكن رد التداخل، أو عدم وضوح التمايز بين الهويتين الثورية والمضادة للثورة، إلى عاملين: العامل الأول هو الصعوبة النفسية لدى أهل الثورة السورية في رؤية التبدل الجوهري في طبيعة الصراع، وخروجه عن كونه صراعاً ثورياً إلى كونه صراعاً عدمياً، أي لا ينطوي على قيمة ثورية، ولا يفضي إلى تغيير فعلي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. بقول آخر، الرفض النفسي لدى أهل الثورة برؤية احتضار ثورتهم، وتحولها إلى صراع مصالح إقليمية ودولية مستقلة أصلاً عن مصلحة الثورة. هذه الصعوبة النفسية جعلت أهل الثورة يقحمون رغباتهم الثورية في المادة الإسلامية غير الثورية المسيطرة على الصراع العسكري ضد نظام الأسد، ولاسيما أن كثير من عناصر الفصائل الإسلامية الجهادية كانوا هم أنفسهم عناصر فاعلة ونشطة في مرحلة الثورة الأولى. ولتأمين هذه الحاجة النفسية اجتهد الوعي في حجب الطبيعة المضادة للثورة (جرائم القتل الوحشي والتمثيل بالجثث، والبطش بالعناصر الديموقراطية والعلمانية، سياسات التمييز الطائفي والعشائري وبروز النزعات القومية الشوفينية) بوصفها "نتائج ثانوية" للثورة، وليست متن ثورة مضادة. كانت غاية الوعي هي الوصول سلفاً إلى النتيجة المرغوبة وهي أن الثورة مستمرة.
العامل الثاني هو الروح الانتقامية العصبوية والوحشية التي لا حدود لها، التي تتعامل بها قوات نظام الأسد وحلفائه مع المناطق التي يستردون السيطرة عليها، الأمر الذي يدفع السوريين بشكل عفوي ومفهوم إلى مساندة الفصائل التي تواجه قوات النظام وتمنعه من إعادة السيطرة على مناطقها. تكرست بالتالي حقيقة تقول إن هذه الفصائل هي "الامتداد الطبيعي" للثورة التي خرج إليها السوريون ضد نظام الأسد. هذا المآل الثقيل الذي صار إليه أهل الثورة دفعهم إلى محاججات دفاعية، مثل إن أصل الشرور هو نظام الأسد، وأنه لا يجوز المساواة بين الضحية والجلاد ..الخ.
الواقع أن غالبية القوى الديموقراطية السورية المقهورة ساندت القوى العسكرية الإسلامية فقط لأنها تواجه نظام الأسد، رغم أن القوى الإسلامية ساهمت في سحق الديموقراطيين وجعلت من نفسها "أنظمة" قمع، كل حسب قدرته، ومن مناطق سيطرتها مناطق طاردة لطيف من التنوع السوري الديني والقومي. النتيجة هي غياب أو شحوب التمايز بين معسكرين سياسيين وفكريين سوريين متمايزين في العمق. يترتب على هذه النتيجة أن صورة الثورة الأولى، بما هي مسعى تغيير سياسي عميق ينسجم مع مصالح المحكومين وأدنى إلى قيم الحداثة والأخلاق الإنسانية، تداخلت أو ضاعت في صورة الصراع الطائفي المرتهن للخارج وغير الثوري الذي ابتلع الثورة. هذه الحقيقة حرمت الثورة السورية من بلورة وإبراز علوها الأخلاقي ورمزيتها الثورية المتمايزة، الأمر الذي حرمها بالتالي من تحقيق انتصار معنوي وأخلاقي صريح رغم هزيمتها المادية أو العسكرية، الانتصار الذي يشكل سنداً روحيا للثائرين المهزومين، ويشكل خميرة ورصيد معنوي لثورات قادمة. وهو انتصار لا يمكن لأي قوة، مهما توحشت، أن تمحوه. خسارة أهل الثورة السورية لهذا السند المعنوي لا يقل ثقلاً وألماً عن خسارتهم المادية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد بين إيران وإسرائيل .. ما هي الارتدادات في غزة؟ |#غرف


.. وزراء خارجية دول مجموعة الـ7 يدعون إلى خفض التصعيد في الشرق




.. كاميرا مراقبة توثق لحظة استشهاد طفل برصاص الاحتلال في طولكرم


.. شهداء بينهم قائد بسرايا القدس إثر اقتحام قوات الاحتلال شرق ط




.. دكتور أردني يبكي خلال حديثه عن واقع المصابين في قطاع غزة