الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد كورونا: معالم نظام عالمي جديد؟

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2020 / 3 / 27
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


القوة الأعظم في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية تترنح أمام الوباء وتتجاوز غريمتها الصين في عدد الإصابات بفيروس كورونا. في هذه اللحظة يبدو كل جبروتها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي عاجزا أمام عدو صغير لا يرى بالعين المجردة، بينما تستعرض الصين بفخر إنجازتها في مكافحة الفيروس بعدما نجحت – على الأقل حاليا - في احتواء تفشي كورونا وبدأت بتحريك عجلتها الاقتصادية الهائلة في رسالة تحدٍ واضحة للعالم الغربي. صحيح أن رئيسها مدى الحياة "شي جينبينغ" أبدى في مكالمة تلفونية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استعداده للتعاون في الحرب ضد كورونا، لكن من الواضح أن الصراع بين القوتين العظمتين يدخل مرحلة فاصلة جديدة. تجلى ذلك بوضوح أيضا في الخلاف بين البلدين حول مصدر الفيروس. ففي حين وصف ترامب كورونا بـ"الفيروس الصيني" أو "فيروس ووهان"، اتهم مسؤولون صينيون جنودا أمريكيين بنقل كورونا إلى المقاطعة الصينية الموبوءة. استهوت اللعبة لاعبون آخرون ومنهم قيصر روسيا الأبدي فلاديمر بوتين الذي لم يكتفِ بإرسال مساعدات طبية إلى إيطاليا بالطائرات، وإنما حرص أيضا على نقلها داخل البلد الأوروبي بشاحنات عسكرية ترفع العلم الروسي في تشفٍ واضح من الاتحاد الأوروبي وتعبيرا عن الثقة العالية بالنفس لقائد الكرملين الذي عدّل الدستور ليضمن حكمه الفردي لسنوات طويلة مقبلة. تشير هذه التطورات إلى أن عام 2020 يمكن أن يصبح بداية لعصر جديد، لكن إعادة رسم الخارطة الدولية الجديدة لن تُحسم في الجانب الصحي أو بصور الدعاية بالدرجة الأولى، وإنما في الجبهة الاقتصادية.
كل يوم يمر على إجراءات الإغلاق التام للحدود والمطارات والمصانع والمطاعم والمرافق السياحية والمدارس يعني مزيدا من الانكماش في الاقتصاد العالمي وخسائر باهظة يصعب التنبؤ بتداعياتها السياسية والاجتماعية على المستوى الوطني والدولي. لو استمرت هذه الإجراءات غير المسبوقة لمدة شهرين فقط فإن من المؤكد أن العواقب الاقتصادية لأزمة كورونا ستفوق نتائج أزمة الكساد العظيم التي عصفت بالنظام الرأسمالي قبل تسعين عاما وأدت إلى موجة إفلاس هائلة للشركات وتسريح ملايين العمال والموظفين. وهذا ما يخساه ترامب على وجه الخصوص الذي ينظر بعين القلق إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في خريف هذا العام. لكن أزمة ثلاثينيات القرن الماضي أسفرت أيضا عن تحولات سياسية عميقة وخطيرة داخل الدول الكبرى حينها وعلى توازن القوى بينها. كان تصاعد التيارات والقوى المتطرفة والمتعصبة من اليمين واليسار أهم سمة لتلك الفترة الحرجة قبيل الحرب العالمية الثانية. لم يقتصر الأمر على سقوط التجربة الديمقراطية في كل من ألمانيا وإيطاليا وصعود هتلر وحزبه النازي وموسوليني وحزبه الفاشستي إلى رأس السلطة في البلدين فحسب. فقد نجح أيضا الدكتاتور الأحمر جوزيف ستالين في تصفية خصومه في قيادة الحزب البلشفي وترسيخ نفوذه المطلق في الكرملين وإخضاع الحركة الشيوعية لمشيئته. كما شهدت نهاية ما دعي بسنوات العشرينات الذهبية في القرن الماضي وتفاقم أزمة النظام الراسمالي في تلك الفترة تطورات مماثلة في اليابان وعدة دول في أوروبا الشرقية. في المقابل بدت الديمقراطيات الغربية وخاصة في فرنسا وبريطانيا في منتهى الضعف، فيما واصلت الولايات المتحدة في البداية سياسة النأي بالنفس عن هذا الصراع واستغلاله لتوسيع نفوذها. توجت هذه العملية التاريخية في نهاية المطاف باندلاع الحرب العالمية الثانية وظهور نظام القطبين.
تشير الكثير من الدلائل إلى أن كورونا سيشكل نقطة فاصلة على طريق التمهيد لمرحلة تاريخية جديدة. فالصين على وجه الخصوص تحاول توظيف نجاحاتها حتى الآن في تحجيم انتشار الوباء للترويج لنموذجها القائم على الجمع بين اقتصاد السوق ومزايا العولمة من جهة وبين نظامها الاستبدادي من جهة أخرى. يوحي المارد الأصفر بأن الفضل في نجاحه في مكافحة الفيروس يعود إلى حكم الحزب الواحد ووجود دولة "حازمة" قادرة على فرض إجراءاتها الصارمة وإلزام المواطنين باتباعها بعكس حالة "التراخي والتردد" السائدة في الديموقرطيات الغربية في ظل ارتباك الاتحاد الأوروبي واتساع الخلافات بين ضفتي الأطلسي . لا ريب أن تفاقم الأزمة الاقتصادية جراء كورونا ستوفر أرضية مناسبة لتزايد شعبية هذه الأفكار المناهضة للديمقراطية على الصعيد العالمي. من جهة أخرى لم تنتظر بكين القضاء على الوباء نهائيا، بل سارعت وبشكل محموم لإعادة الدورة الاقتصادية إلى حالتها الطبيعية وتحريك عجلة الانتاج، وهي قضية ضرورية وتصب أيضا في صالح الاقتصاد العالمي الذي تعتمد سلاسل الإمداد فيه بشكل رئيسي على المصانع الصينية. لكن الصين تحاول أيضا استغلال الفرصة السانحة لجني مزايا في المنافسة مع السوق الأمريكية والأوروبية، لا سيما بعد أن نجح ترامب في إجبار القيادة الصينية على تقديم تنازلات على خلفية احتدام الحرب التجارية والجمركية بين البلدين والتي أصبحت الآن جزءا من الماضي.
لا يستبعد كذلك أن تشجع أزمة كورونا الإسلام السياسي بمختلف أطيافه على التحرك من جديد لتأجيج العداء ضد الغرب ومهاجمة المصالح الغربية، وخاصة الأمريكية. لا يسري هذا على قوى الإرهاب الإسلامي المنتشرة في العالم فحسب، والتي قد تجد في إنشغال الغرب بالمعركة ضد كورونا فرصة للانتقام. يُتوقع أيضا أن تقوم إيران وتركيا، أهم ممثليْن للإسلام السياسي الشيعي والسنى بإعادة حساب أوراقهما في الصراع مع الغرب وحلفائه في المنطقة على الرغم من أن الدولتين قد تواجهان في كورونا عدوا لا يقل شراسة.
مع أن تطورات أزمة كورونا ترُجح حتى الآن حصول تغيرات ملموسة في ميزان القوى الجيوسياسي والاقتصادي لصالح الصين بالدرجة الأولى، إلاّ أن الأزمة الحالية تختلف عن أزمة الكساد العظيم التي اندلعت في عام 1929. في تلك الفترة لم تكتشف حكومات الدول الرأسمالية بعد أهمية الوصفة الكينزية (نسبة للمفكر الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون مينارد كينز) الذي أكد على أهمية تدخل الدولة أثناء فترة الركود من خلال زيادة الإنفاق الحكومي وتحفيز الطلب العام. الآن سارعت أغلبية الدول الصناعية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا إلى اعتماد برامج تحفيزية غير مسبوقة وضخ سيولة مالية بقيمة ترليونات الدولارات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتخفيف عواقب الكساد الاقتصادي المقبل.
حتى الآن يعتبر الغرب البؤرة الأخطر للوباء وضحيته الأولى. لكن لا أحد، ولا حتى علماء الفيروسات، يستطيع الإجابة على السؤال: متى سينحسر فيروس كورونا؟ الشيء المؤكد هو أن الخوف - ورغم التفاوت في الأضرار- يعم الجميع وسط قناعة بأن كورونا لا يتوقف عند الحدود. تشكل هذه القناعة أرضية مناسبة لتحسين التعاون الدولي، وهذا ما ظهر في حده الأدنى في قمة العشرين الافتراضية مؤخرا لكبرى الدول الصناعية والناشئة. ولكن ذلك لن يغطي على الصراعات المحتدمة بين التكتلات والقوى الدولية وعلى حقيقة انبثاق رابحين وخاسرين من هذه العملية التاريخية الجارية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد