الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقتطف من حديث سلافوي جيجيك حول موضوع -الرأسمالية الإنسانية-

محمد فتوحي

2020 / 3 / 29
مقابلات و حوارات


ترجمة: محمد فتوحي.

أريد أن أوضح بالتفصيل خطا فكريا بسيطا للغاية حول نقطة واحدة: لماذا لم يعد العمل الخيري في اقتصادنا مجرد خاصية يتميز بها بعض الأشخاص وفقط، بل مكونا أساسيا وجزء لا يتجزء من اقتصادنا؟

أود أن أبدأ أولا بمستقبل ما يسمى بالرأسمالية الثقافية ، وهو شكل الرأسمالية اليوم ، ثم أوضح بعد ذلك بالتفصيل كيف ينطبق الشيء نفسه على الاقتصاد بالمعنى الضيق للمصطلح. مالذي تغير منذ تحول الرأسمالية في عام 68 إلى ما نسميه عادة الرأسمالية الثقافية، وإلى التصور الما بعد الحداثي لرعاية البيئة وما إلى ذلك؟

ما تغير هو أنه في الماضي كان هناك تناقض بسيط بين ما تفعله مستهلك ( أي كل مايتعلق بمشترياتك ومضارباتك في البورصة، وما إلى ذلك) وما تقدمه من خدمات للمجتمع. جورج سوروس، رجل الأعمال الأمريكي والهنغاري الأصل، مثال حي ونموذج قديم يجسد هذا التناقض. لتبسيط الفكرة، في الصباح يقوم سوروس بسرقة الأموال و في المساء يعيد نصفها إلى المؤسسات الخيرية.

إن الرأسمالية في عصرنا هذا تخطو نفس الاتجاه نحو دمج البعدين معا في نفس الكتلة. لذلك عندما تشتري شيئًا ، فإنك تحس كمناهض للإستهلاك أنه من واجبك أن تقدم شيئًا للآخرين، وأن تقوم بشيئ من أجل البيئة و تقدم خدمات للمجتمع وما إلى ذلك. كل هذا يتم دمجه في عملية الشراء. لنأخذ على سبيل مثال مقهى ستاربكس، فشعار حملتها هو كالتالي : "إنه ليس فقط ما تشتريه (القهوة) ؛ بل أيضا ما تشتريه معها. عندما تشتري ستاربكس، سواء أدركت ذلك أم لا فإنك تشتري شيئا أكبر من فنجان قهوة وهو الواجب الأخلاقي. أضف إلى ذلك، فبرنامج ستاربكس يحرص على ضمان حصول مزارعي البن على سعر منصف لعملهم الشاق."

هذا ما أسميه ب"الرأسمالية الثقافية" في أنقى صورها. أنت لا تشتري القهوة فحسب، بل بفعلك الاستهلاكي هذا إنك ضمنيا تشتري صك التكفير عن ذنوبك لكونك مجرد مستهلك. أي، باقتنائك للقهوة فأنت تكفر عن ذنوبك الاستهلاكية بفعل شيئًا من أجل البيئة، وبتقديم المساعدة للأطفال الجياع، أو بصفة عامة بفعل شيئًا لاستعادة الإحساس بالمجتمع.

مثال آخر في نفس الصدد ، لكن هذه المرة يتعلق الأمر ب"أحذية تومز"، للشركة الأمريكية، صاحبة الصيغة "واحد مقابل واحد". تدعي هذه الشركة أنه مقابل كل زوج واحد من الأحذية تشتريها منها ، فإنها ستعطي زوجًا واحدا من الأحذية لبعض الدول الأفريقية الفقيرة. فصيغة "واحد مقابل واحد" تعني أن داخل كل فعل استهلاكي يتم دمج فكرة التكفير عن الذنوب. أي أنه لا يتعلق الامر هنا بمجرد شراء فنجان قهوة أو أحذية فحسب، بل أيضا بإنجاز سلسلة كاملة من الواجبات الأخلاقية.

أعتقد أن هذا المنطق أصبح عالميًا تقريبًا لدرجة أنه عندما تذهب إلى المتجر ربما تفضل شراء ما يسمى بالتفاح العضوي، ولدرجة تعتقد حقًا أنه أفضل بكثير رغم أن ثمنه يساوي ضعف ثمن التفاح المعدل وراثيًا. إن منطق الفعل الاستهلاكي هذا يجعلك تشعر بالدفء و الارتياح ويشعرك بأنك تقدم شيئًا جميلا لأرضنا الأم.

المقصود هنا  هو أن منطق الرأسمالية الثقافية يعتمد أساسا على الفعل الاستهلاكي الأناني الذي يتضمن بشكل مسبق نقيضه (ثمن التكفير عن الذنب).

بناءً على كل هذا ، أعتقد أنه يجب أن نعود إلى أوسكار وايلد القديم الذي قدم أفضل صياغة ضد منطق العمل الخيري هذا. اسمحوا لي أن أقتبس فقط من بداية كتابه "روح الإنسان المعاصر في ظل الاشتراكية"، حيث يشير أن "من السهل جدا ان نتعاطف مع المعاناة من أن تعاطف مع الفكر".

العديد من الناس يجدون أنفسهم محاطين بالفقر البشع ، والقبح البشع ، والمجاعة البشعة. من الطبيعي جدا أن تتحرك مشاعرهم بقوة إزاء هذه البشاعة. فتراهم، بنية حسنة وإن كانت في غير محلها، يتولون على محمل الجد والعاطفة مهمة معالجة الشرور التي يرونها. لكن هذه العلاجات لا تشفي من المرض فهي تطيله فقط ؛ في الواقع هذه العلاجات جزء لا يتجزأ من المرض. يحاولون مثلا حل مشكلة الفقر بواسطة إبقاء الفقراء على قيد الحياة أو بواسطة تسليتهم والترفيه عنهم. لكن هذا ليس حلاً، بل يزيد الطينة بلة ومن تفاقم الأزمة.

الهدف الصحيح هو أن نحاول إعادة بناء مجتمع بديل حيث يكون فيه الفقر أمرا مستحيلاً ، لكن فضائل الإيثار هذه (الإحساس بالآخرين والعمل الخيري...إلخ) تحول دون تحقيق هذا الهدف. إن أسوأ مالكي العبيد هم أولئك الذين كانوا لطفاء مع عبيدهم. العمل الخيري يحط من قدر الإنسان و يضعف معنوياته . من غير الأخلاقي استخدام الملكية الخاصة من أجل التخفيف من شرور هي أصلا ناتجة عن مؤسسات الملكية الخاصة.

أقترح -أقل ما يمكن فعله- أن لا نتخلص من الشر وأقترح أيضا أنه يجب على الأقل أن نجعل هذا الشر في خدمة الخير. أتذكر قبل ثلاثين و اربعين سنة كم كنا مجانين وكم كنا نحلم بتحقيق اشتراكية بوجه إنساني. اليوم ،أقصى مايمكن أن يبلغه أفق خيالنا هو تحقيق رأسمالية عالمية بوجه إنساني. يمكن أن نلخص قواعد اللعبة الأساسية كالتالي: جعل الرأسمالية أكثر إنسانية ، وأكثر تسامحًا مع القليل من الرفاهية وما إلى ذلك.

موقفي هنا هو أن نعطي للشيطان ما للشيطان (الرأسمالية). بصراحة، لا أعتقد أن الانسان عاش في أي لحظة من تاريخ البشرية مثل هذه الحريات النسبية والرفاهية والأمن وما إلى ذلك. لكن كل هذه الامتيازات مهددة بشكل تدريجي و بشكل خطير.

قبل سنوات مضت سألني مقدم برنامج Hard Talk ما إذا كنت كارها للبشر. أجبته بنعم، لانه في نظري ، هناك نوع معين من كراهية البشر أفضل بكثير كموقف اجتماعي من هذا التفاؤل الخيري المنافق.

بالطبع، أنا لست ضد العمل الخيري، على الأقل فهو أفضل من اللاشيء. ولكن لا يجب أن نغض النظر عن النفاق كعامل وراء العمل الخيري. العديد من الناس ومن أماكن مختلفة يدعون أن جورج سوروس كان رجلا أمينا. المفارقة هنا هي أن سوروس كان يصلح بيده اليمنى ما كانت تفسده يده اليسرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات في بريطانيا لبناء دفاع جوي يصُدُّ الصواريخ والمسيَّرات


.. جندي إسرائيلي يحطم كاميرا مراقبة خلال اقتحامه قلقيلية




.. ما تداعيات توسيع الاحتلال الإسرائيلي عملياته وسط قطاع غزة؟


.. ستعود غزة أفضل مما كانت-.. رسالة فلسطيني من وسط الدمار-




.. نجاة رجلين بأعجوبة من حادثة سقوط شجرة في فرجينيا