الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعنة العولمة وٲهل القرية الصغيرة

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2020 / 3 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كانت موضوعة العولمة هي السائدة منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي والى الآن بتأثيرها على مجمل المجالات الرئيسية في الحياة البشرية من التواصل وصناعة الألكترونيات وتطوير تكنولوجيا المعلومات والمعارف والتقنيات الحديثة في الرقابة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والعسكرية والنمو السريع في آليات توجيه الصواريخ والأسلحة المتنوعة والتحكم بقدراتها التدميرية و.....الخ. العولمة لم تكن مُنَظّمة من قبل لا إدارياً ولا سياسياً ولا أخلاقياً في التعامل مع مستويات الوعي للأفراد وحدود الثقافات، بقدر ما كانت تتجاوز كل أنواع الحدود من الجغرافية والثقافية والذاتية الى أن وصلت الى مرحلة اللاسيطرة واللاأبالية في تبعثرها وعبثيتها من نشر المعلومات دون الإعتبار للخصوصيات والعوامل المكانية والأنثروبولوجية للمجتمعات. صحيح إنها نتاج التطور السريع للعقل البشري إلاّ أنها إتجهت منحىً آخر غير المنحى الثقافي إذ أستغلت رأسمالياً وسوقياً بحيث خرجت عن سيطرة الثقافة والمعرفة الإنسانية الخالصة، وأُصطُبِغَت بصبغة المال وفي خدمة غريزة السيطرة لأصحاب النفوذ والقدرات العسكرية والصناعية الكبيرة، وسادت فيها الثقافة السطحية اللامبنية على المعطيات البيئية الواقعية بقدر ما هي ثقافة الشاشة التي تتغير بالأصابع وتتأثر بجماليات التصاميم الجذابة من حيث قابليتها على وقوع المتلقي في حالة من الدهشة الدائمة وثقافة المتعة.
يقول رونالد روبرتسون في كتاب له بعنوان (العولمة....النظرية الإجتماعية والثقافة الكونية،1998): إنني أؤكد أن ما يسمى بالعولمة، رغم المفاهيم المختلفة لذلك الموضوع، يمكن فهمها أحسن ما يكون الفهم بإعتبارها مؤشراً لمشكلة الشكل الذي يصبح العالم بموجبه موحداً، وإن كان ذلك لا يعني بحال إدخاله في نمط نفعي ساذج. بعبارة أخرى فإن العولمة بإعتبارها موضوعاً، تعد مدخلاً مفاهيمياً لمشكلة النظام العالمي بالمعنى الأكثر عمومية، إلاّ أنه رغم ذلك مدخل لا تكون له أية وسيلة لزيادة قوته المعرفية في غياب مناقشة معقولة للمسائل التأريخية والمقارنة. بل إنها ظاهرة تتطلب بوضوح التعارف على تسميته بالمعالجة العلمية المتداخلة أو المؤالفة المعرفية التي هي: أسلوب للتخاطب والتواصل والحوار بين فروع المعرفة العلمية المتخصصة يستهدف تسهيل التبادل الفكري بينها، وتحقيق الترابط المنطقي للغة خطابها، ان على مستوى المفاهيم أو الرؤية النظرية أو الأدوات المنهجية أو النتائج.
يبدو إن المشكلة كانت في بنية الخطاب العولمي، فالخطاب لم يكن مركزياً إذ خرج عن سيطرة الخطاب الفكري والمعرفي، وتَمَسّكَ بزمامها الأسواق والشركات الكبرى العابرة للحدود والقوميات. في الخطاب العولمي المتأسس على الديمقراطية والحرية المنادية بها رموز الفكر الفلسفي النهضوي، لا تنفصل العلوم عن بعضها بل تتماسك وتتداخل في آليات المعالجة العلمية والتي سماها روبرتسون بالتآلف العلمي، ولا ينحرف المسار الى موضوعة السلع والسوق ورؤوس الأموال فقط، الموضوع الأساسي كان هو الإنسان بالدرجة الأولى.
يشير فروم(2003) بصدد النهضة في كتاب "الإنسان المستلب وآفاقه" ما يلي: لقد أصبح إنسان النهضة واعياً بقيمته، وأصبح واعياً بأنه مرغم على أن يتحرر من أغلال الطبيعة وأن يتحكم فيها. وقد قاد العلم الجديد وأحاسيس الحياة الجديدة على مدار القرون اللاحقة الى إكتشاف العالم، الى تقنية وصناعة جديدتين الى التحكم في العالم. وقد وصلت النزعة الإنسانية الجديدة في القرن 17 و 18 الى أعلى مراتب لها. فقد تركز الفكر الغربي على الإنسان.
ولكن خروج العولمة عن مسارها المعرفي العلمي أدت بها الى التقولب في مسميات كالتأمرك مرة والتأورب مرة أخرى والعولمات الإقليمية أيضاً. خروج الممارسة عن بنية الخطاب الفلسفي والمعرفي أفسح المجال للدخول الى أنواع أخرى من الحروب إستهدفت النيل من الثقافات الخارجة عن المركز سواءً في دول وحضارات آسيا أو أفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى الدول الأوروبية وكذلك حروب بديلة أخرى كإختلاق المنظمات الإرهابية ومفهوم مكافحتها والتجويع والتفقير وإنشغال العالم بها. إذن العولمة إتخذت شكلاً جديداً من التوسع الإمبريالي زادت غطرستها في النيل من ثقافات الغير لا الحوار والتآلف معها كما تَضَمّنه الخطاب التنويري الفكري والعلمي من أساسه.
تبعثر المراكز ولم يبقى للمركزية بالمعنى الحضاري والعقلاني لها معنىً ومدلولاً جغرافياً، فالخضوع لنرجسيات الشركات التي سيطرت على المؤسسات السياسية في دولها وخاصة في أمريكا، غيّرت خريطة العلاقات الدولية وأعطت لتكنولوجيا المخابرات والتجسس وللسوق وللسلع الأهمية القصوى كما قال يومها (إريك فروم) في كتاب"الإنسان المستلب". وحاربت هذه الشركات العملاقة بشراسة الى الحصول على الأسواق وذلك لتوليد المستهلكين وتمطير منتجاتهم عليهم دون الإعتبار نهائياً للوجود الثقافي والإنثروبولوجي وحتى الأثنولوجي للقوميات والأمم. في جانب آخر حاول الوجه الخارجي المُتَجمّل للعولمة السيطرة على البنية التحتية للدول صاحبة الموارد الطبيعية الخامة على غرار أسلوب أباطرة الإستعمار القديم ولكن بآليات وخطاب منمق آخر، دون مبدأ التوازن المنفعي أو التعامل وفق أخلاقيات التشارك الأممي الهادف الى السلم العالمي المتخيّل، وتشجيع البرامج الدولية لتشكيل الحصانة النفسية ومتانة الشخصية لأفراد الثقافات المختلفة وفق المعاهدات الدولية وحقوق الإنسان.
فالحصانة النفسية ومتانة الشخصية كما اشار اليها مصطفى حجازي في كتاب"علم النفس والعولمة"،تشكل ركناً مكملاً لمتطلبات ولوج سوق العمل. وهنا يطرح برنامج الصحة النفسية، بكامل أبعاده العلاجية والوقائية والنمائية، على برنامج التنشئة المستقبلية. فتحولات سوق العمل تمثل ضغطاً متزايداً على العاملين، وعلى مستويات عدة في آن معاً: هناك التنافس على الجودة، والتحول في المهام، والجري وراء متابعة المستجدات، وإنعدام الضمانات الوظيفية والمداخيل المستقرة، وكذلك إنحسار برمجة الحياة اليومية مابين فترات العمل، وفترات راحة وواجبات أسرية. وهناك أيضاً تزايد العزلة الإنسانية والتفاعل وجهاً لوجه، مع تزايد دخول تقنية المعلومات الى العمل، وما تحمله من"فراغ وجودي" إن كل هذه المتغيرات تمثل ضغوطاً غير مسبوقة على حياة العاملين، وهو ما يتطلب تعبئة نفسية عالية وتهيؤاً مستمراً، ويفرض حالات متفاوتة من الإجهاد والإستنزاف النفسي، ويتطلب بالتالي درجة عالية من المناعة النفسية والمرونة والقدرة على التكيف وإيجاد الحلول للمشكلات المتجددة، والتعامل مع المواقف الطارئة.
إذن العولمة عَقّدت الأمور أكثر فأكثر ولم تتضمن في خطابها برامج تنمية نفسية والعمل على إظهار الفرد القوي الصحي والسليم الذي نادى به أبراهام مازلو وآخرون وإعتبروه النقطة الحاسمة بين الجديد والحديث في صناعة الإنسان المبدع إن صح التعبير. ولم يقدم برامج معالجة الأمراض المعدية وتحديد النسل والتعليم على المستوى العالمي بحيث يشمل الدول الفقيرة، والعمل على معالجة مشكلة البيئة والتصحر والحروب بين الدول والمذاهب والحروب الداخلية، ودعم التحولات الديمقراطية الحقة في العالم وإرتفاع مستويات الدخل و.......الخ. فوق كل هذا لم تكن تتضمن الخطاب العولمي بناء إنسان جديد أكثر إستقراراً وشعوراً بالأمان النفسي وأكثر سعادة نسبةً بالأزمان الغابرة وأكثر توقاً وشوقاً للمعرفة وأكثر صلابة من حيث الجانب السيكولوجي بحيث يتحمل الأزمات وتنمي لديه قدرة الوقوف بوجه التحديات لا الهروب منها. فهروب الفرد من المعرفة العميقة والخوف منها واللجوء الى الخبرات المُتَعية المُغَيّبة للتفكير، لا يُخَلِّصه من القلق الزائد والإضطرابات المصاحبة له، بقدر ما يبقى الفرد تحت رحمة الترجمة المزيفة للعولمة مغترباً وساذجاً وسطحياً.
هكذا بنينا قريتنا الصغيرة التي إدعتها (مارشال ماكلوهان) حين رأى أن وسائل الإعلام ستُحَوِّل هذا العالم المترامي الأطراف نتيجة تطورها السريع، الى مراكز إرسال وتلقي لا يفصل بينها سوى جزء من الثانية، ثم سيكون جميع سكان الأرض بدولها المختلفة أشبه بسكان قرية صغيرة.
تصغير العالم الى هذا الحد هو من نتاج تكبير قابلية العقل بإتجاه التفكير السلبي والإفادة من أقصى قوته وليس بإتجاه التنمية المجتمعية والتلاقح الثقافي الكوكبي، إذ إتجه صوب تسليط الهيمنة على الملذّات الآنية وتسحير الأفراد بها دون العمل على إستدامة اللذة نحو السعادة الدائمة العقلانية.
حول الإستراتيجية الأمريكية بشأن العولمة والسيطرة على الكوكب وتنبؤهم بالمستقبل في بداية التسعينات، يقول مصطفى حجازي في كتاب"العولمة وعلم النفس": يرفع في أميركا شعار العشرين المزدوجة(2020)، كنقطة وصول الى أهداف التربية وتوجهاتها، إستعداداً لملاقات القرن المقبل. ويبرر رفع هذا الشعار في القول بأن ما نريد أن نكون عليه في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يصنع الآن. والواقع أنه ليس التربية وحدها التي يجب أن تصنع الآن، بل التنشئة كعملية متكاملة لبناء الإنسان.
قال المتنبي:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السُّفن
التنبؤ لا يبنى على التأمل والتمنيات فقط، إنه حصيلة الخبرات السابقة التي مر بها الفرد في حياته اليقِظة، حيث كان إنتبه الى كل خبرة خَبِرَها وتمثلها في الذاكرة كمخزون ورأسمال معرفي وذلك بهدف التعامل معها دوماً لترسيم صور إدراكية جديدة في علاقات تصورية جديدة لمواضيع قد تظهر في الآن أو في المستقبل. ولكن قد تدخل عوامل دخيلة لم يحسب لها الكائن المدرِك حساباً لها فتنحرف النبوءة أو لا تتحقق حتى بنسبة ضئيلة. إن كان الفرد يسقط على النتائج هذه لتنبؤاته المتخيلة، فكيف تكون حال الحكومات ذات المؤسسات العريقة للمعرفة والتخطيط المستقبلي التي تسمى ب(Think tanks) أي مراكز البحوث. التآلف المعرفي لم يكن عملياً وتفاعلياً بين جميع العلوم والمجالات الحياتية في بلدان الأم للعولمة، بل أستغل العلوم كافة لأجل تكبير الصورة العسكرية والهيمنة الإقتصادية لهم وليس لأجل البناء الجديد للمؤسسة العقلية الما بعد حداثية التي يحتاجها الإنسان الجديد الخارج في توه من الحروب والدمار لحربين كارثيين صدميين والتي لم تزل إضطراباتها المتنوعة تفعل فعلتها في النفوس البشرية والعلاقات الدولية. إذا كانت التنشئة المجتمعية والتربوية هي الأهم في بناء عولمة العقل الإنساني لما كانت تحصل أخطر من الحروب بين الدول، كالتصحر والتلوث البيئي ومرض الإيبولا وسارس والآن(Covid 19).
القرية لم تعد تتحمل كل هذه الرؤوس المتحاربة مع بعضها. المعروف عن القرية أو المدينة الفاضلة التي دعى الفلاسفة والعلماء الصالحين أمثال أفلاطون وتوماس مور والفارابي وبورهوس فردريك سكنر في (Walden Two) ومارشال ماكلوهان الكندي الى إنشاءها، إن أهلها منسجمين ويرتبطون بعلاقات وشائجية وقرابة وإنتماء أصيل للمكان والطبيعة، يرون ويشعرون ويحسون ويدركون معاً، يعملون كخلايا النحل لإنتاج ما يريدون لإدامة الحياة وإستمراريتها. يرون الآفاق معاً ويبنون ويؤسسون البنية التحتية والفوقية معاً، لا يتركون الفوقيات والإكتفاء بالتحتيات ولا بالعكس. يسودها العدل والتكافؤء والحرية. إنهم متماسكون ولهم مصائر مشتركة مثلما قال ذات يوم غورباشوف في كتابه" بيروستروكا... إعادة البناء والفكر الإشتراكي": بأننا راكبون على ظهر سفينة إن غرقت فسنغرق جميعاً.
_________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية