الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كميل أبو حنيش والرثاء --نيسانُ عادَ و لم تعودي--

رائد الحواري

2020 / 4 / 3
أوراق كتبت في وعن السجن


كميل أبو حنيش والرثاء
""نيسانُ عادَ و لم تعودي""
عندما نرثى الأحباء نتحدث عن أثرهم علينا، فنحن نُحدث الأخرين عنهم من خلالنا نحن، بمعنى أننا نحن من
(نخرجهم) فيحملون شيء/جزء منا، وهذه العملية فيها شيء من ألم وفرح الولادة، لهذا، الحديث عنهم يتناول الألم، ألمهم وألمنا، وفرحهم وفرحنا، وبما أن "كميل أبو حنيش" أسير عند الاحتلال، فأن له طريقته في الحديث عن جدته "عريفة" واللافت في هذه القصيدة أنها طويلة، وهذا الأمر يشير إلى العلاقة الحميمة التي تجمعه بها، لهذا أسهب في الحديث عنها، ولأنه يكن لها محبة استثنائية، نجده يأخذنا إلى ألمه هو، فبدى الحديث عن الجدة "عريفة" وكأنه عملية خلق جديد، تبدأ من الحمل حتى نضوج الجنين والولادة، ويستمر في حديثه بعد الولادة، ليتناول فرحه بالطفل/بالجدة وما تركته فيه.
يستوقفنا العنوان "نيسانُ عادَ و لم تعودي" الذي يأخذنا إلى حزن الفينيقي على غياب البعل، وهذا له أثر في القصيدة، من خلال استمرار الجذب وتأخير الفرح، فنيسان ليس مجرد وقت/شهر، بل هو شهر ورمز الخصب وأعياد الربيع، والوقت/نيسان يأتي بالخير/بالفرح غائب، كما أن العنوان بشكله المجرد "عاد ولم تعودي" يحمل البعد الأسطوري للفكرة الفينيقية، واستمرارية الصراع بين البعل والموت، ظهور البعل وغياب الموت، وثم ظهور الموت وغياب البعل.
إذن هناك صراع، حركة متناقضة، متعاكسة، وهذا الأمر سنجده في الفكرة التي يقدمها الشاعر وفي الألفاظ المجردة:
" قبلَ عامٍ كانَ قدْ أرخى الظلامُ سدولَهُ
في مقلَتَيّ و نحنُ في عزِ النهارِ
تأتي إليكِ بشارةُ الموتِ المهيبةِ
في انسيابتها الجليلةِ
لا سبيلَ لديكِ
إلا الإنزواءُ و لو قليلاً
كي تخفِّفَ وقعها "
التناقض بين "الظلام وعز النهار، بشارة والموت" وهذا يشير بطريقة ما إلى حضور اسطورة "البعل والموت"، وتأكيد على هذ البعد حديث الشاعر عن الموت بطريقة (عادية)، فهو حالة طبيعية، ونظر إليه الفينيقي على أنه جزء من الطبيعة/الحياة، وبهذا يكون الشاعر قدمنا من جديد إلى ما حمله أجدادنا الفينيقيون من أفكار عن قدوم الموت، والذي كانوا يعدون له طقوس الندب والحزن، لهذا نجد "بشارة الموت، المهيبة، انسيابتها الجليلة، تخفف وقعها" فهذا التقديم (الهادئ) للموت استخدمه الفينيقي قبل أكثر من ثلاثة ألف عام.
"فالموتُ موتٌ هو اسمهُ
منذُ البدايةِ و النهايةِ
لا يطرِقُ الأبوابَ يأتي هكذا
من دونِ إذنٍ أو حياءٍ أو رجاء
تصغي لصوتِ هسيسهِ
و يعضُّ قلبكِ يضرمُ النيرانَ
في أحشاءِ صدركِ ثم يمضي
تاركاً من خلفهِ هذا الرماد"
يُفصل الشاعر الموت جامعا ما بين الفكرة الأسطورية والفكرة الحديثة، "البداية/النهاية، لا يطرق الأبواب/يأتي، تصغي لصوت/يعض قلبك، يمضي/الرماد" ولكن الشاعر لا يتعامل مع الموت بطريقة (عادية)، على أنه شيء مسلم به، وهذا ما نجده في الحروف التي استخدمنها بعد "فالموت"، فهو يكثر من الحروف واسماء الاشارة: "هو، منذ، لا، هكذا، من، إذن، أو" وكأنه بهذه الحروف يشير إلى امتعاضه من الموت، لها يختصر الحديث، مبدي انزعاجه من الموت وما يتركه من حسرة/رماد، ولفظ "رماد" يأخذنا على طائر الفنيق الذي ينهض من الرماد مجددا دورة الحياة، لكن وقت الموت/الغياب يبقى قاس ومؤلم.
"لا شيء بينَ يديكِ يُنبِتُ
بعض أزهارٍ لتنمو
غير أشعارٍ تطيرُ
كغيمةٍ محمولةٍ فوق الرياحِ
هل يقرأونُ الشعرَ للموتى
أم الموتى قوافي في القصائدِ
و كيفَ يبدو الموتُ في تلكَ النواحي
و هل استرحتِ الآن من بعد العناءِ
و لِما سئمتِ الانتظارَ
وأنتِ قارئةُ الفصولِ
وأنتِ قارئةُ النجومِ
وأنتِ قارئةُ الجهاتِ"
يندب الشاعر جدته "عريفة" كما ندب الفينيقي الربة "عشتار"، عندما ذهب لتزور أختها "ايرشكيجال" في العالم السفلي، فهناك لا يوجد ضوء، ولا ماء، ولا طعام، ولا لباس، ولا تيجان، لكنه لا يقدم أثر غياب عشتار على الناس والطبيعة، بل يدخلنا إلى أسئلته هو عن حالها في الموت/العالم السفلي: "هل، أم، وهل، ولما، وأنت (المكررة)، فهو يستنكر غيابها، من خلال "هل استرحت الآن" ويعاتبها على الغياب، لهذا جاء ذكر فضائلها "قارئة".
نتوقف قليلا عند الفضائل التي ذكرها الشاعر: فمنها ما هو متعلق الوقت: "الانتظار، الفصول" ومنها ما هو متعلق المكان: "النجوم، الجهات" وهذا الأمر متعلق أيضا بمشاعره تجاهها وتجاه نفسه، فالوقت والمكان يشكلان حالة ضغط على الشاعر كما شكلا حالة ضغط على الجدة بعد غيابها، فهو يتحدث عنها وعن نفسه في ذات الوقت، "لا شيء بين يديك ينبت، غير اشعار تطير" فالأشعار أداة الشاعر التي يخفف بها ألمه، لكنه نسبها للجدة، وهذا ما يجعلنا نقول أن الرثاء يتماثل مع حالة الولاد، فالمولود/الرثاء يحمل شيئا من الألم.
إذن نحن أمام مجموعة متداخلات، الأسطورة "عشتار في العالم السفلي وغياب الجدة، مشاعر الشاعر تجاه الجدة وحديثه عنها في عالم الغياب، ربط وإدخال مشاعره وأدواته "الشعر" ونسبها للجدة/عشتار، أسئلة وجودية/غيبية محيرة: هل يقرأون الشعر"، وأيضا يقين بالمعرفة "وأنت قارئة"، مثل هذه الفاتحة ستأخذنا وتقدمنا إلى عالم تتسع فيه العديد من الفضاءات، رغم أن الحديث يدور عن (رثاء/موت/غياب) وهنا تمكن عبقرية الشاعر "كميل أبو حنيش".
"***
الوقتُ فجرٌ فانهضي
القمحُ ينتظرُ الحصادَ
و موسمُ الزيتونِ يسألُ :
من يجيءُ إلى القطافِ؟
و الوقتُ يسألُ :
من يزاولُ مهنةَ الخَبزِ العتيقةِ
من سينثرُ للحمامِ القمحَ ؟
و من يصلي للغمامِ ؟
ألم تقولي أن هذا العمرَ أخضرٌ
فلِما مضيتِ إذا
و لم تكملي بعدُ
قصةَ خرافةِ الدنيا
التي تقضي شريعتها علينا بالشقاءِ
لنرتوي بخِتامها بالموتِ
لم تكملي فصلَ الخرافةِ
في نهايتها السعيدةِ "
يأخذنا الشاعر إلى غياب عشتار وغياب البعل: والجذب لذي يعم الأرض، جاء في ملحمة عشتار ومأساة تموز:
"ومذ هبطت عشتار إلى العالم أرض اللا عودة
الثور لا ينط على البقرة
والحمار لا يلقح الاتان
وفي الشارع الرجل لا يلقح الصبية
الرجل ينام وحده في غرفته
والصبية تستلقي على جنبها" ص178، اساطير آرام وديع بشور، فكرة الغياب وأثره على الأحياء حاضرة في القصيدة وفي الملحمة، فهناك تركيز على الطبيعة وحياة الناس، فكان "الفجر، والقمح، والزيتون، الخبز، الحمام، يصلي، الغمام" والأسئلة التي يطرحها الشاعر أراد بها استنهاض الجدة الغائبة، فهناك مجموعة أعمال تنظرها، وعدما كرر ذكر الوقت: "الفجر" أراد به حثها على (القيام والعمل)، ونتساءل هنا، هل لجأ الشاعر إلى الأسطورة؟، أم أنها جاءت هكذا دون قصد؟، رغم أن القصيدة تتحدث عن حدث واقعي( وفاة الجدة عريفة)، وهذا الحدث هو حدث له أثره الواقعي على الشاعر، إلا أن العقل الباطن للشاعر هو الذي سير القصيدة، ودليلنا على هذا الأمر:
"***
و الشوقُ يقتلني إليكِ فعانقي حلمي
لأحلم أنني أملٌ جميلٌ بالرجوعِ
و عاتبيني مثلما دأبَتْ عليهِ
وداعةُ الجداتِ للأحفادِ :
و لِما التأخُّرُ يا فتى و متى تعودُ
أكُلَّ هذا الوقتِ تمضي غائباً
لِما لم تَعُدْ من بعدِ أن أرخى الظلامُ خيوطهُ
قد حانَ وقتُ النومِ يا ولدي الحبيبَ
و لا تغِبْ عنا طويلاً
عُدْ إلينا قبلَ أن تتكاثرَ الغيلانُ في الطرقاتِ
واصلي هذا العتابَ و قر عيني
و املئيني بالحنينِ وخبّئي قمراً
فيَنبُتُ من ترابكِ
خبّئي هذا الحنينَ
لأشتهي يوماً إيابي للترابِ
و أقولُ يا حبي المضرَّجَ بالوفاءِ
سنلتقي يوماً كذراتٍ تعانقُ بعضها بعضاً على هذهِ الفلاةِ"
فلجوء الشاعر إلى الحلم: "عانقي حلمي" وليس على الواقع/الحقيقة، "عانقيني" يؤكد على أنه يميل إلى الخيال، ورغم أنه يعبر عن حنينه الجارف "الشوق يقلتني" إلا أنه لم يستخدم "عانقني"، وهذا ما يجعل (حلمي) يأخذ أهمية أكثر من جسد الشاعر نفسه، والهدف/الغاية من هذا العناق للحلم، يأخذنا أيضا إلى حلم: "لأحلم"، هذا التداخل والتشابك في مفهوم ومعنى الحلم يأخذنا إلى ما هو أبعد من مفكرتنا عن الحلم المجرد.
ثم تتدفق مشاعر الشاعر وحاجاته العاطفية/الإنسانية: عاتبيني" ويستحضر أقولها: "لما التأخير، أكل هذا، لما لم تعد، عد إلينا، حان النوم، ولا تغب، عد إلينا" اللافت في هذا الكلمات/الذكريات أنها تنطبق على واقع الشاعر الآن، كما انطبق عليه قبل الأسر، وكأنها أراد من خلال استحضار ندائها أن يبث/يوجد فيه الأمل بالخلاص/التحرر من الأسر، وتأكيد على أن "البعد" هو العنصر الأكثر ألما على الشاعر، نجده يستخدم مجموعة ألفاظ متعلقة بالبعد: "الشوق، الرجوع، التأخير، تعود، الوقت، تعد، الظلام، وقت النوم، تغب، عد" نجد حضور الوقت/الزمن، وأيضا المشاعر/العاطفة والحنين، من هنا نقول أن الشاعر ـ في العقل الباطن ـ استخدم هذا التداخل بين الواقع وبين الذكرى فأخرج لنا (كائن جديد) جميل، ما مكان ليكون بهذا الجمال دون استحضار ما يحمله العقل الباطن.
بعد أن تنتهي الجدة عتابها، يدعوها الشاعر لتستمر، واللافت في هذه الدعوة أنها جاءت بحميمية ولهفة: " واملئيني، لأشتهي، سنلتقي" وكأنها هي من تمده بالحياة و أسباب البقاء/الاستمرار صابرا في الأسر، والهدف من هذا الاستمرار له علاقة بالأمل/بالحرية، والتي نجدها في حروف الوصل "الواو والفاء واللام/ السين" "واملئيني، وأقول، فينبت، لاشتهي، سنلتقي".
القصيدة منشورة على صفحة شقيق الأسير كمال أبو حنيش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية: العالم على حافة الهاوية


.. برنامج الأغذية العالمي يحذر: غزة ستتجاوز عتبات المجاعة الثلا




.. القسام تنشر فيديو أسير إسرائيلي يندد بتعامل نتنياهو مع ملف ا


.. احتجاجات واعتقالات في جامعات أمريكية على خلفية احتجاجات طلاب




.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - ألمانيا تعلن استئناف التعاون مع