الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نورس يبحث عن الأحباب-قصة قصيرة

نزهة أبو غوش
روائيّ وكاتبة، وناقدة

2020 / 4 / 5
الادب والفن


نزهة أبو غوش:
في طريقها إِلى المطار مرّ شريط ذكرياتها سريعا أمام عينيها، كانت حينها تنتظره في تلك الحديقة الباهتة ذات الأشجار المتفرّقة والمقاعد الخشبيّة الكالحة.
كانت خطواته المتأرجحة تشي بشيء ما. لم تفلح ابتسامته في اخفاء ارتباكه. بدا في عينيه انّه يريد ان يخبرها شيئا؛ لقد اعتادت على ابتسامته الرّائقة المراوغة لعينيها، كلماته رغم تعثّرها، كانت مملوءة بالدفء والشوق.
" لمى، يجب أن أسافر غدا لإكمال تعليمي، انتظريني، لم يتبقّ إِلا سنة ونصف السّنة، حتّى أعود حاملا شهادتي" كتمت آهة، ثمّ استلّت شهيقا، وأغمضت عينيها الّلتين كانتا تغازلان عينيه؛ فسقط هدير صوته إِلى أعماقها مثل كرة حديديّة وقعت في قعر البئر. لأوّل مرة يصرّح لها بأنّه يحبّها كما أحبّته، حتّى دون أن يلفظها صريحة؛ لأنّه قال لها: انتظريني.
" يا الله... كم أنا سعيدة هذا اليوم؛ لأنّني سألقاه!. سنة ونصف. هههههه كم رأيتها بعيدة حينها! صدقت جدّتي، دائما تقول:
" الأيّام بتجري جري".
"هل نحن من نتحكّم بالزّمن، أم هو الّذي يتحكّم بنا؟ لا وقت لديّ لأُفكّر وأحلّل الآن، عندما نلتقي سنحلّل ونناقش، ونضحك، و... لا أعرف ماذا أفعل بعد غياب عنان كلّ هذا الوقت؟ كيف يبدو بعد طول غيابه؟ هل تغيّرت لهجته. هل ازدادت سمرته؟ لا أعتقد، أريده كما هو بعينيه السّوداوين وحاجبيه العريضين وقامته المتوسّطة، وفكره العميق، وبعد نظره. ماذا يلبس يا ترى، قميصا مقلّما أم سادة، أم مربّعا؟ لا أعتقد بأن يكون مربّعا؛ لأنّ أفكاره ومعتقداته ونظرته للحياة ليست مربّعة أبدا، بل هي مفتوحة وواضحة أمام الفضاء وأمام الشّمس والحياة.
أشعر بأنّ الزّمن يطرّز أحلامي الجميلة على مهل. أخاف أن تتخدّر شفتاي بهمهمة مبهمة من شدّة شوقي ورغبتي بلقائه، ما أصعب الاشتياق الّذي يسبّب لنا اللوعة! ماذا سأفعل أمام صهوة رغبته وشوقه الجارف؟ سأفرّغ كلّ ما يعتمر قلبي، ولم أبح به حتّى الآن...لا ...لا ضرورة للكلمات لن أقول شيئا. فقط أرغب باحتضانه، وبثّ أشواقي المدفونة بين أحضانه!"
عندما بدأت النّوارس ترفرف مسرعة خلف الشّمس الهاربة نحو الغرب، وصلت المطار. بدأ قلبها ينبض بفوضى عارمة. اختلطت به مشاعر غريبة لا تشبه شيئا. رعشة اللقاء دعت رجليها ترتعشان.
" لا أعرف لماذا ؟ هل هو الخوف؟ هل هو الارتباك...الانفعال...؟ لا أعرف. هل هو الخجل يا ترى؟ نعم. مؤكّد بانّه الخجل، ماذا لو فعلها عنان واحتضنني بلهفة اللقاء بقوّة وقبّلني، وتعانقت أنفاسنا وأرواحنا ؟ ربّما سيغمى عليّ من شدّة الخجل، يا إلهي ارحم قلبي، وهدئ حرارة شوقي "
عادت تقطف شيئا من حديقة ذكرياتها حين كانا يسيران نحو الشّاطئ،
وتعلّقت عيناه نحو النّوارس الّتي تسير ببطء فوق الرّمال المبلولة على غير هدى. حينها سألها:
" ترى، هل تعشق النّوارس مثلنا؟ وهل ينبض قلبها بالخوف من فراق أحبّتها؟ هل تبيت ليلها تتقلّب وترجو لقاء حبيبها؟ "
ما زالت تذكر ضحكته الرنّانة الّتي استفزّت الأمواج لتفرز زبدها نحو الشّاطئ. قال لها بنبرة لا تخلو من الخجل:
"كم أنت جميلة حين تلمع عيناك، ويتورّد خدّاك من شدّة الخجل!"
عند اقترابها نحو البوّابة رقم ثلاثة، رأت شيئا غير مألوف، سيّارات اسعاف لم تعرف عددها، وسيّارات شرطة مجنونة تزعق أبواقها، وتفرش أضواءها الزّرقاء لتغطّي كلّ المساحة. نساء ورجالا يهتفون... لا.. لا نريد الحجر..لا نريد أن تحجروا أبناءنا، أعيدوهم...إِنّهم غير مرضى.
امتلأت قاعة المطار برجال يلبسون مثل رجال الفضاء، يغطّون أجسامهم، ويجرّون عربات فيها أشخاص غير واضحي الملامح داخل صناديق بلاستيكيّة، وربّما زجاجية؛ مسرعين نحو سيّارات الإسعاف.
توقّف رجل مسنّ في حوالي الثّمانين من عمره موجّها صوته المفعم بالتوسّل الّذي لا يخلو من رغرغة دمع مكتوم:
" ولدي لم ألتق به منذ سبع سنوات، سافر ليتعلّم الطّب. أخبروني ماذا حدث له، قولوا لي الحقيقة، أنا لست خائفا؛ لأنّني مؤمن بقضاء الله"
أمسكت به الشرطيّة وابتسمت له بتودّد:
" لا تقلق سيّدي، إِنّه فقط إِجراء روتيني نجريه للعائدين من السّفر"
ازدادت الفوضى، وعلت الأصوات، علا صوت مكبّر الصّوت:
" ابتعدوا عن بعضكم مساحة مترين على الأقلّ.اذهبوا الى بيوتكم والتزموا بها"
راحت تتمسّك بباقة الورد الّتي ستقدّمها لعادل.
استحوذها قلقها الشّرس أن تخترق كلّ شيء، حتّى وصلت مركز الإستعلامات، وقد سبق لهاثها تلعثمها، صعب عليها أن تبتلع ريقها الجافّ فهمت الموظّفة خلف الزّجاج من كلماتها المتقطّعة" عنان ...طائرة رقم 2020 .
" سيّدتي المرض الّذي يحمله العائدون من الخارج، خطير جدّا ومسبّب للعدوى، إِنّه فايروس يسمّى الكورونا؛ لقد حوّلوا كلّ ركّاب الطّائرة إِلى الحجر الصّحيّ، إِلى مكان يبعد عن المطار مئة كيلو متر، خوفا منهم، وخوفا عليهم."
" ماذا؟ أقول لها عنان، وتقول لي خوفا منهم"
أرادت أن تهتف، أو تصرخ، أو تستنجد، لكن يبدو أنّ الصّدمة قد ابتلعت صوتها، فتبدّدت أمامها أُلفة كلّ الأماكن، وشعرت بأنّ سحبا سوداء قد غطّت عينيها وقلبها معا.
سمعتهم يتحاورون، ويتهامسون:
" هذا مركّب بيولوجي من صنعه الإنسان"
" صنع الإنسان؟ يا إلهي...هل ذبلت زهرات الإيمان في حديقة قلوبنا؟ هل امتلأ هذا الكون بالجور والظلم؟ هل فقدنا إنسانيّتنا؟ هل سيتحكّم بنا الزّمن ويهلكنا، أم إِنّنا المهلكون ؟ هل سيقتلون الحبّ في هذا الكون؟ صحيح...هل سيبحث النّورس عن الحبيب، أم سيلحق به حتّى ولو كان في طريقه نحو الموت؟"
خرجت تركض لاهثة عبر الشّارع؛ كي تصل على بعد ألف ميل وأكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة