الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغِرُّ

ضيا اسكندر

2020 / 4 / 5
كتابات ساخرة


بينما كنت في الطريق متوجّهاً إلى جلسةٍ حواريّة اتفقتُ عليها مع بعض الأصدقاء للنّقاش حول الأزمة السورية، وإذ برجلٍ كهلٍ نحيف، عظام وجهه بارزة. ذو شعرٍ رماديٍّ منتفش. رثُّ الثياب يستوقفني سائلاً:
- عفواً أستاذ، لو سمحت، هل يبعد كثيراً مشفى الباسل للأمراض القلبية عن هذا المكان؟
ولمّا كنت قريباً من مشفى تشرين، توقّعتُ أنه ربما أخطأ باسم المشفى فأجبته مستوضحاً:
- يا عمّ، هل تسأل عن مشفى تشرين أم مشفى الباسل؟
ثبّتَ نظره بي وكرّر قائلاً بأنه يقصد مشفى الباسل.
قلتُ له وأنا أتمعّن بتقاسيمه، حيث حفر الزمن أخاديد على وجهه، وأكل عدداً من أسنانه، وغارت عيناه في محجريهما:
- ولكن مشفى الباسل يبعد كثيراً عن هنا؟
أجاب وهو يحكُّ شعر لحيته الشعثاء:
- وهل يبعد مشياً أكثر من ساعة؟ إنَّ من يسير من مفرق قريته "المزيرعة" إلى هنا، لا يصعب عليه السير إلى مشفى الباسل.
وكأنني لم أفهم جيداً ما قاله. حاولتُ أن أتخيّل تجشّمه عناء الانتقال من قريته إلى اللاذقية سيراً على الأقدام، لكنني لم أستطع! سألته وقد بلغ بي الاستغراب حدّ الالتباس:
- هل مشيتَ من مفرق المزيرعة إلى هنا؟! إن المسافة تزيد عن (10) كم يا عمّ!
باعَدَ بين ذراعيه علامةً على العجز. ثم أخرج منديلاً أبيض من جيب سترته ومسح به عينيه وأنفه. وزَفَرَ زفرةً محرقة وأجاب بصوتٍ حارﱟ كالرجاء:
- وماذا أفعل يا أخي! الله وكيلك لا أملك ليرةً واحدة. اتصلوا معي من المشفى وأخبروني بأن ابني الذي خضع لعملية قلب مفتوح منذ أيام قد فارقَ الحياة – الله يرحمه ويرحم أمواتك – وطلبوا منّي القدوم إليهم لاستلام جثمانه.
صفعَتْ كلماتُه أذني على نحوٍ أليمٍ، وسَرَتْ في جلدي رعشةُ جَزَع. وتبخَّرَ الكلام على لساني. توقّفتُ لحظات متردّداً تتنازعني أحاسيس متناقضة؛ ناوشتني في غضونها سهام الارتياب، ومشاعر التضامن الإنساني مع هذا الرجل البائس. وأجريتُ محاكمة عقلية هادئة. وسرعان ما تغلّبَ العقل على العاطفة بعد أن استشعرتُ دَجَله وتساءلْتُ في سرّي: «صحيح أن الكثير من القِيَم الأخلاقية قد تشوّهت بفعل الكارثة الإنسانية الفظيعة التي عصفت في البلاد. إلا أنه في حالات الموت، وخاصةً في الأرياف، فإن مشاعر التضامن والتعاضد بين أبناء القرية ما زالت على حالها. ولا يمكن أن يتركوا رجلاً مفجوعاً بفلذة كبده، يتجشّم عناء التنقّل ما بين الريف والمدينة سيراً على الأقدام لإحضار جثمان ولده».
نظرتُ إليه بازدراء وأوليتُه ظهري منصرفاً بخطى ساخطة، دون أن أُعَقِّبَ بكلمةٍ واحدة. ولم تخامرْني أيّة مشاعر تبكيت الضمير.
لدى وصولي إلى وجهتي، حكيتُ لرفاقي ما جرى معي. وختمتُ حديثي بالقول: «آمل ألاّ أكون قد ظلمتُ هذا الرجل بظنوني!». ابتسم أحدهم واستوضح عن صفات ذلك الرجل. وبعد أن استمع إليّ، طَفِقَ يقهقه ويتلوّى ضاحكاً. ولمّا استطاع الكلام، انبرى سارداً قصة مماثلة حصلت معه منذ أيام في ذات المكان، ومع ذات الرجل الذي يتاجر بمشاعر الناس، ويبتزُّ عواطفهم النبيلة مستخدماً ذات السيناريو في الشّحاذة.. وختم قائلاً: «إن أمثاله كُثُر يا صديقي، وربما أحوالهم أدهى وأمرّ».
شعرتُ بجسمي ينقبض، وغرقتُ في الحزن وأنا أفكّر بهذا الرجل الذي اضطرَّ إلى التخلّي عن رجولته وكرامته، ولجأ إلى هذه الوسيلة لتدبير قوت يومه. قلتُ لرفاقي: «نعم، هذه إحدى الفجائع التي أفرزتها الحرب. ويمكننا البدء بمناقشة الأزمة السورية من هذه الواقعة أيها الأصدقاء!».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لقد إغتال الأسدين
ماجدة منصور ( 2020 / 4 / 5 - 03:40 )
كرامة السوريون0
حاكم بلا أخلاق...سينتج شعوبا بلا أخلاق0
و رحمت عشتار من قال-- ان الشعوب على دين حكامها0
لقد أفقدتنا الحرب السورية و بقيادة الأسدين ...الحس الخلقي و الإنساني أيها المحترم0
و لي في هذا الشأن مقالات كثيرة سوف أنشرها تباعا9
احترامي

اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه