الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت والأمل

سامي عبد العال

2020 / 4 / 5
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


" تعددت الأسبابُ والموتُ واحدٌ"... مقولةٌ شائعةٌ لكنها الآن ليست صحيحة بشقها الأول، لقد تعطلت عن العمل كماكينةٍ صدئة ضاعت معالمها. فقد جاء فيروس كورونا سبباً وحيداً بينما تعدد شكلُ الضحايا وإنْ كان مصيرُهم موتاً في الأخير. كانت الإصابات والأعراض واحدةً مع تباين حيوات البشر، لأنَّ المرض مستجدٌ دافعاً إلى نهايةٍ معروفةٍ وآخذاً في الفتك بمن يقابله. ربما من المرات النادرة أنْ يأتي سبب الموت مشتركاً بين أُناس كثيرين (آلاف البشر) باختلاف قارات العالم. هذا الحال عندما كان يحدث في المجتمعات القديمة، فالأغلب أنَّ وراءه كارثة تحصد الأرواح معاً.

يستهدف كورونا اسقاط الحياة، ينعق كالعدم بأي مكان يحل فيه. بينما نحن البشر مسكونون بالحفاظ على الذات، الخوف من المجهول، الحذر من المصير، تجنب المرض ومقارعة الفناء. نحن نزرع وجودنا الحميم أينما نذهب، نتنفس الآخرين حباً وكراهية أيضاً. وحقيقي بيننا وبين الموت صراعات طويلة دون كللٍّ ولا ملل، لكن لم تنته أغلبُها لصالح الإنسان وإلاَّ ماذا عن تفسير نهاية كلِّ من سبقُونا. ومع ذلك هي (وبكل تأكيدٍ) صراعات تُخرج أبرز ما لدينا من إبداعٍ وتنوع.

الحضارة ذاتها وليدة الموت، قفزة إلى الأمام، إفراز متحضر وإنساني مقاومةً للفناء، إنَّ تاريخ الإنسان تأجيل متواتر لما يقربه من النهاية. الحياة مجموعات لا متناهية من المقاومة تجاه أزمنة الوهن والسقوط. وبالتالي لن يجد كورونا بصدد الإنسان خصماً سهلاً يجرِّعه الموت العلقم كما قد يُظن. النهاية ليست سهلة المنال لكائن أبدع الحياة ذاتها. فإذا كان وجودنا هبةً، فلن تكون النهاية غير هبة بالمثل. يستحيل أنْ تكون كما يريدها المجهول مقايضةً مع موت فيروسي ولو كان شرساً.

الفيروس يشدُ الإنسانَ إلى الماضي( حين لم يكن شيئاً مذكوراً)، الماضي الآتي بصيغ الموت( الوهن، المرض، الوباء، العجز، الضعف، التلاشي )، بينما تشده إنسانيتنا إلى المستقبل، قُطعت كلُّ الأحبال التي يمسكها الطرفين دون مهرب. لسبب بسيط أنَّ الأحبال هي الحياة التي نتمسك بها حتى أخر رمق، تلك المساحة التي تضعنا نحن والفيروسات وجهاً لوجه منذ آلاف السنين. ومكر كورونا أنه ينازعنا أخص من نملك، أخص ما يجمعنا ويفرقنا، أخص ما يضعفنا ويقوينا، أخص ما يوحدنا ويمزقنا. أي مساحة المرض( الموت داخلنا) التي هي البداية والنهاية بالوقت ذاته. كورونا يدرك ذلك جيداً كما أنَّ السياسة والاقتصاد والشرور تعمل بهذه المنطقة الحرجة من كياننا المترامي. إنها نقطة اتصال العدم بالوجود، الفناء بالبقاء، المستحيل بالممكن.

غدا كورونا خطاً لهذه الموت الذي لن ينال من الإنسان بسهولةٍ، رغم أنه قد يسقطه أرضاً أحياناً. المقاومة( بأشكالها) هي الأمل المتبقي لما يقوي جبهة إنسانيتنا. فرغم تقطُّع أوصال الحياة، إلاَّ أننا كأُناس نقطن أرضاً واحدة ونلتحف السماء ذاتها. وبالتالي أصبحنا رغم البعد أكثر قرباً.

المفارقة أنَّه رغم دعوات العزل بين الجماعات والأنشطة، إلاَّ أننا ملأنا الحياة بمشاعر التقارب الروحي والحميم. هرولت الشعوب لإخراج أفضل ما تملك. الإنسان يكشف عن أبعاده الثرية والمدهشة أوقات الأزمات. ليس من انسان إلاَّ وينتمي إلى آخر حتى وإن كان أقرب المقربين إليه.

تبدو أصوات الموت ناعقةً كالغربان على الطرقات وردهات المدن، لكن المنازل تشتعل بالآمال والحيوية وتتدثر بأغطية الحب والتعاطف. الغناء، الموسيقى، الأشعار، الأفكار، الحوارات الحميمة، العلاقات الإنسانية، تبادل عبارات الود.... جميعها أدوات مقاومة نافذة التأثير، تقهر سخافة الفيروس، كأنَّ البشر يسخرون بطريقتهم النوعية، يتلاعبون بزمن الوباء. والفيروس بالحقيقة يستحق تلك السخرية، ليس انحرافاً عن العلاج ولا عن الإجراءات الوقائية، لكن الأمر إحياء للروح الإنساني، واشعال الأمل في كل مكان. فالإنسان القادر على الإبداع بأشكاله لن ينال من وجوده أي فيروس. ففي هذا الحال سيتحول الإنسان إلى مادة قابلة للخلود، أصبح قوة رمزية لا ينال منها، أصبح ذاكرة حية للمستقبل.

جرى لاحقاً ترديد عبارة " لم تعد الأرض كافية للجثث"... على خلفية أعداد ضحايا كورونا بإيطاليا واسبانيا تحديداً والتي بلغت الآلاف بين إصابات وأموات. والعبارة تبلغ قسوتها لدرجة استحضار مقولة المعري: " خفف الوطءَ ما أظنُ أديمَ الأرضِ إلاَّ من هذه الأجسادِ"... والمعنى لا يفوتنا حيت تلمح العبارة الأولى بصدد كورونا إلى حجم المأساة، وتشير إلى قدرة الفيروس على النيل من وجودنا. لكن مقولة المعري نوع من العزاء الهادئ الذي يقدر الإنسان روحاً وجسداً. وهي استهوال ما يصير إليه الإنسان وسط الكوارث التي مر بها التاريخ. ونظرة أبعد باعتبار الأرض جسداً لا ينبغي الوطء علية بعنف كالدواب، لأننا في النهاية نحن نطأ اجساداً هي جزء من تكويننا الحي.

كورونا يدشن الأرض فعلاً من الأجساد التي ألحق بها النهاية، ويكشف حجم العدم الذي يترصد الإنسان... فالأرض التي تتكدس بها الجثث (أرض أوروبا) هي أرض الأجساد المبتهجة. السعادة البيولوجية إجمالاً جزء من تكوين حياة الشعوب الراهنة. قد تترجم في ممارسة الرياضة وارتداء الأزياء وأساليب الأناقة والحياة المنطلقة ومظاهر الصحة. ولم يدرك أوروبي واحد أنَّ جسده سيزاحم جسداً آخر على نهايته الفاجعة. ففي اسبانيا تكدست الجثث داخل مواقف السيارات وعمت رائحة الموت جميع الأماكن، وتزاحمت مظاهر الإصابة من مدينة لأخرى متخطية حدود المئات يومياً.

الشيء نفسه بإيطالياً التي يمرح فيها الفيروس جيئة وذهاباً، وقد اخفقت منظومتها الصحية في استيعاب اعداد المرضى ناهيك عن عدم استيعاب المحارق للجثث. ولف الحزن الشوارع الإيطالية إلى من شرفات تشرخ الحداد الصامت بالغناء وأصوات الموسيقى. تخرج الموسيقى فرحة، راقصة كالآمال التي تتسلل وسط أطلال الواقع.

الأمل هو قدرتنا المناعية التي تخص الروح الإنساني. وأخطر شيء- رغم الموت- أنَّ تتساقط حبات الأمل من بين أيدينا، إنَّ دأب الأطباء والعلماء والباحثين عن علاج الفيروس هو الأمل يمشي على رجلين. هو بصيص الحياة الذي يحوطنا من أيِّ اتجاهٍ رغم خفوت المسير وضيق الطريق. الأمل يفسح هذه الأشياء دون نهاية وإن كانت قريبة، وليس البقاء بالمنزل إلا تعبيراً أخيراً عن أمل فيما هو قادم. لن يستطيع كرونا القضاء الإنسانية، التفاؤل دوماً يخرج من الأطلال ويندرج بين كياننا من فينة للأخرى. مظاهر التقدير والحداد المقاوم للإصابة والحزن البالغ لذروة حقيقتنا الإنسانية، تلك الحقيقة المؤكدة لقدرتنا على صناعة المستقبل.

ليس العلاج هو المنتظر فقط، لكن الشيء الأهم هو تغيير وجه الحياة إجمالاً نحو الأفضل وأنَّ ابداع آفاق جديدة للتواصل والتحرر من قذارة الاستعباد هو المأمول. العلاج جزء بسيط ستأتي به العقول يوماً ما، حتى إن توقفت عليه حياتنا خلال لحظات حاسمة من تاريخ الإنسانية كالعلاجات التي انهت الاوبئة الشهيرة. أما الحياة بمعناها الإنساني تحتاج -مع كورونا- إلى تجديد البديهيات والأولويات وتغيير الأسس واعادة بناء الإنسان، هي حياة يجب أنْ تكون آملة باستمرار في غد أجمل وأكثر انفتاحاً. وأن تكون السياسات الاقتصادية وانظمة الاستبداد والتخلف في طريقها للانزواء مع فيروس كورونا. يجب أن يدفن كل ذلك الركام جنباً إلى جنب في مقبرة واحدة.

لقد كشف كورونا خريطة العدم الحقيقية في حياتنا. إنها هذه الأنظمة السياسية والقوى الاقتصادية الاحتكارية والممارسات اللاإنسانية التي تناشد الفيروس تخليص الأرض من نصف سكان الأرض. الأمل ابداع فعلي لجميع مناحي الحياة التي سرقتها عولمة الموت في الحروب والصراعات والنعرات الطائفية والإقليمية. كرونا أخذ يتمدد على خطوط الرأسمالية الوقحة(وليست المتوحشة فقط) التي عممت الهوس الاستهلاكي وانتجت الفساد ولاهوت القتل والدمار. حتى أن كورونا بات مجرد سلعة مجانية لتخويف الشعوب وضمان التكالب على المستلزمات الطبية والوقائية، وضمان أنْ يكون العلاج( الدواء) عن طريقها أيضاً.

الأمل هو عودة الإنسان إلى الواجهة باختلاف حيواته، الإنسان هو الإنسان دون اقصاء أو تهميش بأي مكان من العالم. وصحيح الموت هو نهاية يستحيل التخلص منها، لكنها النهاية الكاشفة لقدراتنا على الصمود والتفرد. الأمل واقع- ويجب أن يكون كذلك- لأنه وعدُ تمارسه الإنسانية في المنعطفات الحرجة. وهذا الأمل ليس ضعيفاً ولا بعيداً، لكنه قوة قابلة للترجمة من حين لآخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحذير من الحرس الثوري الإيراني في حال هاجمت اسرائيل مراكزها


.. الاعتراف بفلسطين كدولة... ما المزايا، وهل سيرى النور؟




.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟


.. إيران:ما الذي ستغيره العقوبات الأمريكية والأوروبية الجديدة؟




.. طهران تواصل حملتها الدعائية والتحريضية ضد عمّان..هل بات الأر