الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طقوس الموت في زمن الكورونا

امال قرامي

2020 / 4 / 5
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


أصدرت النيابة العمومية ببنزرت بتاريخ 1-4-2020 أوّلا: بطاقة إيداع بالسجن في حق المرأة التي شتمت الأمنيين وحرّضت الناس على منع دفن المرأة المتوّفاة بفيروس الكورونا، وثانيا: بطاقات إيداع بالسجن في حقّ مجموعة من الرجال الّذين شاركوا في أحداث العنف ضد الوحدات الأمنية في الجنازة. ولكن ما الذّي دفع هذه المرأة، ومن آزرها إلى الوقوف بوجه قوّات الأمن في سياق يفترِض الخشوع والاحترام والانضباط ؟ هل يعود الأمر إلى حالة نفسيّة معبّرة عن القلق والذعر من الموت ؟أهو الخوف من العدوى؟ هل يبرّر هذا السلوك المنفلت بالجهل الّذي يجعل فئة من الناس تحتكم إلى ما ترسّخ في الذهن من تمثلات حول بعض الأمراض (البرص، ...)والأوبئة فتردّ الفعل باستعمال العنف دون الرجوع إلى آراء الأطباء المختصين؟
تقتضي الموضوعيّة الإقرار بأنّ المسؤولين عن إدارة الأزمة( من وزارت وقطاع إعلامي ومجتمع مدنيّ) خطّطوا واستعدّوا ونظروا في مختلف الاحتمالات ونقلوا المعلومات، وأرقام الأطباء النفسيين وغيرهم ...ولكن لم يفكّر أحد في تنظيم حملات التوعية الاستباقية التي تنبّه التونسيين، قبل موت أوّل ضحية بالفيروس، إلى الإجراءات الخاصّة بدفن الأموات في سياق الجائحة حتّى يتفهّموا الوضع، والحال أنّ ردود الفعل كانت متوقّعة منذ حادثة احتجاج سكّان حمّام الشطّ، وبعض المسؤولين على إيواء المرضى في أحد النزل.
لقد كان بإمكان خليّة الأزمة أن تقرأ هذه الإرهاصات الدالة على سلوك التونسيين تجاه المصابين: المرضى والأموات على حدّ سواء، وأن تضع الخطّة الملائمة لمواجهة ردود الفعل، ولكنّها لم تفعل. وهكذا تُرك الأمر لأحد الصحفيين ليغطّي خبر دفن أوّل امرأة ذات ليلية ظلماء، فكان بمثابة الصدمة للجمهور الذي شاهد الصور أو الفيديو. ولا يعدّ سلوك عدد من التونسيين شاذّا. ففي العراق تمسّكت أغلب العشائر بموقف رفض دفن موتى فيروس الكورونا في مناطقها، واضطرّت المستشفيات إلى الاحتفاظ بالجثث في الثلاجات في سياق ترتفع فيه أعداد الضحايا يوما بعد آخر. واجبرت الحكومة إلى الاستنجاد بالمرجعيّات الدينية لإقناع الناس بضرورة تفهّم الوضع والتعاون مع السلطة وبث الطمأنينة في نفوسهم إذ ثمّة إجراءات تعقيم للجثّة ولفّها في أكياس خاصّة وتابوت محدّد.
وهكذا لم يعد "إكرام الميّت دفنه ولم يعد دفن الموتى أمرا يسيرا بل صار موضوع قلق وخوف وغضب بالنسبة إلى الأقارب والأهالي بعد أن هيمنت العادات والتقاليد على القوانين والأوامر، وسيطرت المخاوف والتمثلات الراسخة في المتخيّل الديني على سلوك الناس.
كان من المفروض تحصين "جهاز المناعة النفسيّ والاجتماعيّ " للتونسيين ببثّ المعلومة العلميّة الدقيقة وتوعيتهم بأنّنا دخلنا مرحلة جديدة انقلبت فيها المعايير والتصوّرات والمنظومة القيمية رأسا على عقب فلا وقت لدينا لتوديع أحبّائنا وإقامة طقوس الموت (الغسل والكفن ...)وتنظيم المآتم والجنائز وفق ما ضبطته كتب الفقه من أوامر مندرجة وفق ثنائيات متقابلة: الحلال/الحرام، الرجل/المرأة/الخنثى، الطهر/النجاسة، وحسب نظام الفرز بين الجثث على قاعدة الإسلام/الكفر، الأبيض/الأسود...لا وقت للمفتي حتى يفصّل القول في رأي الدين ولا لأساتذة الشريعة حتى يصدروا البيانات الشرعيّة ... لا مجال للتنافس بين "العلماء وحرّاس الشريعة، لا وقت للعلاقات المبنية على القوّة والسلطة واحتكار الهيمنة على الناس، والتلاعب بوعي الجماهير الهشّة والباحثة عن الخلاص... لا وقت للتصنيف وإصدار الأحكام الفقهية كقول أحدهم إنّ أموات فيروس الكورونا هم شهداء الوباء" في جنّة الخلد يتنعمون...
إنّنا أمام عملّيات تخلّص سريع من جثث لازالت حاملة للفيروز، تتم في أوقات معلومة وتحت رعاية طبيّة ويظهر فيها الأعوان بملابس بيضاء تقيهم المخاطر...يُنزلون الجثّة بأدوات خاصّة تراعي مسافات الأمان. لم يعد الميّت في حوزة أهله يعدّونه للرحيل كما يحبّون: تلاوة للذكر الحكيم، ودعاء بالرحمة والمغفرة، وأكل وشرب، وتعازي، وبكاء وعويل، و...صار من حقّ المسؤولين عن الأمن الصحّي التصرّف في أمواتنا .
زمن الكورونا يقطع مع المألوف والمعمول به والشرعيّ ...إنّه زمن يبعثر أوراقنا يكسر الرتابة، يربك وجداننا ويعصف بثوابتنا ...هو زمن يحفّزنا على عقلنة السلوك ويدفعنا إلى التدبّر في علاقتنا بالحياة والموت والمرض والعزلة والدين والزمن والمكان والإنسان وسائر الكائنات والموجودات وفق أفق تفكير مغاير وفهم مختلف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. هل سيؤسس -الدعم السريع- دولة في د


.. صحف بريطانية: هل هذه آخر مأساة يتعرض لها المهاجرون غير الشرع




.. البنتاغون: لا تزال لدينا مخاوف بخصوص خطط إسرائيل لتنفيذ اجتي


.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال




.. صوت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مساعدات بقيمة 95 مليار دولار