الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشريعة الإسلامية بين التاريخ والحداثة

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 4 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حين يقارن الإسلاميون بين شريعتهم الدينية وبين نماذج وضعية أخرى فشلت برأيهم كالشيوعية والرأسمالية لا ينتبهون أنهم بذلك يقارنون بين (اجتهادات نسبية) وليس بين (مطلق ونسبي) ، والفارق أن هذه النماذج الوضعية ليست أديان ومعتقدات في ذاتها بل نماذج تطبيقية صلحت في دول وفسدت في أخرى، بينما هي برأيهم معتقدات تنافس دينهم في التوحيد، وإذا سألناهم ما هو رب الشيوعيين والرأسماليين..لن يجيبوا لأن ماركس وغيره لم يُتخَذوا آلهة غير قابلة للنقد، بل مفكرين لهم صواب وخطأ كأي إنسان لا تصلح أفكاره القاصرة تطبيقيا كما حدث في الصين منذ أن انقلب شيوعيين الصين عام 78 على النظام المركزي الاشتراكي نحو اقتصاد السوق.

أقول هذا لأن الإسلامي يعتمد في مضمون خطابه الدعوي على تلك المقارنة مدعوما بقصص أنتجها عقله الباطن والواعي معا جراء العُزلة المعرفية عن الحداثة، وبالتالي فالعُزلة عن الحداثة ومنتجاتها هو الذي أدى بالإسلاميين إلى هذا التفكير الخاطئ وتصوير حوادث البشر وتجاربهم كظواهر قاصرة بذاتها، بينما شريعتهم كاملة بشكل مطلق حسب معتقداتهم متجاوزة حيز الزمان والمكان.

الحقيقة أن ما اصطلح عليه بالشريعة الإسلامية هي "اجتهاد بشري" أخذ دوره في التطور المعرفي منذ أن صيغت كمصطلح فقهي، أي أنها عندما ظهرت أول مرة لم تكن بالشكل الذي نعرفه بل، فشريعة هذا الزمان تحوي معتقدات "كالولاء والبراء والفرقة الناجية والعقوبات كالجلد والرجم وغيره" بينما مفهوم الولاء والبراء تمت صياغته كجزء من الشريعة في زمن ابن تيمية ما بين القرنين 7 و 8 الهجري، أي بعد موت الرسول ب 700 سنة على الأقل، فما كانت الشريعة طوال 7 قرون كاملة قبل ابن تيمية دون ولاء وبراء؟

كذلك مفهوم الفرقة الناجية المبني على حديث الفرق 73 هو الآخر مفهوم متأخر ظهر كجزء من الشريعة في عصر "محمد بن عبدالوهاب" أي كل شيوخ ما قبل الوهابية – بمن فيهم ابن تيمية – لم يعرفوا الفرقة الناجية كشريعة بل كسياسة نتيجة لتفوق العباسيين والعثمانيين على العالم، فما الذي يدعو الأقوياء لتمييز أنفسهم عن الضعفاء؟..واختصار ذلك أنه وطوال عصور ما قبل الوهابية كان المسلمين في المقدمة وبالتالي أصبح تمييز أنفسهم بالنجاه عن غيرهم سيكولوجيا لا معنى له، وهذا سبب غياب مفهوم الفرقة الناجية عن فقه السلف المسلم، مما يعني أنه مصطلح (ثوري) من الأضعف للأقوى تمييزا وحشدا للعوام ولترسيخ عقيدة الحرب عن قناعة وهدف..مما يعني أنه كان مفهوما "حربيا ثوريا" معا.

كذلك فقه العقوبات كالجلد والرجم وقطع اليد والجزية..إلخ، لم يجادل أحد فيهم من العصر الأموي للعثماني..مما يعني أنه كان سلوكا اجتماعيا قبل أن يكون عقليا راسخا في ضمير هؤلاء ويسري في دمائهم قبل فكرهم، والدليل أن المعتزلة وهم كانوا أهل العقل في الإسلام لم يجادلوا أيضا في تلك العقوبات وروي في التراث كيف أن زعماء الاعتزال كالقاضي عبدالجبار كان يقول بقتل المرتد والجزية عادي، وبالتالي أصبح تضمين هذه العقوبات الآن من الشريعة مرتبط كرد فعل على إلغائها في القرن 19 من قِبَل السلطان العثماني بعد حرب القرم، وفي مقالات سابقة سقنا دوافع وأسباب السلطان العثماني في إلغائها والتي كانت مجرد مصالح له مع دول أوروبا لدعمه ضد القيصر الروسي

وهذا يسقنا لجانب آخر من النقاش وهو اعتبار أن الشريعة الإسلامية "بنت زمانها" أي كانت تنتمي لحضارات ودول مندثرة ، فيصبح استدعائها حاليا يوجِب استدعاء تلك الدول والحضارات مرة أخرى بكل معالمهم للمساعدة على الأقل في بقائها، فمشهد واحد من مشاهد ضغط زعماء أمريكا على الأمير السعودي "بن سلمان" لكي يلغي سطوة الشيوخ وجماعات الأمر بالمعروف وسلطة المحتسب يؤكد أن زمن الشريعة لا يصلح حاليا حتى لو توفرت له السبل المالية والمكانة الروحية لتطبيقه كما في السعودية، فهذه الدولة الملكية حازت على أفضل السبل والوسائل لتطبيق الشريعة الإسلامية داخليا دون ضغط محلي وخارجي ما دامت تلك الشريعة لا تؤذي الحلفاء على الأقل، لاسيما أن ضغط الأمريكان على الأمير لم يحدث سوى مع قدوم ترامب الراغب بشدة في إزاحة سلطة الشيوخ ورجال الدين الذين دعموا داعش والقاعدة روحيا وماليا من قبل.

إذن فمصطلح الشريعة الإسلامية ليس واحدا مطلقا بل متعدد نسبي، وهو اجتهاد بشري له سياقه الخاص بدول بائدة، ومعنى إحياؤه الآن ووضع شروط عامة لتطبيقه وعناصر رئيسة..إلخ يعني أن أصحابه سينشقوا في تأويل ما يفعلوه ويختلفوا حول ما إذا كانت تصرفاتهم موافقة للدين أم لا، وهذا ملحوظ حسيا في تاريخ الجماعات الإسلامية التي انشقت لمئات الفرق تكفر بعضها بعضا حول تأويل الآيات وفهم النصوص والدين بالمجمل، ومثلما رأينا عمليات إرهابية بحجج دينية رأينا تراجع عن تلك العمليات أيضا بحجج دينية، وبالتالي فالدين لديهم يقبل فعل الإرهاب والعودة عنه معا..مما يؤكد أن هؤلاء في السابق كانوا إما جهلة بمفهوم الشريعة أو منقادين دون وعيٍ منهم لأمراء حرب شحنوهم لميادين القتال.

شئ آخر يعيب تلك الشريعة وهي أنها مطلقة بنظرهم، أي لا يجوز تغييرها تحت أي ظرف..وهذا ضد حقيقة الصيرورة الكونية والتطور الذي يميز الكون والأشياء، وبما أن هؤلاء يجهلون أو يكفرون بالتطور والصيرورة أي لا يؤمنون بتحول وتغير الكون الدائم فتمسكوا بإطلاقية شريعتهم، ورأينا كيف أن المملكة السعودية تخلفت وخاضت صراعا مريرا بين السلطة السياسية ورجال الدين أكثر من مرة في مراحل حياتها، فالدولة الثالثة لم تقوم سوى بعد قضاء الملك عبدالعزيز على جماعة "إخوان من أطاع الله" والملك فيصل لم ينفتح سوى بتحديد سلطات رجال الدين في الفتوى وإبعادهم عن السياسة، والملك خالد لم يقضِ على جماعة جهيمان وفتنة الحرم المكي سوى بإرهاب كل شيخ يتحدث عن المهدي المنتظر، والملك فهد لم يحكم بعد حرب الكويت سوى بعد مواجهة مريرة ودموية مع رجال الدين الرافضين لقواعد الغرب العسكرية، وأخيرا يخوص بن سلمان هذه المواجهة بغرض الانفتاح كأسلافه

وفي كل مرة من مراحل صراع ملوك السعودية مع الشيوخ رأينا أن تغير الكون والأحداث والثقافات كان هو الحَكَم والمهيمن على الطرفين معا، فإخوان من أطاع الله كانوا يريدون إعلان الخلافة في الحجاز بعد موتها في اسطنبول في العشرينات فحدثت الحرب بينهم وبين الملك عبدالعزيز، وشيوخ الوهابية كانوا يضغطون على الملك فيصل لتحديد علاقاته وفقا لفتاويهم ومواقفهم الدينية من الحرب الباردة وأطرافها، وبالتالي عرفنا أن صيرورة العالم وتغيره كان هو الحَكَم في رؤية هؤلاء ومحفزا على اتخاذ الشيوخ بعض المواقف المعتدلة أو التي رفضوها في السابق، وبسؤال عقلاني بسيط نسأل: ما الذي تغير على شريعة الشيوخ بعد تلك الأحداث؟..وهل ما عادوا عنه كان شريعة وما قالوا لاحقا كان شريعة؟..فإذا أراد أحدهم معرفة أي شريعة هي الحق فماذا سيأخذ..هل السابقة أم اللاحقة؟

سنجد في المقابل أن ما يسميه الشيوخ "بالقانون الوضعي" هو متغير ومرن جدا بحيث يسهل تغييره مع كل طارئ أو حدث كبير أو رؤية مدروسة وعلمية من ذوي القرار يرون فيها أن الصالح العام يفرض عليهم..كذا وكذا، وذلك مرده إلى عدم قدسية القانون في نفوس هؤلاء وقبولهم مراجعة أي دستور إذا لم يعد يتوافق مع صالح الأمة العام، بينما شريعة الشيوخ لا تتصف بهذه الأوصاف وتعاني من جمود حاد وركود عابر للزمن مما يعني أن تطبيقها إما سيثير مشكلات حول المصلحة العامة وجدوى تلك الشريعة، أو سيعزل الدول عن محيطها الاجتماعي وعن العالم كله..

أصبح لدينا خيارا واحدا عند الشيوخ هو اعتبار أن الشريعة "هدف بذاتها" يكفي لتطبيقه أن ينهض المسلمون ، وهنا تغاضوا عن فكرة الشرع أو القانون وأسبابه التاريخية، فكل القوانين دون استثناء هي وسيلة للعدل..وليست عدلا في ذاتها، مما يعني أنها مجرد طريق يعبر به الإنسان للفضيلة والبقاء فإذا ما أدت تلك الشريعة للانحراف الأخلاقي أو الفكري أو هددت مصير الإنسان أصبح تغييرها واجبا، والغريب أن تراث المسلمين يعج بأحداث وقرارات من الخلفاء تنازلوا عن بعض جوانب تلك الشريعة في سبيل البقاء والعدل كما فعل الصحابي "عمر بن الخطاب" واشتهر بذلك ، مما يؤكد فكرة أن الشريعة وسيلة وليست غاية، وكل وسيلة قابلة للنظر ما دامت لا تصلح، فأنت عندما تسير في طريق ممهد تحتاج لسيارة أو درّاجة مثلا..فإذا ما رأيت أن الطريق لا يصلح فيه السير بدرّاجة وأن استعمالها يؤدي لحوادث أصبحت السيارة فرض عين..لأنها وسيلة وليست غاية ...

أعود لبند آخر من بنود الشريعة (غاية في الغباء) هو "الجزية" فحسب القرآن الجزية هي غرامة مالية تؤخذ من المهزوم في الحرب، وبحسب هذا السياق القرآني نجد لها سياق تاريخي موافق تماما هو أن كل الدول القديمة كانت تفرض الجزية على "الجيوش" التي هزمتها، مما يعني أن هذه غرامة مالية اجتماعية في الأخير لا زالت تمارس بأشكال أخرى كما أجبرت أمريكا العراق على دفع أموال لها نظير غزوها وتعويضها عن السلاح والأرواح التي فقدت من أجل تخليصها من نظام صدام حسين، فما فعله جورج بوش في الحقيقة هو عين الجزية المدفوعة قديما لكنه هنا كان يجنيها من "الشعب كله" ومن خزائن العراق النفطية تحت دعاوى أكثر تمدنا تحت مسمى "تكاليف وتعويضات" لا كونها غرامة مالية يدفعها "الجيش فقط"

الشيوخ هنا عندما أرادوا تضمين الجزية في الشريعة طبّقوا هذا المفهوم الأمريكي بتفسير الجزية "كغرامة مالية على الشعوب" وليست على "الجيوش" كما هو سائد قديما، فجعلوا شروطها تنطبق على كل ذكر بالغ عاقل حر، وبالتالي شروطها كانت تنطبق على مجتمع العبودية الذي كان الرق حائلا فقهيا أمام دفع الجزية، وبالتالي عندما يطبقون الجزية الآن سيأخذونها كغرامة مالية من الذكور جميعا..مجند أو غير مجند، فعندما أبطلنا وأبطل العقلاء هذا المفهوم لديهم وأعدناهم لمفهوم الجزية القرآني والتاريخي قالوا أنها كانت تدفع نظير الإعفاء من الجندية..وهذا تدليس، لأن ما كان يدفعه غير المسلمين من أموال نظير الإعفاء من الجندية كان يدفعه المسلمون أيضا "كبديل نقدي" لعدم التجنيد بقانون سيادي من الخديوي توفيق سنة 1886م، وهذا كان سبب من أسباب جندية الفقراء فقط في عصر الأسرة العلوية المصرية.

عندما جاء عبدالناصر ألغى هذا القانون سنة 1955 وأعاد حق الجندية للجميع بمبدأ أن "الجندية شرف وطني" لا "سلوك طبقي" يعفى منه الأثرياء، وكان من نتيجة هذا القانون الناصري أن تساوى الفقراء والأغنياء في الجندية، وأصبح إبن البواب زميلا لإبن الوزير في الجيش..وهذه كانت وتظل من حسنات العهد الناصري في المساواه بالعموم الذي قضى على فكرة دفع الأموال نظير الإعفاء من الجندية، والذي كان يطبق أيضا على غير المسلمين نظير الإعفاء ولكن تحت مسمى الجزية بتحريف سياسي لمفهوم الجزية القرآني، مما يؤكد أن تحريف معنى الجزية كان قديما وورثه الشيوخ خصوصا في العصر العثماني وأفتوا به على المنابر دون وعيٍ منه بالسياق التاريخي لتطبيقه.

هنا معنى أن الشريعة "اجتهاد بشري" يقبل منه ويرد، ففي الحقيقة لا يرد الحداثيون شريعة الفقهاء بالمجمل بل يردون فقط ما ارتبط منها بدول بائدة وتشريعات قديمة زائلة كان يتعارف عليها الأسلاف كعُرف، ومن ذلك موقف البشرية القديم من المرأة..لقد ورثه الشيوخ في الشريعة برغم أنه كان عُرفا قديما لم يسلم منه أي شعب حتى تأثر به بعض فلاسفة الحداثة نفسهم، بيد أن الموقف الإنساني من المرأة تغير بعد تطور رؤية البشرية لحقوق الإنسان..أما أمور كحق الجار والضيف واليتيم والضعيف..إلخ لا يختلف عليها أحد وينصفها القانون الوضعي كقانون الشريعة بالضبط أو أفضل بحكم اطلاع المشرعين على كافة الفلسفات والأحكام المعاصرة في تصور مصلحة الإنسان.

وعليه فالشريعة الإسلامية التي يقصدها الفقهاء هي خيارا غبيا فوضويا لا يمكن أن يكون في مصلحة الناس ، وهذا خلاف مقصد الشرع الإسلامي الذي أقره الفقهاء أنفسهم بالمقاصد الخمسة، وسبق الذكر وتحليل كيف أن مواقف الشيوخ ومذاهبهم الفقهية شديدة التعارض خصوصا ما تعرض منها للحداثة ومظاهرها، فالسمت العام للشريعة هو الخصومة مع الحداثة ورفض كل جديد..وهذا مفهوم تاريخيا بحكم ظهور مصطلح الشريعة المعاصر كرد فعل على ظهور الحداثيين وأفكارهم، وتبلوره في مجتمعات مغلقة كالسعودية الذي صُدّر منها للعالم أجمع تحت مسمى الإسلام، وفي الحقيقة ليس هذا هو الإسلام الذي فهمه الأنبياء على الأقل وسطر في كتبهم المقدسة بل هو تدخل غير عاقل وغير حكيم من بشر لا ينظرون أبعد من تحت قدميهم..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س