الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نصف الدخان

مظهر محمد صالح

2020 / 4 / 6
الادب والفن


نصف الدخان
مظهر محمد صالح
في واحدة من اكثر احياء بغداد جمالاً وارستقراطية ودهشة . تجد نفسك وانت في ازمنة بدايات النصف الثاني من القرن العشرين في تلافيف حي سكني من بغداد ظل يسمى بحي نجيب باشا وانت تتطلع الى غابة سكنية اثقلها سعف النخيل الاخضر .ففي تلك العقود الممتدة من الزمن كان لابد لك من ان تمرق بين ثنايا جنينة صغيرة توسطت الحي المذكور وبتناسق معماري دقيق وانت تسير مدفوعاً برغبة تتسائل فيها عن مكان حديقة شيدت في عصر رجل سمي بامين العاصمة وقت ذاك وتميز بطباع اتسمت بالقوة والشكيمة والارادة كما روي عنه .فقد سعى ذلك الامين الى تخليد ذوقه الرفيع باقامته لتلك الحديقة الغناء وسميت بام الربعين تيمناً برمزيات الربيع في نينوى وعاصمتها ام الربعين . كانت الحديقة اشبه ما بجنة صغيرة مستطيلة الشكل تحيطها الاشجار الباسقة وتتخلها ازهار تنمو وتزدهر وتطول دون استحياء بمواسمها وفصولها الاربعة لتضفي بالوانها أفق غابة متواصلة الازدهار اسمها الجمال .ظلت ام الربيعين محمية بسياج قليل الارتفاع لكنها لم تخل من حراسة وعناد رجل بستاني كبير السن قوي المنكبين شديد الحرص على رعايتها .فقد علمته الحياة كيف يضرب في الارض لتنتج خيراً، بعد ان تعلق هو قبل غيره عشقا بنباتاتها وارضها وتنظيم سقيها وتناسق اشجارها .كانت ام الربعين في مطالع ستينيات القرن الماضي المكان المثالي الذي لم اتردد في زيارته ، حيث توافرت فيها كل مناخات الطبيعة الزاهية لحث القدرة العقلية على تحريك دواليب الحفظ السريع نثراً وشعراً لاغراض مدرسية تتعلق بمادة اللغة العربية وبجاذبية عالية .فما كان عليّ الا ان اقصد ام الربعين تكرارا ومراراً خلال العام الواحد كي انتفع من الحيز المثالي الطبيعي المعظم لقدرات الذاكرةفي تلقي جماليات الادب بتفاصيله وعبراته .فتتناسق الكلمات والمعاني اللغوية وبارادة ومقدرة نادرة لتتحول بادوات الجمال ومعاوله العاطفية الى طاقة متدفقة مسرعة نحو دروب الذاكرة المعرفية ،لتخلد فيها بيقظة عالية دون اغتراب او خوف .وهكذا ادركت ان في رفوف ذاكرتي العالية معمل متكامل تتناسق فيه دواليب الكلمات وتنهض فيه المعاني وهي تستعرض زهو جنينتنا وتاثير جمال لونها دون ان تحمل ذيول الخواء او الهزيمة وهي في طريقها منتصرة الى معاقل الذاكرة ومكنونات الجميل في عمق الادب العربي . مضت اربعون عاما ونيف ليتيح لي القدر المرور عبر ازقة سكنية تحولت معالمها الى طرازات باهتة وتبدل رونقها وضاعت معماريتها لاجد نفسي قد توغلت حقاً في مكان من مدينتنا امسى خالياً من بساتينه واختفت بيوتاته وازيلت قصوره وفقد الكثير من الوانه....! قال لي صديقي الذي رافقني اتتذكر ايها الرجل هذا الحي الارستقراطي ...فاين نحن منه الان ؟؟قلت له حقيقة لا ادري ، قال لي استفز ذاكرتك لعلها تستجيب ؟الا ان ذاكرتي ونشاطها العقلي قد تحجر من دون حراك وربما فقد طعمه بعد ان غاب اللون عنه !!قلت له ياصديقي لايوجد شي هنا يستحق الذكرى بعد ان بدى المكان خالياً تماماً و تجرد من ذكريات الماضي الجميل .... !! قال اذن ساخبرك ان هذه الفسحة القاحلة الكبيرة التي هي امامك وتعج بنصف الدخان بعد ان غادرت النار نصف نفاياتها المحترقة ..هي من اضلت تلابيب عقلك وانست ذاكرتك وافقدتها عضلات قوتها !!! قلت ما اسم هذا القاحلة ...ايها الرجل ؟قال وبحزن عميق انها جنينة ام الربيعين.!!.هنا ضاقت انفاسي وتجمدت ابيات الشعر والنثر كلها وتوقفت محركات الادب وعوامله كله في ثنايا ذاكرتي وتعارجها التي اضطربت حزنا وخجلاً. ثم سكنت الابيات والسطور النثرية واستئذنتني وبصمت مطبق ،لتغادر ذاكرتي جميعها بيتاً بيتاً وسطرا سطرا بعد ان توشحت حزنا وخجلا على جنينة مسحت من ذكريات الحياة وفقدت اي لون اخضر فيها وتحولت الى مكب داكن للنفايات في صحارى مدينتا القاحلة .
ختاماً،فاذا رحم الله امين بغداد بام الربيعين فمن يرحم ذاكرتي التي غادرتها اسطر الجمال وهرب الجميل منها الى زمن غامض بات اثقل من الذنوب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج